إلى أين يتجه العالم ؟ السؤال القديم الجديد للفلاسفة والمفكرين والسياسيين منذ الإغريق واليونان، وحتى اليوم، إشكالية تنوعت فيها الرؤى الفسلفية، والأخلاقية، ونزعات القوة، ونظريات القانون الدولي، وتقلبات السياسة ومصالحها، ويطرح العدد السبعون والأخير من مجلة “التفاهم” العمانية (1)، ملفا خاصا بعنوان “الاختلال المتفاقم وإلى أين يتجه العالم”.
كان الفيلسوف الألماني “نيتشه” من أوائل من طرح سؤال إلى “أين يسير العالم؟”، وذلك في رده على تفاؤل الحداثة بتحقيق مستقبل مشرق للإنسان، فتصورات الإنسان عن تسييده على الطبيعة ومآلات هذا التسيد من الأمور ذات الأهمية في فهم مستقبل العالم وتطوره، فبعض الفلاسفة كان شديد الإيمان بالحاضر، مثل “هيجل” الذي كان يقول:”إن مهمة الفلسفة لتنحصر في تصور ما هو كائن؛ لأن ما هو كائن ليس إلا العقل نفسه” فكل شيء ينبع من الحاضر، ويؤوب إليه، والفائت لا يُعتد به، والآتي لا يُنتظر.
الرؤى الأخلاقية
إجابة على تساؤل ” إلى أين يتجه العالم ؟ ” استعرضت مجلة التفاهم في عددها الأخير المشروعات المتعددة لإصلاح النظام العالمي هذه الطروحات جاءت في غالبها من جانب الفلاسفة والقانونيين، لكنها لم تنجح، لذا اتجهت الجهود لجعل النظام أكثر إنسانية وفعالية، نظرا لأن من مسببات ذلك الاختلال تركز الثروات، والتكنولوجيا، والقوة، ووسائل التحكم المعرفي والاتصالي، في جانب عدد محدود من الدول، وخضوع الآخرين، وهو ما يخلق حالة من الاستتباع العالمي.
والحقيقة أنه عندما يلجأ المفكرون الإنسانيون والقانونيون والاقتصاديون إلى الرؤى الأخلاقية، فليس لأنهم لا يعالجون العوامل الاقتصادية والاستراتيجية؛ بل لأنهم يرون أنّ الظلم، والاختلال البيئي، وإفقار نصف العالم؛ كل ذلك لم يعد من الممكن احتماله، لما فيه من امتهان للكرامة الإنسانية، لذا انشغل هؤلاء بمسألة الانصاف في النظام العالمي، مثل: “جون رولز” John Rawls في كتابه “نظرية في العدالة” A Theory of Justice ، واللاهوتي الكاثوليكي “هانس كينغ” كتابه “مشروع أخلاقي عالمي، دور الديانات في السلام العالمي” والذي أكد فيه أنه “لا استمرارية من دون أخلاق كونية، ولا سلام عالمي من دون سلامٍ ديني، ولا سلام ديني من دون الحوار بين الديانات”، ولعل هذا ما يجعل مسألة الاصلاح في النظام العالمي مرتبطة بمعالجة تلك الاختلالات، قبل أي شيء، من خلال إيجاد حالة من التوازن السياسي الاقتصادي والمعرفي بين التكتلات والقوى الدولية.
وبحسب منظمة الأغذية والزراعة، ومنظمة الصحة العالمية، فالعالم ينقسم إلى 60% من البشر لديهم الكفاية من الغذاء والدواء والأمن الاقتصادي، و40% يعيشون تحت وطأة الفقر والجوع والمرض، ومن هنا يصبح الوصول إلى مجتمعات الكفاية ضرورة إنسانية وعالمية، فالاقتصاديون يسمون الدول التي لا تستطيع توفير الاحتياجات الأساسية بـ”الدول الرخوة”، وهي الدول التي يكثر فيها الفساد واحتكار الموارد من جانب فئةٍ أو فئات من السياسيين ورجال الأعمال، ويضعف فيها حكم القانون، ويلاحظ أن الأسواق في العالم يسودُها الأقوياء، الذين تتوفر لهم الأدوات الثلاث: رأس المال والسلع والتقدم العلمي والتكنولوجي، ووسائل الاتصال المتطورة.
وقد أظهر “وباء كورونا” أهمية الأمن الصحي العالمي، بعدما أصبحت التبعية ترسمها الأسواق إنتاجا وإحتياجا وقدرة على الشراء، فحتى القوة العسكرية ليست كافيةً لتحقيق الأمن الاستراتيجي، بل لا بد من قُدُرات سوقية وتكنولوجية واتصالية ومعرفية، ويتنبأ “فريد زكريا” في كتابه الأخير الصادر عام 2020 بعنوان “عشرة دروس: من أجل عالم ما بعد الوباء” Ten Lessons for a Post-Pandemic World أنّ حالة اللامساواة في الأوضاع الإنسانية في العالم سوف تزداد سوءًا.
وعلى الجانب الآخر تحدث “توماس فريدمان” في كتابه ” العالم المسطّح” The World Is Flat عن آفاق الحرية الاقتصادية العالمية، فرأى أن العالم أصبح مسطّحاً، وأن الحدود بين الدول لم تعد ذات أهمية، وأن التداخل بين الحدود أصبح كاملاً، وصارت كل الشعوب تعيش في عالمٍ واحد، وتوصل إلى هذه النظرية من خلال رصد كل العمليات التصنيعية التي تقف وراء صناعة جهاز الكمبيوتر لطباعة كتابه، وكان لـ”فريدمان” مقولة مراوغة أطلقها عام 1999 فحواها أن الدول التي فيها مطاعم ماكدنونالدز الشهيرة لا يوجد حرب بينهما.
