تطرح منى أبو الفضل مجموعة من المحددات المنهجية لموضوع الأمة القطب والتى يدرسها حسب ما تسميه “الباحث المتفقه” والذى يعمل على تحويل الأمة موضوعاً من “ظاهرة” إلى “مفهوم” والارتقاء بالأمة من مستوى الوجدانية إلى مستوى الوحدانية، وتشير – أيضاً – أن أهمية هذا الطرح المنهاجي تتحدد فيما يلي:
1- أن موضوع الأمة يمس الذات – الكيان الذاتي الجماعي العربي.
2- السؤال هو : كيف لنا أن ننتقل بهذه الذات الجماعية من مستوى اللاشعور واللاوعي، إلى مستوى الشعور الواعي والإدراك المتفقه ؟
3- والرد : أن ذلك يستوجب تحويل الأمة من ظاهرة حسية وجدانية إلى مفهوم عقلي منطقي.
4- وتعقيبًا على ذلك…فإن هذه العملية ليست فقط ضرورية، يفرضها منطق العصر، ولكنها كذلك متاحة وممكنة بحكم الشروط والإمكانيات التى تتوفر لدينا في هذا العصر.
5- وهذه الدعوة تقتضى استثمار إمكانات العصر في حل مشكلاتنا، والمنهج العلمي من بين هذه الإمكانيات. وعلى رأس هذه المشكلات الاجتماعية والسياسية – بل والإنسانية – مشكلة الانتماء ومشكلة الهوية.
6- إن طرح موضوع الأمة على المستوى الفكري والعلمي هو المدخل العلمي لحل هذه المشكلة.
هذا الطرح المنهاجي الذى يمزج بين “الشعور” و”الوعي” و”المنهج العلمي” و”الانفتاح”، نحو إيجاد حلول للمشكلات هو المنطلق الفكري الذى قدمته منى أبو الفضل لمعالجة مفهوم”الأمة”، والذى طرحته طرحاً متجدداً في عدة تساؤلات : أين موضع الأمة من الإسلام؟ وأين موقع هذا الكيان الجماعي من الكيانات الجماعية الأخرى؟ ثم، ما الخصائص التكوينية والحيوية لهذا الكيان؟ وما الذى يحفظ على هذا الكيان جوهره ويؤمن له استمراريته؟ وأين يلتقي هذا الكيان المحوري الذى نؤصل له من “الأمة الوسط” ؟ وأين ذلك – أيضًا- من الإطار الدولي المعاصر من منطلق تيار المد الإسلامي المشهور ودلالته بالنسبة للأمة، وأين موقع الأمة منه؟
بهذه التساؤلات حاولت وضع الملامح العريضة لموضوع “الأمة ” باعتباره من “موجبات البحث في الدعوة والعقيدة” من ناحية، وحاجة المفهوم ذاته لمزيد من التأصيل والبلورة.
ومن ناحية منهجية أخرى: ترفض ذلك الفصل الذى حدث بين العلوم الإسلامية (الشرعية) وبين العلوم الاجتماعية والسياسية الحديثة والذى رأته نتاج لتيارات “التحديث” و”العصرية” و”العلمنة” و”التغريب” والذى من أهم تبعاته فصل “الدين عن الدولة”، وباعتبار أن الأمة موضوع ديني بالأساس فهي تتبنى ذلك “الدمج” أو “التكامل” بين “المعارف – التقليدية الدينية” و”المعارف الحديثة”. وهى في ذلك تقدم “الأمة” ليس فقط كمفهوم نظري؛ بل أيضاً كعامل مفسر لظواهر الاجتماع السياسي الإسلامي. (كما فسرت به ظاهرة المد الإسلامي الإحيائي المعاصر).
موجبات البحث في العقيدة والدعوة
تحت هذا العنوان بدأت منى أبو الفضل الإجابة على التساؤلات التى طرحتها، ورأت أن البحث في مفهوم “الأمة” إنما هو من “موجبات البحث في العقيدة والدعوة” مؤكدة على النهج الفكري الذى يرى أن “الإسلام عقيدة ودعوة، نظامًا ومنهاجًا” وهى المقولة التى أطلقها حسن البنا في بداية القرن العشرين والتى رأت في الإسلام نظامًا شاملًا يصل الدنيا بالآخرة من خلال منهج فكرى يقوم على “التوازن” و”الواقعية” كما أشار إليها سيد قطب لاحقًا، وهذه الخاصية الأخيرة “الواقعية” رأت فيها المؤلفة ضرورة الالتزام بها في المنهاجية التى ترصد مفهوم “الأمة”.
