تواجه المرأة في وطننا العربي والإسلامي مشكلات وتحديات، تعرقلها عن أداء دور فاعل في المجتمع، وعن التعبير بصدق عن قيمها وثقافتها الإسلامية؛ بحيث لا تكون ملحقة بغيرها، ولا ذائبة في قوالب أخرى.

وفي هذا المقال نقدم عددًا من المراجعات التي تتصل بدور المرأة، وهويتها، والعقبات التي تفرض نفسها عليها..

المراجعة الأولى

من المهم أن نشير، في البداية، إلى أن هموم الإنسان المعاصر- رجلاً كان أو امرأة، عاملاً أو عاطلاً، حاكمًا أو محكومًا- باتت متقاربة، وصارت الفجوة قليلة جدًّا بين هذه الهموم باختلاف أماكن أصحابها..

ولذا، نستطيع أن نقول إن هموم المرأة في الشرق أو الغرب، في الشمال أو الجنوب، لا تختلف- في جوانب كثيرة منها- في النوعية، بقدر ما تختلف في الدرجة.. وهذا يؤشر إلى أن الأزمة التي نحياها هي أزمة عالمية في مداها الأوسع، وأزمة حضارة معاصرة في عمقها الغائر.. وعلينا أن نكون على هذا المستوى من التحديات، خاصة ونحن أصحاب رسالة عالمية خاتمة، تتجاوز الأزمان والأقطار.

المراجعة الثانية

إن مشكلة المرأة ليست مشكلة تخص بني جنسها وحدهن، بل تشمل بجوارهن مشكلةَ الرجل أيضًا.. فليست المرأة وحدها من تعيش مأزقًا حضاريًّا، بل الرجل كذلك..

هي إذن مشكلة مجتمع بأكمله، ومشكلة حضارة معاصرة، كما سبقت الإشارة.. ومن هنا، يخطئ البعض حين يحاول معالجة مشكلة المرأة بمنأى عن حل مشكلة الرجل، أو يحاول حلها على حساب شريكها في الحياة..! فنرى- طبقًا لهذا الخلل في التصور- صراعًا في المجتمع لا سعيًا نحو الحل! كلُّ طرف يحاول أن يزيد مساحته ويضاعف مكتسباته على حساب الطرف الآخر؛ كأنهما طَرَفَا صراع، وليسا طرفَيْ شراكة، أو طرفَيْ معادلة متكاملة لا متضادة..!

التصور الأمثل لحل لمشكلة المرأة، يكمن في البحث عن حلول للمجتمع بأكمله.. فكما يقول مالك بن نبي: “ليست مشكلة المرأة شيئًا نبحثه منفردًا عن مشكلة الرجل؛ فهما يشكلان في حقيقتهما مشكلة واحدة، هي مشكلة الفرد في المجتمع”([1]).

بجانب ذلك، من المهم أيضًا- ونحن نبحث عن الحل- أن ننظر للمرأة باعتبارها شريكًا ومكمِّلاً للرجل، وليست خصمًا ومناقضةً له.. كما تحاول أن تروِّج الفلسفات الغربية التي تقوم في مجملها على فكرة “الصراع”.. الصراع مع الطبيعة.. الصراع بين الطبقات.. الصراع بين الإنسان وذاته.. بل الصراع بين الإنسان والإله..!

أما في التصور الإسلامي، فلا تجد فكرةُ الصراع مبررًا مقبولاً.. بل إن الإسلام ليعبِّر عن أشد حالات “الصراع” عنفًا وتجاذبًا، بـ”التدافع”، كما في قوله تعالى: {وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُم بِبَعْضٍ لَّفَسَدَتِ الأَرْضُ وَلَكِنَّ اللَّهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى العَالَمِينَ} (البقرة: 251).. بما يعنيه “التدافع” من عدم اعتداء، ومن اعتراف بالآخر؛ فالأمر ليس صراعًا يطيح فيه الأقوى بحقوق الآخرين أو يهدف للقضاء عليهم.. ولهذا، كان التدافع مرتكزًا على التعددية، أما الصراع فلا يعرف إلا إلغاء الآخر ونفيه([2]).

المراجعة الثالثة

وهي موجَّهة لمن ما زالوا منبهرين بالنموذج الغربي في التعامل مع المرأة، رغم ما يعج به الغرب من مشكلات؛ من التفكك الأسري، بل وانهدام مفهوم الأسرة من الأساس وليس مجرد التفكك.. ومن حوادث تحرش واعتداء جنسي.. ومن نظرة قاصرة للمرأة لا ترى فيها سوى غريزة ومفاتن يتم استخدامها حتى في الإعلان عن سلع تخص الرجال وحدهم..!

للأسف، لم يغب جسد المرأة عمن يُنصِّبون أنفسهم مدافعين عن حقوقها ومكانتها.. وصار تقدم المرأة يقاس باطراد بما تَكشِف من مفاتنها..! وللأسف- مرة أخرى- أنْ تسربت هذه الأوبئة إلى مجتمعاتنا، حتى لتسير في بعض شوارعنا فتُنكِر أكثر مما تعرف!