رصد “فريدمان” في كتابه عشرة أسباب، حول رؤيته للعالم المسطح، صاغها في شكل عناوين جذابة، منها:
-عندما تهدم الجدران وتصعد النوافذ، حيث تأسست شركة مايكروسوفت بعد ستة أشهر من انهيار جدار برلين عام 1989، والتي ساعدت برنامجها الشهير Windows على انتشار الكمبيوترات الشخصية حول العالم.
-عندما بدأت الشبكة بالتفرع، ويقصد هنا شبكة الانترنت، والتي صمم أول موقع اليكتروني عليها عام 1990، وهذا مكن كل من يملك حاسوبا شخصيا أن يقول كلمته للعالم.
-التحميل: وهي القدرة على تحميل الملفات والصور والبرامج من وعلى الانترنت دون تكلفة كبيرة أو بدون تكلفة.
-الانتقال إلى ما وراء الشواطيء ، الركض كالغزلان والأكل كالأسود، حيث يمكن لصاحب أي مشروع أن ينشيء مشروعه في البلاد ذات التكلفة الرخيصة في العمل والموارد، لكي يكسب ويحقق أرباحا كبيرة، وهو ما يكشفه توجه كبرى الشركات العالمية إلى الصين.
-المنشطات: ويقصد بها وسائل الاتصال الحديثة من هواتف محمولة، وانترنت، والتي مكنت من تسهيل حياة الكثير من الناس حول العالم، وملخص ما يروج له “فريدمان” أن العولمة ذات قدرة على إنشاء السلام العالمي واستدامته.
وإجابة على سؤال “إلى أين يتجه العالم ؟ “ناقش عدد “التفاهم” قضية مهمة، وهي موقع الطبقة الوسطى، التي تتآكل عالميا في ظل تغيرات سوق العمل، وتزايد الاعتماد على التشغيل الآلي الذي يزيد من أعداد العاطلين، وكذلك ارتفاع تكاليف المعيشة، الذي يقود إلى ارتفاع مديونيات الأسر مما يهدد بسحق الطبقة الوسطى، إضافة إلى انعدام الأمن الوظيفي، والتوسع الرقمي الذي سيؤدي حسب بعض الدراسات إلى فقدان أكثر من (800) مليون شخص لوظائفهم بحلول عام 2030، أي أكثر من 20% من القوى العاملة العالمية، ناهيك عن تحول نمط العمل إلى النمط غير الثابت، وهذه التحولات الاقتصادية العالمية الكبرى تنعكس على تلك الطبقة التي تعد صمام الأمان في المجتمعات.
مدخل الإصلاح
كانت مسألة الإصلاح أحد المداخل التي انشغل بها المفكرون فالبلد الذي يقوده العقلاء والفلاسفة، ويسود فيه العدل والسعادة، من المتوقع أن يتحرك في الساحة العالمية بطريقة إيجابية ويتلمس فيه العدل والإنصاف، واعتبر ذلك من قبل مفكري الإسلام أحد مداخل السعادة.
وفي الرؤية الإسلامية فإن الأخلاق لا تنحصر في المجال الفردي، ولكن تتسع لتشمل الجانب الاجتماعي والمجتمعي، أما السياسة في الرؤية الإسلامية فهي سياسة الإنسان لنفسه، من خلال الأخلاق، التي هي علم تدبير النفس؛ أي سياسة الإنسان نفسه من أجل أن تصير أخلاقُه وأفعاله فاضلةً، ومعرفة هذه الفضائل هي تمهيد لعلم تدبير المدينة أو علم السياسة.
والأخلاق-في الرؤية الإسلامية- لا تنحصر في المجال الفردي؛ بل تتسع لتشمل المجال الاجتماعي المُمَثل في المدينة، فالمدينة صورة لأفرادها، ومن هنا ارتبط علم الأخلاق بعلم السياسة ارتباطاً وثيقاً، حتى أنهما يُعدّان فرعَيْن لعلْمٍ واحد يهدف إلى إيجاد المدينة الفاضلة والدولة السعيدة.
يقول الفيلسوف “أبو الحسن العامري” (2) في كتابه “السعادة والإسعاد في السيرة الإنسانية” : “إن أحق الأديان بطول البقاء ما وجدت أحوالُه متوسطةً بين الشدة واللين؛ ليجد كل من ذوي الطبائع المختلفة ما يصلح بِهِ حاله في معاده ومعاشه، ويستجمع له من خير دنياه وآخرته”، فالفكر الإسلامي كان يسعى لدولة أفضل وعالم أفضل من خلال المدينة الفاضلة التي يحكمها الفلاسفة، والتي تُحقق الفضيلة، ولا تنفصل فيها السياسة عن الأخلاق، فالسياسة وسيلة لتحقيق الفضيلة التي لا تتحقق السعادة إلا بها، لذا جعل “الفارابي” من السعادة أساسا للحكم في دولته، والسعادة هي الخير المطلوب لذاته، وليست تُطلب أصلاً ولا في وقت من الأوقات ليُنال بها شيءٌ آخر، وليس وراءها شيء آخر يمكن أن يناله الإنسان أعظم منها.
(1) هذا هو العدد الأخير من المجلة، التي بدأ صدورها عام 2002، والتي كانت تصدر في السابق باسم “التسامح”، وتغير اسمها إلى التفاهم منذ العدد (30)
(2) أبو الحسن محمد بن أبي ذر يوسف العامري النيسابوري من فلاسفة القرن الرابع الهجري. ولد في مطلع مدينة نيسابور في مطلع القرن الرابع الهجري. وتوفي عام 381 هـ