تقوى الله ومخافته من أهم عناصر الإيمان ومطالبه. وعلى المؤمن أن يعبد الله تعالى بين الخوف والرجاء، فيكون وسط بين الطمع فيما عند الله من أجر وثواب، والخوف من ناره وعذابه. فتتعادل المعادلة التي تتوازن بها كفتّي الميزان، ويتمكن بها المسلم من الحفاظ على سيره على عبادة الله بتوازن في الطريق المستقيم الذي يقوده إلى جنة الله ورضوانه بأمان ويسر.
وقد أمرنا الله تعالى بعبادته تضرعاً وخفية في قوله تعالى: (ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ)[1]. فالمؤمن لا يزال خائفاً من عذاب الله، وإن فعل ما فعل من عبادات. فليس هناك أمان من سخطه، ولا ضمان لجنته، ولا يأمن من مكر الله إلا القوم الكافرون. وكذلك لا ينقطع رجاءه من رحمته وإن فعل ما فعل من الذنوب. وذلك لعلمه بصفات الله وأفعاله، وأنه تعالى عفوٌ غفورٌ، وأن رحمته وسعت كل شيء، وأنه يغفر مع التوحيد والتوبة كل الذنوب بإذنه تعالى. قال تعالى: (إِنَّهُ لَا يَيْأَسُ مِن رَّوْحِ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ)[2]. وجاء في الحديث الشريف: (قدم على رسول الله ﷺ بسبي فإذا امرأة من السبي، تبتغي، إذا وجدت صبيا في السبي، أخذته فألصقته ببطنها وارضعته، فقال لنا رسول الله ﷺ: أترون هذه المرأة طارحة ولدها في النار؟ قلنا: لا، والله وهي تقدر على ألا تطرحه، فقال رسول الله ﷺ: لله أرحم بعباده من هذه بولدها). والله تعالى رحيم بعباده المؤمنين وقد يسر لهم سبل الهدايا وجنى الحسنات وتكفير الذنوب.
فجعل العمل القليل من الطاعة يمحو أضعافه من المعصية. كما جاء في الحديث القدسي: (من جاء بالحسنة فله عشر أمثالها وأزيد، ومن جاء بالسيئة فجزاؤه سيئة مثلها، أو أغفر ومن تقرب مني شبرا تقربت منه ذراعا، ومن تقرب مني ذراعا تقربت منه باعا، ومن أتاني يمشي أتيته هرولة، ومن لقيني بقراب الارض خطيئة لا يشرك بي شيئا لقيته بمثلها مغفرة).
وبعد ذلك فإن الله يرسل الإشارات والنذر والمصائب التي يبتلي بها العبد ليتوب ويرجع إلى طريق الحق والهداية. وكما أن المؤمن ينظر إلى ألطاف الله ويحسن ظنه بربه، فهو أيضا لا ينسى الوعد والوعيد، ولا يثنيه حسن الظن عن العمل. بل حسن الظن يشجعه عليه لأنه يزيده يقينا وتصديقا بوعد الله ووعيده، فيجِّد في أمره. والله تبارك وتعالى ينظر لقلوب العباد التي تنتهي بها النهايات والعبرة بالخواتيم. والأفضل للعبد في حياته تقوية جانب الخوف على الرجاء، وعند قرب أجله وقبل الموت فليقدم الرجاء على الخوف. وقد أشار بذلك ابن القيم وبعض السلف.
وهو مأخوذ من وصية رسول الله ﷺ بحسن الظن بالله عند الموت في الحديث: (لا يموتن أحدكم إلا وهو يحسن الظن بالله عز وجل)[3]. وكذلك للتحذير من سوء الظن بالله تعالى عند الموت حين ينقطع عمل العبد، فيكون حرى به أن يحسن الظن بالله وبأنه سيرحمه.
