إبراهيم الخولي عالم من القلة التي لا تبيع معتقداتها، ولا تفرط في مبادئها، ولا تخشى في الله لومة لائم. عاش متحررا من زخارف الدنيا ومتاعها من أجل الإسلام والمسلمين، ولم يتقوقع داخل أروقة الجامعة التي يعمل بها، أو ينعزل عن المجتمع المسلم وقضاياه، بل خاض غمار المشكلات الصاخبة، مسلحا بالعلم والمعرفة والحجة الواضحة، دفاعا عن قيم الأمة وترسيخا لمبادئها وأخلاقها وحضارتها.
ولد الأستاذ الدكتور إبراهيم الخولي، (14 مايو 1929م- 8 أبريل 2023م) في قرية القرشية مركز السنطة- محافظة الغربية، وحفظ القرآن الكريم في سن مبكرة، والتحق بمعهد دسوق الأزهري الابتدائي عام 1943، ثم التحق بمعهد طنطا الديني حيث نال شهادة الثانوية وكان ترتيبه الأول على طلاب الثانوية الأزهرية عام 1952.
رحلة في مدارج العلم والوظائف
وقد عُين بعد تخرجه 1956 مدرسا في التربية والتعليم بعد حصوله على دبلوم عام في التربية وعلم النفس سنة 1957 م، وقد حصل بعد سنوات قليلة، على دبلوم خاص في التربية سنة 1961 م. وعين معيدا بكلية اللغة العربية في جامعة الأزهر سنة 1968، وأحرز درجة التخصص (الماجستير) عام 1972 عن رسالته “مكان النحو من نظرية النظم عند عبد القاهر الجرجاني”، وعُيِّن مدرسًا مساعدا في العام نفسه. ونال درجة العالمية (الدكتوراه) عام 1978 عن رسالته “مقتضى الحال بين البلاغة القديمة والنقد الحديث” بمرتبة الشرف الأولى، وصار مدرسًا في قسم البلاغة والنقد بالكلية في العام ذاته. ثم رُقِّي إلى درجة أستاذ مساعد عام 1985، ودرجة أستاذ عام 1994.
عمل الدكتور إبراهيم الخولي -رحمه الله- أستاذًا زائرا بكلية التربية جامعة الملك عبد العزيز في المدينة المنورة عام 1980، ثم أُوفد إلى الجامعة الإسلامية بإسلام آباد (باكستان) من عام 1986 إلى 1988.
مؤلفات متميزة
وقد أثرى الدكتور إبراهيم الخولي المكتبة البلاغية والنقدية بعدد من المؤلفات، منها:
- مكان النحو من نظرية النظم عند عبد القاهر الجرجاني، (رسالته لدرجة التخصُّص (الماجستير).
- مقتضى الحال بين البلاغة القديمة والنقد الحديث، (رسالته لدرجة العالمية (الدكتوراه).
- منهج الإسلام في الحياة من الكتاب والسنّة.
- الجانب النفسي من التفكير البلاغي عند عبد القاهر الجرجاني.
- لزوميات أبي العلاء: رؤية بلاغية نقدية.
- التّكرار بلاغة (بضمّتين، وفتْحتين).
- السنّة بيانًا للقرآن.
- التعريض في القرآن الكريم.
- متشابه القرآن.
رؤية ممتدة كاشفة
ومع محدودية عدد مؤلفاته، فإنها تحمل رؤية ممتدة كاشفة تجعل من موضوعاتها وخاصة في المجال البلاغي النقدي متميزة وفائقة، إن لم نقل غير مسبوقة، وخاصة في كتابته عن “التكرار بلاغة”، فهذا الكتاب غايته وبغيته- كما يقول: الانتهاء في قضية التَكرار إلىَ كلمة فصل؛ تنهي النزاع حول ظاهرة أسلوبية؛ فاشِيَة في القرآن العظيم؛ تتصل ببلاغته، ويتصل الحديث عنها ببيانه وإعجازه!. وهنا: كان لزامًا علىَ هذا الكتاب: أن يقيم للتكرار محكمة عادلة؛ تنفي الزيف عن هُويته، وتُبين عن وضعيته الحقة: وسيلة بيانية؛ لها قدرها وخطرها بين فنون البيان، وفي هذا السياق طُرحت تساؤلات كبيرة عميقة؛ تُجلي جوانب القضية، وتحيط بها!.
