كان ظهور الموحدين على مسرح الأحداث وليد طموح سياسي لرجل حرّكته رغبة عنيفة للانتفاع بقوة قبيلته مصمودة وإنشاء دولة، مثلما تمكن عبد الله بن ياسين من تجميع قبائل صنهاجة لإنشاء دولة المرابطين.وشكّل توقيت ظهوره نكبة لدولة مجاهدة يقودها الأمير علي بن يوسف بن تاشفين، ويرجع لها الفضل في الوحدة العقدية السنية لبلاد المغرب الأقصى. شنّ محمد ابن تومرت حربا بغير ضرورة، كما يرى الدكتور حسين مؤنس(1)، فقضى أتباعه من بعده على دولة في عنفوان كفاحها وتوطيدها لدعائم الاستقرار السياسي والديني. ولم يكن واردا بطبيعة الحال أن يلقى الوضع الجديد قبولا من لدن عالم رباني، ذاعت صلابته في الحق بين الناس، فكان أن تعرض القاضي عياض رحمه الله لمحنة شديدة، سطرتها كتب التاريخ في ديوان علماء عاملين، لا تأخذهم في الله لومة لائم.
ولد عياض بن موسى اليحصبي السبتي ونشأ في كنف عائلة وجيهة بمدينة سبتة سنة476 هـ، وبها تلقى العلم على يد عدد من شيوخها ومن العلماء الوافدين عليها من المشرق والأندلس.
ولما بلغ الثلاثين من عمره رحل إلى الأندلس للقاء نخبة من حُفاظها وفقهائها في قرطبة ومرسية وإشبيلية، حتى إذا اطمأن إلى سعة حصيلته العلمية، قرر العودة إلى سبتة لتولي مهام التدريس والتأليف، ثم القضاء الذي اجتهد في النهوض بمسؤولياته حتى اشتهر بين الناس بحزمه وعدله، وصلابته في الدفاع عن الحق. فصار لقبا لا يفارقه رغم عطائه العلمي الزاخر في علوم الحديث واللغة والفقه.
تميز القاضي بعقلية نقدية تناقش وتفاوض، ولا تهدأ حتى يتبين لها الحق. كما انتهج سبيل الإصلاح الاجتماعي والسياسي مدافعا عن آرائه، ورافضا لكل مخالفة تمس مبادئ الدين وأركان الشريعة. هذا الامتداد والتأثير الذي يتخطى مجالس العلم ليحفز وعي الناس وسلوكهم اليومي، سيجعل للقاضي عياض حضورا وازنا في المشهد العام، ومن الطبيعي أن يُعرضه لمحن وابتلاءات لعل أشهرها موقفه من الموحدين غداة ظهورهم كقوة معارضة لدولة المرابطين.
كان المنطلق الديني للحركة الموحدية قائما على إثارة اللغط حول عقيدة المرابطين، كاتهامهم بالتجسيم، وادعاء تقصيرهم في الدفاع عن الإسلام وجواز قتالهم. ورغم التشويش الذي طبع دعوة بن تومرت، وطموحه السياسي الذي اتخذ من إثارة الشبهات العقدية وسيلة لتبرير معارضته، إلا أن أتباعه تمكنوا من إنهاء حكم المرابطين ودخول عاصمتهم مراكش سنة 541هـ، بقيادة عبد المومن بن علي.
لم يكن عبد المومن يملك عصبية قبلية وسط قبائل مصمودة، فكان لزاما عليه التمسك بالعصبية العقدية لكونها الأقدرعلى الصمود كما يرى ابن خلدون. وحتى يتأتى له ذلك كان عليه تحييد دور العلماء الذين يحذرون الناس من فتنة الموحدين على دينهم، ومن المخالفات العقيدية التي يروجون لها، كالإمامة والعصمة وما يستتبع ذلك من إراقة دماء الفقهاء والقضاء على المذهب المالكي.
وما إن توجه عبد المومن لضم سبتة حتى اجتمع أعيانها تحت قيادة القاضي عياض لصد الموحدين، وخاضوا ضدهم نزالا عنيفا. فلما قويت شوكة عبد المومن بعد استيلائه على مدن أخرى، بالإضافة إلى قوة جيشه النظامي، اضطر أهل سبتة لمبايعته، وبادر القاضي عياض إلى لقائه بمدينة سلا لحقن الدماء.
تجددت ثورة سبتة مجددا بالنظر إلى القلاقل والفتن التي عمّت المغرب آنذاك، خاصة التمرد الذي قاده محمد بن هود الماسي سنة 524هجرية، وأقبل عليه الناس حتى لم يبق تحت سيطرة الموحدين سوى مراكش وفاس. فثار عامة الناس على عامل الموحدين بالمدينة، وأحرقوه هو وحاميته بالنار. أما القاضي عياض فتُبرئه المصادر التاريخية من هذا الفعل الشنيع الذي لا يليق بعالم جليل، وتنسبه لرعونة الدهماء الذين ينسفون في العادة مبادئ الثورة لتجرف في سبيلها الأخضر واليابس.