وهذه “الواقعية” جعلت المؤلفة تأخذ في عين الاعتبار حيوية الإطار الدولي الذى نعيشه اليوم وسط مد إحيائي إسلامي، بدأ منذ السبعينات حيث برز الإسلام كقوة سياسية مؤثرة على المستوى المحلى والدولي، والذى أدى إلى بلورة رأى عام إسلامي – منظم وغير منظم – يسعى للتأثير على الحكومات والنظم، كما أصبح لهذا المد الإسلامي قوة جماهيرية “العنصر الشعبي”.
وفى ضوء هذه “الواقعية” كان من الطبيعي التدبر والتفكر حول ظاهرة استوقفت البصر وحركة البصيرة وتجريد المفاهيم وتأصيلها في نطاق العقل المجرد والمنطق العلمي بحثًا عن تعليل وتفسير لظاهرة (الأمة) كجماعة حضارية سياسية على هذا القدر من الاستمرارية والتواصل وتحدد المؤلفة مرجعها الأساس في المصادر الرئيسية لهذه الظاهرة (الأمة) في القرآن والسنة، وفى الخبرة التاريخية المعاشة عند نشأة الجماعة السياسية الأولى في دولة المدينة.
موضع الأمة في الإسلام
تطرح منى أبو الفضل فرضية أساسية قبل تناول مفهوم الأمة القطب ومعالجته، وهذه الفرضية ترى “أن الجماعة السياسية في الإسلام تجاوز الحقيقة التاريخية الموقوتة بماضٍ ولى إلى واقع تعايشه اليوم وهى في طور من الحيوية المتدفقة بعد أن أصابها شئ من الوهن والانطواء”. وهى في ذلك ترسم منحى فكريًا لهذه المقولة أو الفرضية – على حد تعبير المؤلفة – تظهر ملامحه في أن الرسول (ﷺ) قد خلف وراءه عند وفاته “أمة” قبل أن يخلف إمامًا. وأنه لو لم تكن الأمة لما وجب من يؤمها. وبالتالي فإن وجود الإمام وجود منسوب أو مشتق – والأمة أو الجماعة تصير هي الأصل.
والأمة بهذا المعنى كما تراه هي المستودع للرسالة المحمدية، أي أن الأمة وعاء القرآن. ومن ثم فبقاء الأمة ليس مرهوناً ببقاء الإمام – وهو المعنى الذي أكدته الدراسة في أكثر من موضع – إنما هو مرتبط بالعلة وهو القرآن الكريم. أما اختفاء الإمام فهو أمر وإن أضعف وحط من فاعلية الأمة – بحكم أن الإمامة هي الرمز المجسد للأمة والمتمثل لها وأداتها التنفيذية التى تقوم بمصالحها – إلا أنه مع ذلك لا ينفى وجودها الذى يعد هو ذاته ضماناً لتجددها.
هذا الوعي المنهجي يمكن أن نصفه بأنه “متفرد” فالتمييز بين وجود “الأمة” ووجود “الدولة” يعد أمراً لازماً انطلاقاً من مبدأ “الواقعية” الذى انطلقت منه في بداية طرحها،فهو أيضًا معالجة نفسية وجدانية ، بالإضافة إلى كونه طرحًا عقليًا مفاهيمًيا منطقيًا يعالج ما أصاب العالم الإسلامي (الإنسان والجماعة) عقب انهيار وسقوط الدولة أو الخلافة في بداية القرن العشرين.
وفى ضوء هذا الوعي المنهجي – أيضًا – تؤكد المؤلفة – على الأساس الاجتماعي للأمة، والذى يرتكز في تماسكه على عقيدة إيمانية شاملة مصدرها رباني، ومجالها كافة أوجه الحياة الدنيا في منظور أخروي.
أضافت منى أبو الفضل بعدًا آخر لمفهوم الأمة في الإسلام وهو بعد “الفاعلية” والذى يظهر في “تفاعل” الرسالة” و الرسول فيما قدر له أن يكون ختاماً لعهد النبوة ومقدمة لعهد البشرية بالمنهجية القرآنية , ذلك التفاعل الذى أخرج كياناً حيوياً متماسكًا له مميزاته التى لا تحكمها المؤثرات البيئية والنوعية. ومن ناحية أخرى تشير إلى خصوصيات الأمة الكيانية أنها على مستوى التعايش الزمني لواقع اجتماعي حضاري متجدد، وعلى مستوى الرصد والتسجيل لهذه المعايشة في الذاكرة التاريخية للجماعة، فإن الأمة تشارك سائر الأمم في كونها حقيقية تاريخية. أما على مستوى التواصل الزمني، وفى إطار تجاوزها للتعدد والتنوع الجماعي والحضاري، فإن الأمة تستقل عن غيرها من الأمم وتستأثر ببعد موضوعي يطلقها من النسبية التاريخية. وهو ما يمكن أن نطلق عليه “المشاركة” و”التميز”.