كما أن عنوان الكتاب: (التكرار بلاغة) يحمل دلالتين: دلالة علىَ طبيعة البحث ووجهته؛ فهو بحث بلاغي نقدي في لبه وجوهره؛ وهذه الدلالة تنبثق عن العنوان متىَ قرئ هكذا: (التكرار بلاغةً) بنصب كلمة (بلاغة)، ودلالة ثانية علىَ ما لهذا الأسلوب من قيمة بيانية فنية؛ وهذه تنبثق عن العنوان إذا قرئ برفع كلمة (بلاغةٌ) علىَ أنها خبر، و(التكرار) مبتدأ!. بهذا الضبط المزدوج: يوحي العنوان- منذ البداية- بجهة البحث؛ وحيثيته، ويوحي- منذ البداية كذلك- بموقف ورؤية للتكرار؛ يُنحيان عنه المواقف والرؤىَ الخاطئة؛ والمختلطة.. وبهـَـذا يحتل مكانته: فنًا بيانيًا أصيلًا، وأداة بلاغية مواتية؛ في مقامات ومواقف؛ لا يسعف فيها إلا التكرار!.
مشاركات فعالة
وقد شارك الخولي في عدد من المؤتمرات الإسلامية داخل مصر وخارجها، وكان عضوا في جبهة علماء الأزهر، وحضر كثيرا من الندوات الثقافية، وألقى بعض المحاضرات والخطب العامة، ورآه الناس على شاشة التلفزيون متحدثا ومناظرا في أكثر من مناسبة.
وقام في سياق نشاطه العام بإعداد وثيقة «البيان العالمي لحقوق الإنسان في الإسلام»، الذي أعلن في سبتمبر 1981 م، بمقر اليونسكو في باريس. وبعد عامين، نهض بوضع «مشروع دستور إسلامي» بالمشاركة مع المستشار حمدي عزام، نائب رئيس مجلة الدولة المصري، وأعلن عنه في إسلام آباد سنة 1983م، كما أعد أيضا وثيقة «بيان وحدة الأمة»، وأذيع في أحد المؤتمرات الإسلامية في إسلام آباد سنة 1988م.
فهم ناضج للكتاب والسنة
وللرجل آراء مهمة في مجال الدعوة والتشريع والفقه، ويؤسس هذه الآراء على فهمه الناضج للكتاب والسنة، ويرجع قصور بعض الدعاة إلى الظروف العامة التي تجعل بعضهم ينحرف عن المسار الطبيعي، ومن ذلك ما كتبه عام 2019م، وجاء فيه: السلطة في العالم العربي والإسلامي طغت على الدعوة ووجّهتها لا لأن تكون دعوة لله في كتابه وسنة رسوله، وإنما أصبحت أبواقا تسبّح بحمد هذا الحاكم أو ذاك، تمجّد هذا النظام أو ذاك، تدافع عن الباطل هنا أو هناك، هذه واحدة. هذا الطغيان أفسد كلّ شيء وسأضرب هنا مثلين، الشعبي والحسن البصري رضي الله عنهما، ابن هبيرة كان عاملا على العراق ليزيد بن عبد الملك تأتيه من الخليفة كتب فيها أوامر عليه أن ينفذها اقتل فلانا، صادر أموال فلان، حلق على اسمه في ديوان العطاء، وينفذ لأنه مأمور. استيقظ ضميره وأقلقه، فبدأ يستشير فدعا الحسن البصري والشعبي رضي الله عنهما، وبدأ يسألهما ليستريح قلبه وضميره، وجّه السؤال للحسن فقال له سل الشعبي أولا، قال الرجل يستفتي، تأتيني كتبٌ من الخليفة وفيها بعض ما فيها، أي فيها ما يخالف حكم الله بيّنًا صريحًا، وفيها بعض ما فيها ماذا أصنع؟ قال الشعبي يا ابن هبيرة إنك امرؤٌ مأمور فسدّد وقارب، سدّد وقارب، إمساك العصا من الوسط، لا يتحمّل مسؤولية البت بالحق والصدع به فيأتي هذا الموقف المرن بل المائع الذي لا يحق حقا ولا يبطل باطلا، فنظر إلى الحسن وقال له وما تقول أنت يا حسن؟ فقال تقول تأتيني كتبٌ من الخليفة، يا ابن هبيرة لقد جاءك كتاب الله قبل أن تأتيك كتب الخليفة، فبمن تعمل وبمن تأتمر؟ لقد جاءك كتاب الله قبل أن تأتيك كتب الخليفة. يا ابن هبيرة إن الله مانعك من يزيد وليس يزيد بمانعك من الله. يا ابن هبيرة لو كانت السموات والأرض رتقا عليك ثم التقيت الله لجعل لك من بينهما فرجًا ومخرجا. فأمر للشعبي بألف وأمر للحسن بأربعة آلاف، فقال الشعبي معلقا رفقنا به في الفتيا فرفق بنا في العطاء، وأخذ الألف وشكر عليها، أما الحسن فأخذ الألاف الأربعة ثمّ قال اجمعوا لي فقراء هذا البلد فوزّعها فيهم ولم يخرج بدرهم.
