إن الهم المركزي لهذه المقالات كما قلنا هو التفكير في كيفية الخروج من دائرة التكرار والاجترار والتقليد والنقل، إلى زمن الإبداع الفكري والفلسفي والعلمي. وهذا يتطلب منا الوعي بالخصوصية والكونية في الخطاب الفكري المتداول في العالم اليوم، لنستعيد المبادرة ونفتح المجال للإبداع، لأننا ما لم ندرك حدود ما هو كوني، وما هو محلي أو خصوصي، فلن نستطيع الإبداع، وسنبقى مقلدة لغيرنا.
إن الخصوصية والكونية لازمتان للخطاب الفلسفي والفكري والثقافي اليوم، ليستعيد فكرنا دوره في الإبداع والتواصل؛ الإبداع في الإجابة عن الأسئلة الملحّة في سياقها العربي الإسلامي، والتواصل مع الخطابات الفلسفية والفكرية والثقافية الأخرى، باعتبار أن مرحلة العولمة تفرض تواصلا.
فالخصوصية اشتغال على افتكاك الاعتراف من الآخر على أن لنا نصيبا فلسفيا وفكريا ينبغي لغيرنا أن يُقِر بخصوصية هذا النصيب الفكري والفلسفي؛ بمعنى آخر، أننا نحتاج إلى الاعتراف بالحاجة إلى إيجاد فكر نتميز به عن غيرنا “لا تَمَيُّز الانقطاع، ولكن تَمَيُّز التكميل والاغناء” (بن لحسن، نحو فلسفة إسلامية معاصرة، 2016)، ليندرج خطابنا الفكري في سياق كونية إنسانية.
وهذا يقتضي منا الوعي بأننا نستطيع أن نفكر في قضايانا ونتفلسف فيها على مقتضى خصائص ذواتنا، وأن نستمد أفكارنا من مقومات مجالنا التداولي الإسلامي (عبد الرحمن، تجديد المنهج)، وأن نضع لنا فكرا وفلسفة نابعين من تراثنا وواقعنا، لا ما يُقرره غيرنا لنا. وهذا في جوهره مناقض لكثير من الأطروحات الفلسفية العربية الحديثة والمعاصرة، بل وحتى بعض القديمة؛ التي ترى أن لا مندوحة من الاندراج في السائد الغالب من الخطاب الفكري والخطاب الفلسفي المهيمن، سواء أكان في شكله الإغريقي الغابر أو في شكله الغربي الحداثي وما بعد الحداثي (عبد الرحمن، روح الحداثة، 2006).
بعبارة أخرى، فإن الموقف الفلسفي والفكري من قضايا العصر ليس أمرا معزولا عن سياقه الحضاري، وليست الفلسفة والفكر مجرد تفكير بلا زمان ولا مكان ولا انتماء حضاري وثقافي، بل الفلسفة والفكر نظام فكري ينشأ في عصر، ويقوم به جيل، ويخدم مجتمعاً، ويعبر عن حضارة… هذا الوضع هو الذي يدعونا إلى التفكير في علاقة الفلسفة والفكر بالموقف الحضاري لجيل محدد هو جيلنا. فهناك أبنية ذهنية ونفسية واجتماعية تظهر في كل عصر ولا يمكن تعميمها إلا بقدر عموم النفس الإنسانية وإطلاق العقل البشري. وهو في الحقيقة عموم لا يأتي إلا بعد خصوص (حنفي، موقفنا الحضاري، 1987).
ولذلك فإن معالجة مثل موضوع الصلة بين الدين والعلم في الأوساط الفكرية والفلسفية اتسم بهيمنة خطاب الحداثة، كما اتسم بالجمود أمام خطابها المهيمن. فوضعنا أنفسنا غالبا ضمن مقولاتها بوجوب الاندماج الكلي في العصر الفلسفي على مقتضى ما قرره الغير في التفلسف (عبد الرحمن، الحق العربي، 2002)، وصار المفكرون والمتفلسفة المسلمون عموما والعرب خصوصا تحت تأثير الخطاب الفلسفي للحداثة وما بعد الحداثة، فصاروا يخوضون في نفس المسالك الفكرية على نفس الأشكال المنهجية السائدة.
ولا بد من سبيل إلى الخروج من هذا التقليد الذي لا يوضح ما استشكل علينا من أمر العلاقة بين العلم والدين، ولا يرفع ما استغلق علينا بصددها، بل ينقل إلينا ما يزيد هذا الأمر استشكالاً واستغلاقا؟ ولكي نبدع في الإجابة عن هذه العلاقة، نحتاج أن تجاوز الاختزال الذي وقع فيه الغرب ومن نقل عنهم، وذلك بأن نخرج من “اختزال العلم في علوم الطبيعة”، ومن “اختزال الدين في أحوال الإيمان” (عبد الرحمن، روح الحداثة، مرجع سابق).
وللخروج من ضيق الرؤية الحداثية للصلة بين الدين والعلم، وتهافت خطابها، علينا -كما يقول الدكتور طه عبد الرحمن – بالخروج من التقليد لها، ورفض الاختزال المزدوج؛ رفض اختزال مفهوم ومجال العلم في العلوم الطبيعية، ورفض اختزال الدين في الأحوال الايمانية الصرفة كما هي في الموروث المسيحي.
وهذا يجعلنا قادرين على بناء وتحديد العلاقة بين الدين والعلم بطريقة إبداعية، حيث تقوم هذه العلاقة على توسيع مفهوم العلم إعمالاً لمبدأ “مراتب العقل”، فيتجاوز تضييقات المفهوم الغربي للعلم. وتقوم أيضا على توسيع مفهوم الدين إعمالاً لمبدأ “تعدد شعب الحياة”، كما جاء في الحديث الذي أخرجه الإمام مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي ﷺ قال: “الإيمان بضع وسبعون أو بضع وستون شعبة، فأفضلها قول: لا إله إلا الله، وأدناها إماطة الأذى عن الطريق، والحياء شعبة من الإيمان” (صحيح مسلم)، للخروج من ضيق المفهوم الغربي المنقول إلينا تقليداً كما يقول طه عبد الرحمن (طه عبد الرحمن، كيف نفكر، 2007).
ولعل في المقالات المقبلة تفصيل أكثر في سبيل الخروج من هذا الضيق، وذكر لنماذج تاريخية من حضارتنا الإسلامية، يتمثل فيها كيف أنجز أجدادنا تجربتهم في بناء نموذج للعلاقة التكاملية بين الدين والعلم، والخروج من جور الأديان إلى عدل الإسلام، ومن ضيق الدنيا إلى سعة الدنيا والآخرة، ومن عبادة العباد في أشخاصهم وأفكارهم وتحريفاتهم إلى عبادة الله الذي له الخلق والأمر، فلا تتناقض سننه في الكتاب مع سننه في الآفاق والأنفس والتاريخ.