لا نصّ سوى الطرس، وتاريخ الكتاب هو مسيرة المحو! وبين أن تنقدح الفكرة في ذهن المؤلف، وحتى يبتدئ القارئ في قراءتها؛ صيرورة لا متناهية من التغير، حتى ليمكن القول إنّه لا يمكن بحال أن يقرأ القارئ ما فكّر فيه المؤلّف أول مرّة. هذه هي معضلة الكتابة الأبدية: المحو!

 

وإذا كان المحو هو الكتابة على وجه التحقيق، فما الغاية من النظر إلى تراصّ الكلمات فيما يعرف عندنا بالنصّ؟! لا يقول الطرس الأخير أكثر مما يبوح به الطرس السابق عليه، وكلّما تعددت الأطراس كان ذلك إيذانا بثراء القول.

من هنا ربما يصح التساؤل، أبدا، عن: ما الذي نقرأه في الكتاب؟ هل هي فكرة المؤلّف كما انقدحت شرارة في ذهنه؟ أم تعبيره عنها دفعة واحدة مشحونة على هيئة الشعر مثلا؟ أم تجويده لها عبر اختيار الكلمات والأساليب لها؟ هل نقرأ نسخة المؤلف الورقية الأولى؟ أم تلك التي عدّلها لضرورات النشر، ومراعاة الشرط التاريخي؟ هل نقرأ النسخة التي دققها المراجعون، وأجازها المحكّمون؟ أم تلك التي طبعت بأغلاط كتابية استلزمت “طبعة جديدة منقحة”؟ هل نقرأ الكتاب بلغته الأصلية؟ أم عبر حجاب الترجمة؟ وما الذي يضيفه ردف الكتبة؛ المترجمون، والمحققون، وأصحاب التحشية والاحمرار، على طرس الكتاب الأول!

الذي يتتبع مسيرة الكتاب يعلم أنّه لم يكن في أي مرحلة من مراحله خالصا لمؤلفه. منذ أن يمسك الكاتب قلمه ليخطّ به ما يفكّر فيه، يفقد القدرة على امتلاك ما يكتب، وإذا كان الدرس الأدبي قد أعلى من سلطة القارئ على النص، فإنني أعتقد أنّ موت المؤلف موقف تشترطه الكتابة أساسا! يموت المؤلف باستهلال الطرس الأول.

ويولد مؤلفون، كثر، بكثرة الأطراس حتى تنتهي إلى يد القارئ. فقليلا على تأويل القارئ، لأنّ الهيمنة على النص، واحتكار فهمه، يبتدئ باكرا، منذ خروج الصوت إلى عالم الحرف.

على أنني أرغب بالتوقف، في هذا المقال، عند لحظة من لحظات احتكار المعنى، لحظة هي من جهة شديدة الصلة بالسياق العربي، وهي من جهة أخرى شديدة الأثر على النصّ ذاته؛ لحظة “التحقيق”.

ليس كلّ الأطراس سواء، بعضها أنفذ من بعض في محو ما سبقه، ولعلّ طرس الترجمة وطرس التحقيق، أشد هذه الأطراس وأنفذها، فالمحقق والمترجم يقومان بالسيطرة على النص، لدرجة أنّه في أحايين كثيرة نرجع بالفضل في العمل إلى المترجم والمحقق أكثر من صاحب التأليف الأول.

الوعي بالتغيير الذي سيلحق كلام الكاتب الأصلي، والتداخل الذي يقع بين الكاتب والمحقق ضروري للكشف عن صراع الهيمنة على المعنى، الصراع الذي يعيدنا مرّة أخرى للقول بأنّ إحياء التراث العربي كان عمليّة تأويلية أكثر مما هو موقف منهجي من التراث، بمعنى أنّ ما يحكم هذه العملية ليس شيئا آخر سوى التدافع الأيديولوجي، ومنطق السوق الذي لا يغيب.

غير أنّه ليس “كلّ العيون سواء”، والمحققون وإن كانوا نوعا واحدا فثمة فروق كثيرة بينهم في الدرجة. كنت قريبا أقرأ في كتاب “التدبيرات الإلهية في إصلاح المملكة الإنسانية” لابن عربي، وقد تعوّدت على أنّه كلّما كبرت الألقاب في غلاف الكتاب كلّما قلّت جودة العمل داخله، ويرحم الله البشير، كان إذا وقّع على مقالة له كتب تحتها: محمد البشير الإبراهيمي، هكذا حافيا دون إضافات.