لم يركب سيارة خاصة!
ولعل مثل هذا التصور كان من وراء مواقف الرجل وسلوكه في الحياة العامة، والمجتمع العلمي، فالرجل لم يركب سيارة خاصة حتى رحيله وهو في الثالثة والتسعين، كان يسكن ضاحية حلوان جنوب القاهرة، ويسافر منها إلى كليته عبر قطار حلوان (صار المترو الآن)، ثم يمضي ماشيا على قدميه إلى الكلية في جامعة الأزهر ويعود منها ماشيا كما جاء. كانت بنيته قوية فساعدته على المشي، كما ساعدته على العمل بيديه في زراعة أرضه بالقرية. وعاش لا يفكر في المال أو الثروة، فلم يقرر كتابا باسمه على الطلاب كما يفعل زملاؤه وتلاميذه الذين صاروا أساتذة، يرشد الطلاب إلى المراجع فحسب بعد أن يتناول موضوعه باستفاضة.
كان الرجل شديد الحرص على الإسلام، قوي الدفاع عنه. ولعل حواراته مع الجزيرة (برنامج الاتجاه المعاكس مثالا)، تثبت تمكنه ووعيه بحقائق الإسلام في مواجهة خصومه، كما تكشف عن قدرته على إفحامهم بالدليل والبرهان والحجة القوية، تساعده على ذلك ذاكرة قوية مع تقدمه في السن، إنه يرفض الاحتلال الصهيوني، ولا يقبل بالاستسلام له، ثم هو يحفظ تاريخ الاستعمار وجرائمه في بلادنا.
وكانت للخولي مواقف تاريخية تحسب له منها : يوم صدر قانون جائر للأحوال الشخصية ينسب لزوجة أحد الرؤساء، اصطحب مجموعة من زملائه، وذهب لمقابلة شيخ الأزهر في مكتبه لمناقشة الأمر، فوجد مدير المكتب يسأله : من أنتم؟ ليرى ما إذا كان شيخ الأزهر على استعداد للمقابلة، فقال الخولي: نحن علماء الأزهر، فإن كان هناك من يحول بيننا وبينه فلا نريد مقابلته، وأبلغه أن اسمي فلان، وهذا فلان، وراح يعدد أسماء مرافقيه، ثم انصرف.
وعندما ذهب أستاذا زائرا لجامعة في أحد البلاد العربية، أراد بعضهم أن يفرض عليه بعض الآراء العلمية، فرفض قائلا: إنني قادم من الأزهر، وجئت لأعلّم، لا أتعلم. وقطع علاقته بالجامعة وعاد إلى أرض الوطن.
الفكر الرصين والثقافة الأصيلة
لقد كان الرجل مخلصا لربه ودينه وأمته وقومه ووطنه، فعاش محترما بين الناس جميعا حتى خصومه، وقد نعاه الأزهر الشريف وزملاؤه وتلاميذه، وذكر شيخ الأزهر للعالم الراحل أنه كان من أصحاب الفكر الرصين والثقافة الأصيلة، وكان حافظًا للعربية، واهبًا حياته لتعليم أبناء الأزهر أصول دينهم ولغة كتابهم، وقد تخرج على يديه أجيال من الأساتذة والباحثين والمحققين، وترك مؤلفات أثرت المكتبة العربية والإسلامية. وقال الدكتور محمد الضويني، وكيل الأزهر الشريف: إن العالم الجليل رحل بعد رحلة علمية ثرية ومسيرة عطاء زاخرةٍ قضاها في المنافحة عن دين الله وردِّ الأباطيل عنه، وخدمة علوم اللغة والشريعة، فترك إرثًا عظيمًا سيظل موئلًا للباحثين وطلاب العلم، وذُخرًا للمكتبة العربية والإسلامية. ووصفه رئيس جامعة الأزهر بمربي الأجيال والحارس الأمين على لغة الضاد ولعلها المرة الأولى أن تخصص قاعة الاجتماعات بإدارة الجامعة بمدينة نصر لتلقي العزاء في أحد أساتذتها الكبار.