أتصور أن أحد أهم أسباب حالة التيه أو “التوهان” التي نعانيها في حاضرنا، هو غياب “سؤال المستقبل” عن خارطتنا الفكرية؛ فقد انشغلنا كثيرًا بالماضي، لا من حيث استيعاب دروسه، وهَضْمِ عبره وفوائده، وإنما من حيث اجترار معاركه، والنبش في أوراقه الذابلة؛ كما أننا انشغلنا أيضًا بحاضرنا وتفريعاته وجزئياته؛ تلك التي لا ترسم صورة كلية، ولا تشكِّل عقلاً استراتيجيًّا.

بقي المستقبل غائبًا عن اهتمامنا، وغفلنا عن أهمية الانشغال بسؤاله وإشكالياته في شدِّ الانتباه دائمًا نحو الأصول والكليات، ونحو الثوابت والجوامع.

بادئ ذي بدء نقول: إن الانشغال بالمستقبل ليس ترفًا، وليس رجمًا بالغيب؛ بل هو ضرورة قصوى، وصار علمًا وفنًّا قُطعت فيه أشواط كبيرة.

والإسلام به إشارات كثيرة تلفت العقل المسلم نحو المستقبل، وتنتشله من الانغماس في الحاضر، فضلاً عن الماضي.

فمع تنزّل القرآن الكريم كان الحديث المتكرر والتنبيه الدائم إلى الدار الآخرة، وما بعد الموت من جنة أو نار، وتأثير ذلك على حاضر الإنسان في الحياة الدنيا.

كما تحدث القرآن عن الصراع بين الفرس والروم وطبيعة المواجهة بينهما، وأخبر عن انتصار الروم في بضع سنين، بقوله تعالى: {الم، غُلِبَتِ الرُّومُ، فِي أَدْنَى الْأَرْضِ وَهُم مِّن بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ، فِي بِضْعِ سِنِينَ لِلَّهِ الْأَمْرُ مِن قَبْلُ وَمِن بَعْدُ وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ، بِنَصْرِ اللَّهِ يَنصُرُ مَن يَشَاء وَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ} (الروم، 1- 5). وفي هذا توجيه للمسلمين لمدِّ أبصارهم خارج حدودهم الجغرافية- وكذلك الزمنية- ومتابعة ما يجري فيها من تطورات وانعكاسات على علاقة المسلمين مع الآخرين، وعلى سير الدعوة الإسلامية في الداخل والخارج.

وجاءت قصة يوسف عليه السلام- حين تولى خزانة مصر ووضع الخطط لمواجهة القحط والمجاعة- تدريبًا عمليًّا على مواجهة الأخطار التي تلوح في الأفق، وكيفية التصدي للأزمات الاقتصادية والمجاعات، وتنفيذ الخطط الخمسية والعشرية.. وضرورة الاعتماد في ذلك على الحقائق والأرقام، والعمل الجاد المتواصل، دون تقاعس أو تواكل، وأيضًا دون تهويل أو تهوين.

كما جاءت أحاديث النبي ، التي تُبشِّر بانتصار الإسلام، وأنه سيبلغ ما بلغ الليل والنهار، وأن المسلمين سينتصرون على اليهود في آخر الزمان، بعد اقتتال شديد يختبئ فيه اليهودي وراء الحجر والشجر، فيقول الحجر والشجر: يا مسلم يا عبد الله هذا يهودي ورائي تعال فاقتله.. وكذلك أحاديث أمارات اقتراب يوم القيامة، والنذر الدّالة عليه؛ مثل: انقلاب الموازين، وولادة الأمَة ربتها، وشيوع الفواحش، وانتشار الظلم، وضياع الأمانة.. جاءت هذه الأحاديث لتجعل أمام العقل المسلم صورة حاضرة لمآلاتِ المستقبل، وتبدُّلِ الأحوال، ولتحثه على اجتناب ما يمكن أن يتسبب له في أزمات وعثرات، وتدفعه أيضًا لما يتعين عليه فعله لمواجهتها ودفع ضررها.

ومع هذه الإشارات المهمة والمتعددة، فلم نتعاطَ بجدية معها؛ وكانت إحدى إصابات العقل المسلم، كما يقول عمر عبيد حسنة: “عدم استشراف آفاق المستقبل على ضوء الماضي والحاضر، وفهم الحركة التاريخية، ومراقبة مجراها، ومن ثم معرفة مصبها مستقبلاً. وأعتقد أن لا يجوز الهروب من النظر إلى المستقبل تحت عنوان (المستقبل بيد الله)… فتعطيل النظر إلى المستقبل، بعد أن أصبحت له دراساته، وعلومه، تحت شتى الاعتذارات، ليس من الدين، بل هو إصابة للعقل، ومجافاة للدين”([1]).

