أخرج مالك في الموطإ من حديث عَطَاءِ بْنِ يَسَارٍ، أَنَّهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلى الله عَلَيه وَسَلم: “التَّمْرُ بِالتَّمْرِ مِثْلًا بِمِثْلٍ، فَقِيلَ يا رسول الله: فإِنَّ عَامِلَكَ عَلَى خَيْبَرَ يَأْخُذُ الصَّاعَ بِالصَّاعَيْنِ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلى الله عَلَيه وَسَلم: ادْعُوهُ لِي فَدُعِيَ لَهُ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلى الله عَلَيه وَسَلم: تَأْخُذُ الصَّاعَ بِالصَّاعَيْنِ؟ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، لا يَبِيعُونِي الْجَنِيبَ “الجيد” بِالْجَمْعِ “الرديئ” صَاعًا بِصَاعٍ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلى الله عَلَيه وَسَلم: بِعْ الْجَمْعَ بِالدَّرَاهِمِ ثُمَّ ابْتَعْ بِالدَّرَاهِمِ جَنِيبًا”.
فلما منعه من الربا وسد عليه بابه، أعطاه البديل المشروع وفتح له باب الحلال توسعة على الأمة، ولما منع الربح في القرض؛ لكونه ربا وأكلا لأموال الناس بالباطل أباح الربح في البيع عن تراض بين المتبايعين، قال تعالى: {وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا } البقرة:275، وقال {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُم بَيْنَكُم بِالْبَاطِلِ إِلَّا أَن تَكُونَ تِجَارَةً عَن تَرَاضٍ مِّنكُمْ}النساء:29.
فأبواب الحلال وسبل الكسب المشروع كثيرة لمن تحراها وابتغاها، لكن بعض الناس يعميهم عن الشيطان عن الحلال فلا يبصرون إلا ما حرم عليهم ويريدون التخبط فيه ومواقعته، ويقول قائلهم: الشريعة تحرم كل شيء، وليس الأمر كذلك بل الحرام قليل في مقابلة الحلال، وسنعرض لذلك في مقال مستقل إن شاء الله.
صحيح أن الحرام قد يكون أخف على النفس أحيانا لتزيين الشيطان له ودعوة النفس الأمارة بالسوء إليه، فالمعاملات المباحة التي أذن فيها عوضا عن المعاملات المحرمة ليست بالضرورة مساوية للمحرمات من جهة اللذة، بل سيبقى في ترك الحرام نوع شدة ، وسيظل في الامتناع عنه نوع تكليف، ومشقة.
فليست كل البدائل المباحة تفوق المحرمات في اللذة والخفة، بل ربما يكون في أفراد بعض الحرام سهولة وخفة ولذة على النفس تستهوي رقيق الإيمان، فالربا في سهولته ليس مثل التجارة قطعا لما فيها من تعب، ونصب ومشقة، وسفر واستيراد وتسويق، ومتابعة، ومحاسبة، ومنافسة، بينما الربا أمره سهل حيث إنك تعطي مالك لمن ينتفع به مضمونا عليه وتستوفيه منه بزيادة، أو تضعه في بنك ربوي، فيضمنه لك ويضمن لك نسبة من الربح تأخذها دون جهد أو عناء ، ولو قال قائل وهكذا البنوك الإسلامية فإنك تودع مالك لديها وتعطيك أرباحا كل فترة، فيقال له إن البنوك الإسلامية تستثمر مالك فهي شريك معك بجهدها وعملها ورأس مالك غير مضمون، ونسبة الربح غير مضمونة، وشتان بين المضاربة وأنواع الشركات المباحة وصريح الربا، فإياك أن تقول إنما البيع مثل الربا.
فالفلاح والسعادة والطمأنينة في ترك الحرام والاكتفاء بالحلال، والهم والضيق والنكد في الحرام ولو خفت مؤنته، أو كثر عرضه، وكم ممن استخف بشأن بالحرام فوقع في شرك الربا ثم تأخر في السداد شهرا أو شهرين فتضاعفت الفوائد ومحقت البركة، وكثرت الهموم فأصبح يئن تحت وطأته، ويتخبط في شركه لا يجدا سبيلا للمناص منه، قال تعالى: {قُلْ لا يَسْتَوِي الْخَبِيثُ وَالطَّيِّبُ وَلَوْ أَعْجَبَكَ كَثْرَةُ الْخَبِيثِ فَاتَّقُوا اللَّهَ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} المائدة:100.
فمن لطف الله ورحمته بخلقه إذا أنه ما حرم عليهم شيئاً إلا أعطاهم البديل الواسع، والعوض الطيب الذي يعوض النفس عن الحرام لتستعين به على ترك ما لا يحل لها قربانه. وهو خير من الحرام قطعا في نتائجه، وآثاره، وإن لم يفقه في اللذة والسهولة، فالجنة حفت بالمكاره والنار حفت بالشهوات.
قال ابن القيم رحمه الله في كتابه القيم روضة المحبين ص8: (فما حرم الله على عباده شيئاً إلا عوضهم خيراً منه كما حرم عليهم الاستقسام بالأزلام وعوضهم منه دعاء الاستخارة، وحرم عليهم الربا وعوضهم منه التجارة الرابحة، وحرم عليهم القمار وأعاضهم منه أكل المال بالمسابقة النافعة في الدين بالخيل والإبل والسهام، وحرم عليهم الحرير وأعاضهم منه أنواع الملابس الفاخرة من الصوف والكتان والقطن وحرم عليهم الزنا واللواط وأعاضهم منهما بالنكاح..
وحرَّم عليهم شرب المسكر وأعاضهم عنه بالأشربة اللذيذة النافعة للروح والبدن، وحرَّم عليهم سماع آلات اللهو من المعازف والمثاني وأعاضهم عنه بسماع القرآن والسبع المثاني.
وحرم عليهم الخبائث من المطعومات وأعاضهم عنها بالمطاعم الطيبات، ومن تلمح هذا وتأمله هان عليه ترك الهوى المردي، واعتاض عنه بالنافع المجدي، وعرف حكمة الله ورحمته وتمام نعمته على عباده فيما أمرهم به ونهاهم عنه، وفيما أباحه لهم، وأنه لم يأمرهم بما أمرهم به حاجة منه إليهم، ولا نهاهم عنه بخلاً منه عليهم، بل أمرهم بما أمرهم إحساناً منه ورحمة ونهاهم عما نهاهم عنه صيانة لهم وحمية”.
هذا إذا مطرد ليس في باب المعاملات فحسب بل وفي كل مناحي الحياة، لكن إنما أردنا التنبيه فيما يتعلق بالمعاملات بذكر نماذج فحسب تبين لنا أن أبواب الحلال كثيرة وفيها غنية ، فلا تعمينا شهوة الحرام عنها، ولا ينبغي أن نغتر بلذته الآنية الزائلة؛ لما يعقبها من حسرة ندامة إن عاجلا أو آجلا، ثم إنه صح عن نبينا ﷺ أنه قال: “إن روح القدس نفث في روعي إن نفسا لن تموت حتى تستكمل أجلها وتستوعب رزقها فاتقوا الله وأجملوا في الطلب”. وهو في الحلية لأبي نعيم عن أبي أمامة رضي الله عنه وعزاه ابن حجر لابن أبي الدنيا، وذكر أن الحاكم صححه من طريق ابن مسعود.
وآخر دعوانا” اللَّهُمَّ اكْفِنا بِحَلَالِكَ عَنْ حَرَامِكَ، وَأَغْنِنا بِفَضْلِكَ عَمَّنْ سِوَاكَ” والحمد لله رب العالمين.