انتقل صبيحة اليوم الثلاثاء 17 شوال (بتقويم أم القرى، 16 في الهند) سنة 1438 شيخنا الإمام المحدث المحقق الجهبذ القدوة الزاهد محمد يونس بن شَبّير أحمد بن شير علي الجَوْنْفوري السَّهَارَنْفوري، شيخ الحديث في جامعة مظاهر العلوم بسَهَارَنْفور، وشارح صحيح البخاري وغيره، بل أحد أبرز المتخصصين فيه منذ دهر، رحمه الله تعالى رحمة واسعة، وأسكنه فسيح جناته.
وُلد شيخنا رحمه الله في قرية كُورَيْني قرب جَونفور، خامس عشري رجب سنة 1355، توفيت أمه وهو ابن خمس، فربته جدته لأمه، وكانت من الصالحات، فتربى في بيئة متدينة، ثم التحق بالكتاتيب وأخذ فيها القراءة والكتابة والمبادئ، وبعدها انتقل إلى مدرسة ضياء العلوم بماني كلان قرب قريته، واستزاد من العلوم فيها، وأكثر استفادته فيها من الشيخين ضياء الحق الفيض آبادي، وعبد الحليم الجونفوري، رحم الله الجميع.
ثم التحق بجامعة مظاهر العلوم في سهارنفور في شوال سنة 1373، وتخرج منها بعد ثلاث سنين، وتضلع من العلم، خاصة من الحديث الشريف.
ولازم عدداً من الأكابر، منهم شيخ الحديث محمد زكريا الكانْدِهْلوي، أخذ عنه قراءة وسماعاً جميع البخاري، وبعض مقدمة مسلم، ونصف سنن أبي داود، والرسائل الثلاث، والسنبلية – وغيرها، وأجاز له عامة.
ومنهم العلامة محمد أسعد الله الرامْفُوري، أخذ عنه سنن أبي داود إلا قدر صفحة من كتاب الصلاة، وأول صحيح البخاري، وشرح معاني الآثار إلى نهاية كتاب النكاح، واستفاد منه كثيرا، وأجاز له عامة.
ومنهم الشيخ منظور أحمد السهارنفوري، أخذ عنه صحيح مسلم بفوت نحو 6 صفحات أواخره ومن كتاب الصلاة، والموطأ رواية الشيباني، وأجاز له عامة.
ومنهم الشيخ أمير أحمد بن عبد الغني الكاندهلوي، أخذ عنه قراءة وسماعاً سنن الترمذي والشمائل، والنسائي، وابن ماجه، والموطأ رواية يحيى إلى كتاب الحج، والمشكاة، ونزهة النظر، وأجاز له عامة.
وحضر ختم البخاري في دار العلوم بديوبند على الشيخ فخر الدين أحمد المراد أبادي، وسمع أوائل الستة على العلامة محمد حسن بن حامد الكنكوهي، وأجازا له عامة.
واستجاز في الكبر من المشايخ عبد الفتاح أبو غدة، وعبد الله الناخبي، وأحمد علي السورتي، وعبد الرحمن الكتاني، وغيرهم.
ظهر نبوغ الشيخ وتميزه مبكراً، ولا سيما في الحديث وتحقيق مسائله، وكان بعض كبار شيوخه يرجع إليه ويسأله ويعتمد عليه، ومنهم شيخه محمد زكريا، وتوجد عدة أسئلة موجهة منه لتلميذه مقرونة بعبارات التقديم والتبجيل.
وتم تعيينه مدرساً في الجامعة في شوال سنة 1381، في تدريس صحيح مسلم، وسنن أبي داود، والنسائي، وابن ماجه، والموطأ بروايتيه، وعددٍ من كتب الفقه وأصوله.
