الاعتدال مشتق من العدل وهو لزوم الحق والدوران مع القسط ، ويمثلّه الوسط ، بعيدا عن الإفراط والتفريط والغلوّ والجحود ، وهو أمر صعب جدا في ميدان المشاعر والأفكار والأقوال والسلوك الفردي والاجتماعي ، ولزومه أصعب لأن الطرفين يتجاذبان صاحبه بقوة كما تعلّمنا من دروس الفيزياء ، وسنن الله ماضية في النفوس كما في الماديات .

وقد عُني القرآن الكريم تصريحا وإشارة بتربية المسلمين على الاعتدال عاطفةً وتفكيرا وسلوكا ، فنصّ على أننا امةً وسط أي بعيدة في كل شؤونها عن الحديّة ، وهذا ما يؤهلها للشهادة على الأمم .

ومن لطائف كتاب الله تعالى أن الشروط التي طُلبت في بقرة بني اسرائيل يمكن تلخيصها في الاعتدال :

” قال إنه يقول إنها بقرة لا فارض ولا بكر عوان بين ذلك ” –  سورة البقرة 68 –  ، فلا هي هرمة ولا هي صغيرة بل سوية ، أي من أفضل الأنواع ، و كذلك الشأن في لونها وعملها.

وكما ورد في الأثر فإن أعلى درجات الجنة أوسطُها : ” إذا سألتم الله الجنة فاسألوه الفردوس .. فإنه أعلى الجنة ، وأوسط الجنة. ” – رواه ابن خزيمة.

ومن مواضع الاعتدال في حياة المسلم :