وأما الخوف من الله فهو الجانب الآخر من إيمان المؤمن. وهو أهم للعبد طيلة حياته على وجه الارض. فهو السياط الذي يسوق به نفسه ويروِّضها لطاعة الله. وهو الحبل الذي يتمسك به في ظلمات الفتن وإغراءات الدنيا ومحاسنها. فخوفه من ربه ينهاه عن اتباع الشهوات. وأما الغافل فقد حُرم من الخوف وما يجلبه للمؤمن من فوائد والتي من أهمها: تقوية الإيمان والصبر على الطاعة والإجتهاد في أمر الآخرة. والخوف في الدنيا أهم من الرجاء وذلك لأن دخول النار مؤلم جدا للعبد بخلاف عدم دخول الجنة فهو ليس مؤلم وإن كان مؤسف بلا شك. بمعنى آخر أن كل الناس البر والفاجر يخاف النار، ولكن لا يطمع في الجنة الا القلة المؤمنة.
وآيات التخويف كثيرة جدا في القرآن، ومنها ما تحدث عن أهوال القيامة وسكرات الموت، والبعث، والحساب، والميزان. وأما أشدها رعبا وموعظة فهو وصف النار الذي تستيقظ به البصائر وتقشعر به الأبدان. فتفزع القلوب من مرقدها وجلة وخاشعة تطلب العفو السماح من الله وتقوم الليل ساهرة ودامعة الأعين فتغسل بها الذنوب والآثام. فتنال بذلك رضا الله وعفوه وغفرانه.
قال تعالى: (وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى * فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى)[4]. وجاء في الصحيحين: (ينزل الله إلى السماء الدنيا كل ليلة حين يمضي ثلث الليل الأول، فيقول: أنا الملك، أنا الملك، من ذا الذي يدعوني فأستجيب له، من ذا الذي يسألني فأعطيه، من ذا الذي يستغفرني فأغفر له، فلا يزال كذلك حتى يضيء الفجر)[5].
وأما الكافر فهو يائس من رحمة الله، فهو لا يخافه ولا يصدق بوجوده أو تحقيق عقابه … ولا يبالي به. وهو أساء الظن بالله وكذب بقدرته ووعيده، فأرداه ذلك الظن إلى النار. قال تعالى: (وَذَٰلِكُمْ ظَنُّكُمُ ٱلَّذِى ظَنَنتُم بِرَبِّكُمْ أَرْدَاكُمْ فَأَصْبَحْتُم مِّنَ ٱلْخَٰسِرِينَ)[6]. ذكر فيها ابن كثير أن الحسن قال: “إنما عمل الناس على قدر ظنونهم بربهم؛ فأما المؤمن فأحسن بالله الظن؛ فأحسن العمل؛ وأما الكافر والمنافق؛ فأساءا الظن فأساءا العمل[7]. وأما المؤمن فقد صدَّق بالله وآمن بأنه ملاقيه وأن الجنة حق والنار حق … فجد واجتهد في الأمر … وتاب عن ذنوبه وكفر … وأكثر من عمل الصالحات … فنال رضاء الله وثوابه وجنته.
قال تعالى: (فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلَاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا * إِلَّا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَأُولَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلَا يُظْلَمُونَ شَيْئًا * جَنَّاتِ عَدْنٍ الَّتِي وَعَدَ الرَّحْمَنُ عِبَادَهُ بِالْغَيْبِ إِنَّهُ كَانَ وَعْدُهُ مَأْتِيًّا * لَا يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْوًا إِلَّا سَلَامًا وَلَهُمْ رِزْقُهُمْ فِيهَا بُكْرَةً وَعَشِيًّا * تِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي نُورِثُ مِنْ عِبَادِنَا مَنْ كَانَ تَقِيًّا)[8]. فياله من فوز عظيم ناله من خاف ربه وتاب وأناب … وصبر على طاعة الله وعن معصيته وجد في الأمر ففاز ونال ثواب دائم لا ينقطع، لا يسمعون فيها لغوا ولا تأثيما إلا قيلا سلما سلاما … فلا لغط ولا نقد ولا تأنيب ولا شجار ولا فحش في القول ولا ظلم ولا فقر ولا مرض ولا بكاء ولا ألم ولا حاجة ولا خوف … بل نعيم مقيم وسلام دائم وقرة عين لا تنقطع … نسأل الله أن نكون جميعا من الفائزين … إنه ولي ذلك والقادر عليه.