ووفقًا لوليد عبد الحي فإن “إحدى ثغرات ثقافتنا العربية تتجسد في أحد أبعادها في موقفها من الزمن؛ إذ طغى عليها الماضي والحاضر، بينما لم يحظَ المستقبل (حيث سنعيش) إلا بأقل القليل؛ على الرغم من أن معرفة أو محاولة معرفة المستقبل تمثل أحد عناصر القوة”. وإذ غدا الزمان المستقبل ساحة صراع وتنافس بين الأمم، فقد وضع مهدي المنجرة مفهوم (استعمار المستقبل)، مُنذِرًا بأن “العالم الإسلامي إذا لم يخطط لمستقبله، فإنه يوشك أن يُستعمر، كما استُعمر ماضيه وحاضره”([2]).

ومفهوم (المستقبلية) أو (الاستشراف) له استعمالان؛ فهو يعني الاهتمام العام بالمستقبل وقضاياه، سواء على المستوى الفكري أو العملي؛ كما يعني مجموعة من الأبحاث حول التطور المستقبلي للإنسانية تُمكّن من استخلاص عناصر التوقع([3]).

وقد برزت الدراسات المستقبلية العلمية في أمريكا مع الحرب العالمية الثانية بإنشاء بعض المعاهد والمراكز البحثية. وشرع الغرب في الستينيات في تقديم دراسات وتقارير استشرافية، تراكمت معها قاعدةٌ عريضة من المعلومات، بخاصة مع الحاسوب. ويُعد كتاب قسطنطين زريق (نحن والمستقبل)، عام 1977، أول الأعمال الفكرية العربية التي تحض على التفكير في المستقبل. ثم تعددت محاولات الباحثين العرب في سعيهم لاستشراف بعض الجزئيات المتعلقة بآفاق المستقبل العربي، وبرزت جهود مراكز وأفراد في هذا الصدد، مثل مركز دراسات الوحدة العربية، وأعمال مهدي المنجرة وأحمد صدقي الدجاني([4]).

وبصورة موجزة، فالدراسات المستقبلية تتطلب قراءةً جيدةً للعوامل التي تشكل الواقع، ولطبيعتها المتشابكة؛ ثم استنطاق صيرورتها ورسم السيناريوهات، في ضوء الخبرة المتوارثة من دروس الماضي؛ ثم ترتيب هذه المآلات للتعرف على أقربها وقوعًا؛ ثم الاستعداد لذلك بما هو متاح وممكن وليس بما هو مأمول ومرغوب.. مع تكامل المعارف والعلوم في كل خطوة من الخطوات.. ومع إدراك أن هذه الدراسات وإنْ لم تخبرنا عما سيحدث بدقة كاملة، فإنها مفيدة- على أقل تقدير- في تعريفنا بالاحتمالات الممكنة.

إنني أعتقد أننا لو كنا نأخذ في اعتبارنا مؤشرات المستقبل ومآلاته، لتغيرت كثير من قناعاتنا واختياراتنا الراهنة، ولصرنا أقدر على التعامل مع العقبات، وعلى تحديد الأولويات، وتجنُّبِ كثير من المعارك.

والعالم العربي والإسلامي، وفي القلب منه الحركات الإسلامية، مطالَبٌ بأن يمد بصره للمستقبل وهو يتلمس خطواته في حاضره، حتى يمضي على هدى وبصيرة، ولا يفاجَأ بما لم يكن في الحسبان، وحتى لا نُقْدِم في موطن يحسن فيه التمهل، أو نتمهل في موطن يحسن فيه الإقدام!

إن تأمُّلَ كثير من أزماتنا ينبئنا بأن أهم أسبابها غياب الرؤية، وانعدام الحس الاستطلاعي، فضلاً عن عدم توافر دراسات جادة تستشرف المستقبل ولو لمدى قريب.

ويمكن أن نعتبر هذا التقصير نوعًا من الكسل، أو سوءَ فهمٍ لعبادة التوكل، أو عدمَ تقديرٍ لمعنى المسئولية والقيادة، ومتطلبات التدافع ومعادلات الصراع.

وأيًّا كانت الأسباب والدلالات، فإن التوجه للمستقبل، ومد البصر نحو الأفق الزماني والمكاني الممتد؛ صار فريضة وضرورة، وعلينا ألا نتباطأ أكثر من ذلك.


([1]) مراجعات في الفكر والدعوة والحركة، ص107، المعهد العالمي للفكر الإسلامي، ط2، 1414هـ.

([2]) نقلاً عن دراسة “التأصيل لاستشراف المستقبل من منظور إسلامي”: إلياس بلكا، ضمن الكتاب السنوي الأول: “استشراف للدراسات المستقبلية”، ص: 135، عن المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، 2016، قطر.

([3]) المصدر نفسه، ص: 135.

([4]) المصدر نفسه، ص: 196، 197، بتصرف.