ما غاب في معركة “تحرير المرأة” هو عقلها، بينما حضر “جسدها”..! وبسبب هذا الحضور غير المرغوب فيه، وجد الرافضون لتفعيل دور المرأة في المجتمع ذريعةً تضاف إلى ذرائعهم في حجب المرأة عن ممارسة دورٍ فاعل في بيئتها الاجتماعية، ولمصلحة أسرتها الكبرى!

متى ندرك أن قيمة المرأة في عقلها وفكرها ونُضْجها الاجتماعي، تمامًا مثل الرجل.. وأن أي تفعيل لدورها في محيطها الأوسع ينبغي ألا يكون خَصْمًا من كرامتها وأنوثتها، وألا يكون فتنةً للمجتمع وزجًّا به وسط مشاعر ملتهبة وغرائز جامحة..!

يتساءل مالك بن نبي: “هل من المفيد للمرأة المسلمة أن نجعلها في مركز تشبه فيه أختها الأوربية؟”.

ويجيب: “بشيء من النظر، نرى أن انتقالنا بالمرأة من امرأة متحجبة إلى امرأة سافرة، تطالع الصحف وتنتخب، وتعمل في المصنع لم يحل المشكلة؛ فهي لا تزال قائمة، وكل الذي فعلناه أننا نقلنا المرأة من حالة إلى حالة، وسنرى عما قريب أن انتقالها هذا عقَّد المشكلة بعد أن كانت بسيطة؛ فليست حال المرأة الأوربية بالتي تُحسَد عليها، فظهور المرأة الأوروبية في مظهر لا يخاطب في نفس الفرد إلا غريزته أثار أخطارًا جديدة، كنا نود أن يكون المجتمع بمنجاة عنها”([3]).

المراجعة الرابعة

وهي تخص من يظلمون المرأة بتصورات وأفكار وسلوكيات ينسبونها للإسلام، بينما هي تنتمي للأعراف والتقاليد وتخالف الإسلامَ نفسَه؛ سواء في جانبه النظري المقرَّر في القرآن الكريم والسنة النبوية، أو في جانبه العملي المتجسِّد في سيرة النبي ومن تبعه من الخلفاء الراشدين..

وكما قلنا في المراجعة الثالثة، من حيث علاقة التأثير والتأثر.. فإن هذه الأفهام والسلوكيات المغلوطة، تدفع من يزعمون أنفسَهم دعاةً لتحرير المرأة دَفْعًا إلى الاتجاه المغاير، نحو مزيد من تقليد الغرب تقليدًا أعمى؛ بَحْثًا عن (إنصاف زائف) ممن يظلمون المرأة باسم الدين..! وكأن علاج الخطأ لا يكون إلا بارتكاب خطأ آخر، وربما يكون أكثر ضررًا وأشد فتكًا..!!

في قضية المرأة، نحن، كما يوضح الشيخ محمد الغزالي رحمه الله، نقع بين فكَّيْ الرَّحَى، أي (بين التقاليد الراكدة والوافدة)، كما هو عنوان كتابه المهم.

ويرصد الشيخ الغزالي هذه الإشكالية في كتابه المهم أيضًا (مائة سؤال عن الإسلام)، موجِزًا علاجها، حيث يقول: “قضايا المرأة فيها نصوص قطعيَّة، وفيها اجتهادات فقهية اكتَنَفها الخطأ والصواب. ويُؤسفني القول بأن الجراءة على النصوص المُستيقَنَة كان سببُها تَشبُّثَ المُقلِّدين البُلْهِ بأفكارٍ رديئة عن حقوق المرأة العادية والعبادية؛ إن الله أمَر بالغضِّ من البصر ووجَّه هذا الأمر للمؤمنين والمؤمنات، فجاء مَن أمَر بمَنْع النظر أصْلاً، فلا يجوز للمرأة أن تَرَى أو تُرى؛ ولتحقيق ذلك تَم حبْسُها أبدًا في البيت، ونشأ عن ذلك الغلو قتْلُ إنسانية المرأة وإضاعةُ حقوقها الدينية والمدنية. ثم جاء مَن يُعالج هذا العِوَجِ بنقل تقاليد أوربا وأمريكا؛ أي استبدالُ داءٍ بداءٍ.

ونحن نأبَى غباوة هؤلاء وانحلال أولئكَ! ونُريد الأوضاع التي عرَفَها العهد النبوي؛ والفقه الذكِيُّ يُدرك هذه الأوضاع”([4]).

ما أكثر المراجعات التي تتصل بوضع المرأة في مجتمعاتنا، وينبغي أن نلتفت إليها بوسطيةٍ تحفظ للمرأة وللمجتمع دينهم وقيمهم وعفافهم، وتعيد للمرأة حيويتها في المجتمع، وفاعليتها في أسرتها الكبيرة؛ تمامًا كما كان العهد بها في زمن النبي والتابعين له بإحسان.


([1]) “شروط النهضة”، مالك بن نبي، ص: 114.

([2]) راجع: “في فقه المواجهة بين الغرب والإسلام”، د. محمد عمارة،  ص: 71، و151، 152.

([3]) “شروط النهضة”، ص: 117.

([4]) “مائة سؤال عن الإسلام”، الغزالي،  2/ 266، 267.