على غلاف الكتاب ظهر أنّ المحقق “الشيخ الدكتور عاصم إبراهيم الكياني الحسيني الشاذلي الدرقاوي”، وكتب على غلاف الكتاب “طبعة جديدة منقحة ومصححة”. كنت أعلم سابقا أن طبعات دار الكتب العلمية ليست علمية في غالبها، ولكن أن تجد محققا يمارس المحو والكتابة على النص الأصلي للمؤلف، هكذا دون اعتبار، فهذا أمر جديد.

لو قرأ القارئ هامش الكتاب لوجد أنّ أهم تعليق فيه هو ذلك الذي يقول: “ما بين حاصرتين ضرورة يقتضيها السياق”. لا أدري كم أعادها المحقق من مرّة، ولكنّها كثيرة، جدا. سأضع هاهنا نقلين لبيان كيف أنّ التحقيق ينزع بصاحبه إلى الاستيلاء على النص، إلى تملّكه، إلى إعادة إنتاجه وفق شروط جديدة.

جاء في الصحيفة الخامسة من كلام ابن عربي: “وحجبه عن سرّه بما هو أخفى وستره، حكمة بالغة لمن دقق النظر فيه واعتبره، ثم تجلّى له في حضرة الاقتداء فبهره، ]فأجفل هاربا من نيران الهيبة فضمّه وقهره، وغمسه غمسةً في البحر الأخضر من غير أن يُشعره، فإذا سرّ القدرة الإلهية قد مازجت بشره، ثم كشف له عن حضرة الديمومية فحقق بها عمره، وردّه رداء الحياة الأبدية دون كون ضمّه ولا أمد حصره …ثمّ أبدع له العقل وزيرا فاستوزره، ووهبه سرّ الخطاب في نار الشجرة، وأعطاه عصا إعجازه فأهلك بها الخواطر السحرة، ثمّ خوّفه قسطاس الانقسام وحذّره.” وكما هو واضح من المقطع، ثلاثة تدخّلات لا شيء يوجبها: لا سقط في النص الأصلي، ولا اشتباه لسوء الفهم، ولا سياق يوجب ما يضيفه مثلما يدّعي، مع أنّ كلّ ما سبق لا يبيح إضافة شيء ما على المتن.

غير أنّ هذا ليس كافيا، بل يتوجّه بالتدخّل فيما يسكت عنه ابن عربي كذلك. والسكوت كما تقدّمه الدراسات الأدبية المعاصرة نوع جديد من القول، فما يسكت عنه الكاتب يعتبر بأهمية ما يصرّح به.

وحين تطرّق ابن عربي لشروط الإمامة، أسقط شرح شرط العقل، وهذا الإسقاط مهمّ بالنسبة لي، لأنه “قد” ينطوي على موقف لابن عربي من العقل شرطا للإمامة، وهو موقف يمكن استثماره في رؤية الشيخ الأكبر لتدبير المدينة. غير أنّ محققنا يختار أن يقوم بشيء آخر، يضيف ثلاثة أسطر في شرح شرط العقل، في الصحيفة 38، ويضع تهميشا بأن ذلك “ضرورة يقتضيها السياق”.

ليس هذا المحقق سوى أنموذج حسن لما أتطلّع لقوله، ثمّة حاجّة ماسّة لتجاوز النظرة البريئة لموقف “تحقيق” الكتاب. أين ابن عربي في النصّ السابق؟ ومنه فأين كلّ مؤلف في مساهمة أي محقق؟! سيكون له وجود بالطبع، لكنّه وجود متجاوز، وجود تنهكه الهوامش وعلامات الترقيم، والمقدّمات الطويلة. في الكتب التراثية المحققة يكون الدخول على النص أكثر صعوبة دوما، لأنّك ستبذل جهدا مضاعفا، مئات المرات، للوصول إلى طرس المؤلف الأوّلي، أكثر مما تبذله وأنت تقرأ منشورا على الفيسبوك.

هيمنة المحقق على النصّ هيمنة من نوع آخر، هيمنة تقوم على طمس الآبار حتى لا يتمكن القارئ من شرب ماء عذب سوى ذلك الذي يعرضه المحقق، استراتيجية تقوم على موقف خفي يرى القارئ أو الكاتب عدوّا، لا فرق.

وهل يمكن الخروج من هذه الهيمنة؟ أوليست كلّ علاقة بالنص علاقة هيمنة؟ أولستُ أنا هنا أدعو لفكّ هيمنة المحقق على الكتاب حتى يتاح لآخرين أن يحتكروا فهمه؟! ربما! غير أنّ ما يبقى في النهاية هو ضرورة الوعي بأنّنا أبعد من أن نقف على ما ينقدح في الذهن أول مرّة، وربما هذا هو السبب الذي يجعل الكتابة أمرا ممكنا في النهاية، فعلى الرغم من أنّ الجميع يقول كلّ شيء، إلا أنّ ما ينقدح في الذهن يستمر أبدا!