ولما أراد الشيخ محمد زكريا الجوار في المدينة استخلف محله الشيخ يونس شيخًا للحديث ومدرسا للبخاري في تلك الجامعة الكبرى، في شوال سنة 1388، مع وجود بعض كبار الأساتذة وكبار أصحابه، وكذلك فقد كتب له رسالة في 27 رجب 1387 وأمره ألا يفتحها إلا بعد أربعين سنة، وبعد أن حان موعدها وُجد فيها: بارك الله في حياتك، وجعلك مشتغلاً معنيًّا بالأمور الميمونة المباركة إلى مدة طويلة، وحينما تبلغ السابعة والأربعين ستتقدم عليّ وتسبقني. ويُرجى أن ذلك قد تحقق بمن الله وفضله.
تأثر الشيخ يونس كثيراً بأئمة الحديث الأوائل، وبالإمامين ابن تيمية وابن حجر، وكان بحراً في علوم الحديث ورجاله وتحقيق مسائله، ما فترت عنايته إلى آخر حياته في تتبع آثار المحدّثين وما يستجد إصداره والعثور عليه من كتبهم، شديد الفرح بذلك.
وقد كتبتُ شيئاً من ذلك ومواقف عديدة عنه في مقدمتي لثبت شيخنا المسمى الفرائد، من تخريج تلميذه الشيخ البحاثة المفيد د. محمد أكرم الندوي، فإنه خرج له ثبتاً مفيداً، وضمنه ترجمة شيخنا، مما أفدت منه هاهنا، وكان أكرمني بتكليفي بكتابة مقدمة له، وطُبعت قبل سنتين، فلا أكُرر المواقف والانطباعات التي ذكرتُها هناك، وأحيل عليها، ففيها مواقف عديدة وقصص عن شخصيته النادرة، وعلمه، وإنصافه، وتحقيقه، وانتصاره للسنّة قولاً وعملاً وسلوكاً واعتقاداً.
كتب شيخنا رحمه الله رسائل وأبحاثاً عديدة ومفيدة، بالعربية والأوردية، جمع كثيراً منها تلميذه البار شيخنا محمد أيوب السورتي، وطبع منها أربع مجلدات باسم اليواقيت الغالية، كما جمع كبار أصحاب شيخنا تقريراته الكثيرة على الكتب، وشُرع في طباعة شرح صحيح البخاري منها، طبع منه مجلد بالعربية من أول الكتاب، ومجلد لشرح آخره بالأوردية، وهي كذلك بعناية الشيخ محمد أيوب، وبمراجعة شيخنا رحمه الله، وكان مغتبطا بطباعته، وفيه من التحقيقات والفوائد ما لعله لا يوجد في الشروح.
وأما إقراء الحديث وتدريسه فهو من سنة 1381 حتى آخر أيامه، ومن ذلك أتم تدريس البخاري خمسين دورة، سوى ما قرئ عليه في أسفاره في الحجاز وإنجلترا وغيرهما، ومنه سفره لهما قبل شهرين، وقد اتصلتُ عليه يوم عيد الفطر عندهم -أي منذ أسبوعين فقط- وحدثنا وجملة من الأصحاب بمسلسل العيد وغيره، وكان مغتبطاً مسروراً، ودعا بخير، وكان ذلك آخر عهدي به رحمه الله تعالى ورضي عنه، وجزاه عني وعن طلبته خيراً.
عانى شيخنا رحمه الله من الأمراض غالب عمره، واشتد به الأمر أواخر حياته، وكم مرة تراجعت حاله جدًّا وشارف على الموت، ثم يعافيه الله وينشط، إلى أن انتقل إلى رحمة الله صبيحة الثلاثاء في سهارنفور، وما أن توفي إلا وانتشر خبره في أرجاء الأرض، وتأثر به طلبته ومحبوه وما أكثرهم، وتدفق الناس إلى مكانه، وصار الناس يرسلون التعازي لبعضهم بعضاً من أنحاء الأرض، وصُلي عليه عصراً في سهارنفور، وشهدها خلق غفير من مناطق الهند، وتأسف الناس لفقده، بكت العيون وتألمت القلوب، وما خلف في مجموعه مثله رحمه الله، ويصعب أن يأتي مثله إلا أن يشاء الله الكريم.
كتبه محمد زياد بن عمر التكلة