– الصلاة : رفع الصوت فيها أكثر من اللزوم صنو المخافت إلى حدّ الاسرار : ” ولا تجهر بصلاتك ولا تخافت بها وابتغ بين ذلك سبيلا ” سورة الاسراء:110
– الانفاق : من صفات عباد الرحمن أنهم مقتصدون في الانفاق : ” والذين إذا أنفقوا لم يسرفوا ولم يقتروا وكان بين ذلك قواما ”  – سورة الفرقان :67
ولزوم الاعتدال في هذا المجال ليس أمرا هيّنا لأن المال يغري النفوس بالحدّيْن الاسراف والتقتير أي مجاوزة الحدّ أو التموقع دونه.
نلاحظ ورود لفظ ” بين ” في وصف البقرة والصلاة والإنفاق وهي تدلّ على نقطة الوسط بين طرفين ، وذلك هو الاعتدال نتعلمه من القصص القرآني ومن الأوامر والنواهي الشرعية.
– المعاش : ” كلوا واشربوا ولا تسرفوا ” سورة الأعراف: 31
هذا مقياس الاستمتاع بالطيبات ، ولا يقتصر الأمر على المآكل والمشارب بل يشمل جميع عناصر المعيشة كاللباس والأثاث والمرْكب ونحو ذلك.
ولئن كانت الآخرة هي المطلب الأعلى والمقصد الأسمى فإن الاشتغال بما يُدخل الجنة لا يكون على حساب السعي من أجل الحياة الدنيا : ” وابتغ فيما آتاك الله الدار الاخرة ولا تنس نصيبك من الدنيا ” سورة القصص: 77 –
بهذا يحدث التوازن في حياة المسلم ، بعيدا التصوّف العجمي الذي يخالف فطرة الله ، وعن النزعة  اللادينية التي تقطع الانسان عن الآخرة وتأسره في سجن الدنيا .
  الحبّ والبُغض : كثيرا ما تكون المشاعر ميدانا للغلوّ في الحبّ والبغض ، فتجد الناس لا يلتزمون الاعتدال إذا أحبوا او أبغضوا، وهل أهلك النصارى سوى المغالاة في حبّ المسيح عليه السلام في حين ما زال اليهود إلى اليوم يعدّونه دعيا ابن زنا ؟ وإنما التزم المسلمون الاعتدال – كما تعلموا من كتاب ربهم وسنة نبيّهم – فأقروا بمولده الخارق من غير أن يخرجه ذلك عن الصفة البشرية ليضفي عليه الألوهية بأي شكل.
ونجد الغلوّ ظاهرا جليّا مدمّرا  في موقف الشيعة والخوارج من علي رضي الله عنه، فأولئك بالغوا في حبّه حتى ألّهوه أو كادوا ، وهؤلاء بالغوا في بغضه حتى قتلوه ” تقربا إلى الله تعالى ” بزعمهم  .
أما أهل السنة والجماعة فلم يبرحوا موقف الاعتدال فيه ، أحبوه مثل كبار الصحابة وبجّلوه بما يليق بسابقته وقرابته من بيت النبوة وفتوّته وناصبوا قاتليه العداء ، ولم يزيدوا على هذ.
 التديّن : المسلم متديّن بالضرورة ، لكنه تديّن معتدل منضبط بضوابط شرعية تمنعه من الغلوّ ، إنه تديّن يراعي الطبيعة البشرية وضعفها وطاقتها المحدودة ، فلا تكلّف فيه ولا عنت ، وقد نهى النبي صلى الله عليه وسلم الصحابة الذين تشددوا في العبادة إلى درجة هضم حقوق النفس والزوجة ودعاهم إلى التزام سنته المتسمة بإعطاء كل ذي حق حقه أي بالاعتدال ، وقال عليه الصلاة والسلام : “إن هذا الدين يسرٌ ولن يشادّ الدين أحد إلا غلبه ، فسددوا وقاربوا”  رواه البخاري.
وروى الامام احمد أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : ” إن هذا الدين متين  فأوغلوا فيه برفق فإن المنبتّ لا أرضا قطع ولا ظهرا أبقى”.
وإنما أوصى بكل هذا لعلمه أن التشدّد عمره قصير وخيرُ الأعمال أدومُها وإن قلّ وليس أكثرها وإن انقطع ، وقد ساهم التطرف الديني مساهمة كبيرة في تشويه صورة اللاسلام البديعة وفي جلب المشكلات للمسلمين وجماعاتهم ودولهم وقضاياهم ، وكلما كانت حياة المسلمين توسطا واعتدالا جلب ذلك لهم الخير بكل أنواعه.
– المرأة : حين ابتعدت كثير من المجتمعات المسلمة عن أحكام الشريعة أصبحت المرأة مصدر مشكلات لا تُحصى وبابا يلج منه أعداء الاسلام بمكر ودهاء ، كيف لا وقد تنازع في هذه القضية تياران يعدّ أحدهما المرأة مجرد عرض يُصان لأنها مفتاح الشرور ، تُضرب ، تُهان ، يُضيق عليها ، لا تُعطى حقوقها الشرعية في الإرث وغيره ، بينما يعُدها الطرف الآخر مجرد جسم فوّار يلبي الشهوات المحرمة ، يباع ويشترى ، هو مادة للإشهار ونشر الرذائل ، أما الاسلام فينظر إلى المرأة على أنها إنسان مكرم كالرجل ، منضبط بأحكام الشرع مثله في إطار خصوصيات الذكر والأنثى ، بهذه النظرة المعتدلة يبقى الرجل رجلا والمرأة امرأة يؤديان وظائفهما بشكل طبيعي ، فإذا غاب الاعتدال تغلبت النزعة الرجالية أو النسوية وظهرت نظريات الجنس الثاني و” الرجُلة ” والزواج المثلي ونحو ذلك من الانحرافات الفكرية والسلوكية المنذرة بفناء النوع البشري.

الاعتدال كله خير ، لكني أتكلم عن الاعتدال المنبثق من نصوص القرآن الكريم والهدي النبوي ومقاصد الشريعة والرؤية الاسلامية الأصيلة ، وهو الالتزام الواعي بدين الله ، لا إفراط فيه ولا تفريط ، إنه ليس مسحة دخيلة تُضاف إلى الدين مثل الخطاب الاسلامي ” المعتدل ” الذين تطالب به أطراف خارجية لا تريد خيرا لهذا الدين بل تسعى إلى تحريفه باسم الاعتدال.