تمكن عبد المومن من إحكام قبضته مجددا على الوضع، فرأى عياض أن يتحمل وزر هذا التمرد حقنا لدماء الأهالي، خاصة وأن الأسماع تلقفت دون شك أخبار المجزرة المروعة التي ارتكبها جنود عبد المومن في مراكش، حيث تمت تصفية أهالي المدينة وسبي نسائهم، ودك العمران الذي بناه المرابطون. فلما قدم وجهاء سبتة وجددوا بيعتهم عفا عنهم عبد المومن، لكنه أمر القاضي عياض بالبقاء بمراكش حيث ولاه قضاء قرية صغيرة تسمى داي ببادية تادلة كإجراء عقابي.
قد يثار تساؤل حول سبب نقض القاضي عياض لبيعته، وهو من هو علما وقدرا ومكانة في قلوب المغاربة، حتى قيل “لولا عياض لما عُرف المغرب”؛ وهنا يستوقفنا رد أبي العباس الناصري في كتابه (الاستقصا) مؤكدا شرعيته. فالقاضي عياض يرى أن الموحدين لا حق لهم في هذا الأمر لأنهم متغلبون، ومادام الحاكم الشرعي حيا فلا يعدل عن بيعته إلى غيره.
أما بعد أن قويت شوكتهم وتمكنوا من بسط نفوذهم على البلاد وتصفية أميرها تاشفين، فلامناص من البيعة، لأن من قويت شوكته وجبت طاعته. ثم لما ضعف أمر الموحدين بسبب الثورات والقلاقل، كان الرجوع عن بيعتهم إلى طاعة المرابطين الذين لهم الحق في الإمامة بطريق الأصالة. وحيث حصل التغلب مرة ثانية وجبت الطاعة. والحاصل يقول الناصري، أن ما فعله عياض أولا وثانيا وثالثا كله صواب موافق للحكم الشرعي، فهكذا ينبغي أن تفهم أحوال أئمة الدين وأعلام المسلمين(2)
كان جو العداء للسلطة الجديدة تحكمه المشاعر الدينية، فالموحدون برروا انقلابهم بغطاء ديني، حتى أنهم حملوا هذا اللقب تمييزا لهم عن غيرهم من مسلمي البلد. وكان المذهب المالكي مستهدفا باعتباره أحد الركائز الأساسية للجهد الذي بذله المرابطون في سبيل تحقيق وحدة دينية. وحتى يتم الإجهاز عليه كان يجب التخلص من رموزه، وفي مقدمتهم بطبيعة الحال القاضي عياض.
ينضاف إلى ذلك شخصية عياض التي لا تهادن في الحق، ولاترضى بأنصاف الحلول حين يتعلق الأمر بجناب الشريعة. ويصفه ابنه محمد بأنه كان “هينا لينا من غير ضعف، صلبا في الحق، لا تأخذه في الله لومة لائم. وكان يأخذ أموره بالملاطفة والسياسة ما أمكنه، ويحل الأمور كذلك ما استطاع وإلا تقوى. وكان يلاطف الأمراء، فإن امتنعوا عن الحق تقوى عليهم، غير هيوب له، مقداما عليهم في صدهم عن الباطل..”(3). ولعل من صور هذا الإقدام إقامته الحد على الفتح بن خاقان، فخر أدباء الأندلس وأحد أشهر كُتابها، لما تنسم منه الحاضرون في مجلس القضاء رائحة الخمر. وكان الفتح مقربا من أصحاب النفوذ والسلطان، يتوددون إليه ويجزلون له العطاء خوفا من هجائه وقلمه الموجع.
قيل في وفاة القاضي عياض أنه أُمر بالخروج مع الأمير في إحدى غزواته، لكنه مرض في الطريق فعاد إلى مراكش حيث توفي ودفن بها سنة 544هـ. أما الإمام الذهبي صاحب “سير أعلام النبلاء” فينقل أنه قتل بالرماح لرفضه القول بعصمة محمد بن تومرت،وفي روايات أخرى أنه مات مسموما أو مخنوقا، وأبيح مدفنه وما حوله ليستولي عليه النصارى، قبل أن يظهر قبره زمن الدولة المرينية، وتُبنى عليه قبة عظيمة.
إن محن العلماء ومواقفهم في وجه الانحراف العقدي والسياسي والاجتماعي بكل صوره هي دروس متجددة، لا ينبغي أن تطويها صحف التاريخ، أما تغييبها فيُحدث في ذاكرة الأجيال ثقبا أسود، يصرف الهمم عن معالي الأمور، ويذيب الشخصية والهوية في حامض التبعية والإخلاد إلى الأرض.
ما من ابتلاء أو محنة لقيها عالم من علماء الأمة إلا وخلفها لسان ناطق، يردد مقولة المقداد بن عمرو رضي الله عنه: “لأموتن والإسلام عزيز”. لذا كان الحافظ ابن ناجي التنوخي يُنوه بثبات علماء القيروان أمام فتنة العبيديين قائلا:” جزى الله مشيخة القيروان: هذا يموت، وهذا يضرب، وهذا يسجن، وهم صابرون لا يفرون، ولو فروا لكفرت العامة دفعة واحدة”.