أقام مركز ابن خلدون للعلوم الإنسانية والاجتماعية بجامعة قطر محاضرة علمية بعنوان “تاريخ الشريعة في القرن التاسع عشر: تحولات التقنين والتأميم” قدمها الأستاذ حسن الرميحي، الباحث الأكاديمي في كلية الشريعة والدراسات الإسلامية بجامعة قطر، وتناولت المحاضرة قضية التقنين والتأميم، وهما عمليتان أثرتا بشكل كبير على مسار الشريعة الإسلامية في القرن التاسع عشر.
وقد ركز المحاضر على شرح كيفية التقنين التي أدت إلى إخراج الفقه من المشهد القانوني، و التأميم التي أفقدت الاستقلالية عن الفقيه والمؤسسات الشرعية مما ساهم في إضعاف الشريعة الإسلامية داخل المجتمعات الإسلامية. كما شدد على أهمية دراسة تاريخ الشريعة الإسلامية في هذا القرن، خاصة أن هذه الفترة لم تحظَ بالبحث الكافي في الدراسات الإسلامية المعاصرة.
أهمية القرن التاسع عشر في تاريخ الشريعة
أكد الأستاذ حسن الرميحي أن القرن التاسع عشر شهد تحولات جذرية في بنية الشريعة الإسلامية، حيث لم يعد الفقه هو المرجع الأساسي في تنظيم حياة المسلمين كما كان سابقًا. ففي الفترات السابقة، كان الفقيه يحتل موقعًا مركزيًا في المجتمع، وكان القضاء الشرعي والأوقاف الإسلامية يضمنان استقلاليته. إلا أن هذا الوضع بدأ بالتغير بشكل جذري في القرن التاسع عشر نتيجة التأثيرات الاستعمارية والإصلاحات القانونية التي تبنتها الدولة العثمانية وبعض الدول الإسلامية الأخرى.
كما أشار إلى أن هذا القرن شهد أحداثًا كبرى متزامنة أثرت على الشريعة، مثل:
- حركة الإصلاح الديني التي قادها الشيخ محمد بن عبد الوهاب.
- حملة نابليون على مصر، وما تبعها من تغييرات قانونية وإدارية.
- مشروع التحديث العثماني، الذي أدى إلى إدخال القوانين الغربية إلى النظام القانوني الإسلامي.
- الاستعمار الأوروبي، وخاصة البريطاني في الهند والفرنسي في الجزائر، وما صاحبه من محاولات لفرض القوانين الأوروبية على المسلمين.
وقد طرح الأستاذ حسن الرميحي تساؤلًا جوهريًا حول أسباب غياب الدراسات الإسلامية الجادة التي تتناول ما حدث للشريعة خلال هذا القرن، رغم أن المستشرقين كتبوا عنه بتفصيل كبير.
التقنين: تحوّل الفقه الإسلامي إلى قوانين مكتوبة
ناقش المحاضر كيف أدى تقنين الفقه الإسلامي إلى تغييرات جوهرية في طريقة تطبيق الشريعة. فبدلًا من أن يكون الفقه منظومة مرنة قائمة على الاجتهاد والتطور، أصبح مجموعة مواد قانونية ثابتة تُطبق بطريقة أقرب إلى القوانين الوضعية.
وقد أشار المحاضر إلى أن التقنين لم يكن مجرد تطوير إداري، بل كان جزءًا من عملية فصل الفقه عن الحياة العامة. ومن أبرز الأمثلة التي ذكرها:
- مجلة الأحكام العدلية، التي كانت أول محاولة لصياغة الفقه الحنفي في صورة قانونية موحدة.
- التقنين للفقه الحنفي في الهند، حيث ترجم البريطانيون كتب الفقه إلى الإنجليزية والفرنسية، لكنهم استخدموها بشكل يتناسب مع نظامهم القانوني الاستعماري حد الآثار الخطيرة للتقنين، كما أوضح المحاضر، هو أنه ألغى دور الفقيه كمجتهد مستقل، وحوّل القضاء الشرعي إلى مؤسسة تتبع الدولة، مما أفقده مرونته الفقهية.
التأميم: فقدان استقلالية المؤسسات الشرعية
تناولت المحاضرة أيضًا قضية تأميم المؤسسات الشرعية، حيث فقدت الأوقاف الإسلامية استقلالها، وأصبحت تحت إدارة الدولة المركزية الحديثة. في السابق، كانت الأوقاف توفر للفقيه الاستقلال المالي، مما مكّنه من ممارسة دوره دون تدخل. إلا أن تأميم الأوقاف أدى إلى إضعاف العلماء والمؤسسات الدينية، وتحويلهم إلى مجرد موظفين في الدولة.
وأشار الأستاذ حسن الرميحي إلى أن هذا التأميم لم يكن مجرد قرار إداري محلي، بل كان جزءًا من مشروع استعماري أوسع، حيث قام الاستعمار الأوروبي بإلغاء نظام الوقف أو تعديله بحيث لا يعود له الدور المركزي في تمويل التعليم والقضاء الشرعي.
وقد أدى هذا التأميم إلى تحولات فكرية داخل المجتمعات الإسلامية، حيث بدأ بعض العلماء المسلمين أنفسهم يتأثرون بالمفاهيم الغربية، إلى درجة أن بعضهم بدأ يشكك في دور الفقه الإسلامي في السياسة والقضاء، وهي ظاهرة لم تكن معروفة في القرون السابقة.
ثم ناقش الأستاذ حسن الرميحي الكيفية والأساليب التدريجية التي سلكها الاستعمار الأوروبي في استبدال الفقه الإسلامي بالقوانين الوضعية. وكان أحد هذه الأساليب هو إنشاء المحاكم المختلطة التي كانت تضم قضاة أجانب إلى جانب القضاة المسلمين، مما أدى إلى إضعاف سلطة القضاء الشرعي.
ومن المفارقات التي ذكرها المحاضر أن الفقه الإسلامي لم يكن معيقًا للتطور، كما يروج له بعض المستشرقين، بل كان نظامًا قانونيًا متكاملًا سمح للمجتمعات الإسلامية بالازدهار لقرون طويلة. لكن مع إدخال القوانين الأوروبية، تم تهميش الفقه الإسلامي حتى أصبح مقتصرًا على قضايا الأحوال الشخصية والميراث.
نقد التقنين والتأميم وآثارهما
أوضح الأستاذ حسن الرميحي أن التقنين والتأميم لم يؤديا إلى تطوير الفقه الإسلامي، كما كان يُروج له، بل على العكس، أديا إلى إضعاف مكانة الشريعة في المجتمع الإسلامي. ومن أبرز الآثار التي ترتبت على ذلك:
- تحويل الفقه من نظام مرن إلى قوانين جامدة، مما قلل من قدرة القضاة على الاجتهاد.
- إخراج الفقه من الحياة العامة، بحيث أصبح جزءًا من التاريخ، وليس نظامًا قانونيًا حيويًا.
- فقدان استقلالية القضاء الشرعي.
- تحويل العلماء إلى موظفين بعد أن كانوا مستقلين ماليًا وفكريًا.
النتائج والتوصيات
في ختام المحاضرة، شدد الأستاذ حسن الرميحي على أهمية إعادة دراسة التحولات التي طرأت على الشريعة الإسلامية في القرن التاسع عشر، وعدم الاكتفاء بالروايات الاستشراقية التي تصور ما حدث وكأنه حتمية تاريخية لا يمكن تجنبها.
واقترح بعض التوصيات، منها:
- ضرورة إعادة قراءة تاريخ التشريع الإسلامي من منظور إسلامي، وليس فقط وفق التصورات الغربية.
- دراسة الآثار القانونية والاقتصادية لتأميم الأوقاف، وكيف أثرت على استقلالية العلماء والقضاء الشرعي.
- البحث في سبل استعادة الشريعة الإسلامية إلى دورها الأساسي في النظام القانوني، بما يتناسب مع تحديات العصر.
الخاتمة
سلطت المحاضرة الضوء على واحدة من أهم المراحل التاريخية التي مرت بها الشريعة الإسلامية، وهي مرحلة التقنين والتأميم، التي أدت إلى إضعاف دور الفقه الإسلامي في المجتمعات الإسلامية. وأكد المحاضر أن فهم هذه المرحلة ضروري إذا أردنا إعادة الاعتبار للشريعة، ليس فقط كنظام قانوني، ولكن كمكون أساسي للحضارة الإسلامية.