يمثل كتاب “العنصرية والتعصب العرقي: من التمييز إلى الإبادة الجماعية”، من تأليف الباحث البريطاني إيان لوو (Ian Law)، والذي نقله إلى العربية فريق من المترجمين المتميزين (عاطف معتمد، كرم عباس، وعادل عبد الحميد) ، إضافة فكرية ومعرفية ضرورية للمكتبة العربية. يقدم العمل، الصادر عن المركز القومي للترجمة عام 2015 ، تشريحا عميقا ومفصلا لظاهرة العنصرية، متتبعًا مساراتها التاريخية المعقدة، ومحللا أسسها النظرية، ومستعرضا تجلياتها المعاصرة في مختلف أنحاء العالم بما في ذلك نماذج من آسيا وأمريكا اللاتينية وأوروبا.
مضمون وهدف الكتاب
يسعى الكتاب إلى تقديم رؤية شاملة لمسيرة العنصرية الطويلة، بدءا من أشكال التمييز البسيطة وصولا إلى أبشع صورها المتمثلة في الإبادة الجماعية والتطهير العرقي. لا يكتفي الكتاب بسرد الأحداث التاريخية، بل يغوص في الأسس الفكرية والنظرية التي استُخدمت لتبرير هذه الممارسات، بما في ذلك دور العلم الزائف في ترسيخ مفاهيم التفوق العرقي. يهدف الكتاب إلى تزويد القارئ بالأدوات المعرفية اللازمة لفهم هذه الظاهرة ومواجهتها ، مع تسليط الضوء على أن العنصرية ليست حكرًا على ثقافة أو منطقة بعينها، بل هي آفة عالمية تتطلب تضافر الجهود لمكافحتها.
مقدمة تعريفية
جاءت مقدمة المترجمين شاملة وتسلط الضوء على أهمية الكتاب في السياق العربي حيث أشار المترجمون إلى العديد من نقاط قوة الكتاب، بالرغم من بعض الجوانب التي تتطلب نظرة نقدية.
مؤلف الكتاب الأصلي إيان لو أستاذ دراسات العنصرية والإثنية بجامعة ليدز في بريطانيا، وله أبحاث بارزة حول العنصرية المعاصرة والسياسات العرقية صدر الكتاب بالأصل بالإنجليزية عام 2010 بعنوان “Racism and Ethnicity: Global Debates, Dilemmas, Directions”, وجاءت ترجمته العربية عن المركز القومي للترجمة عام 2015 م.
هدف الكتاب إلى تقديم تحليل عالمي شامل لظاهرتي العنصرية والإثنية، موضحا كيف تتشكلان وتتغيران في السياقات السياسية والاجتماعية المختلفة، مع التركيز على التحديات الراهنة في ظل العولمة. سعى المؤلف إلى تجاوز النظرة الضيقة التي تحصر النقاش في الغرب فقط، وإلى إظهار أن العنصرية ظاهرة عالمية لها تمظهرات متنوعة.
اعتمد الكتاب تعريفًا للسلالة أو العرق (Race) باعتباره مجموعة من الناس الذين يشتركون في سمات جسدية أو أصل مشترك لكنه يشدد على أن الكثير من الأفكار حول الفروق العرقية استندت تاريخيًا إلى أساطير وموروثات غير علمية، فالتنوع العرقي بحد ذاته ظاهرة طبيعية ومسالمة ضمن المجتمع البشري، إلا أن المشكلة تبدأ عندما يتحول الاختلاف إلى تعصب وهيمنة مع اندلاع صراع بين مجموعات بشرية مختلفة على أسس عرقية أو إثنية، ثم تتحول إلى عنصرية تؤجج الكراهية وتدفع نحو العنف الممنهج.
بهذا يبرز الكتاب أهمية فهم العنصرية كظاهرة اجتماعية خطيرة تتطلب الدراسة والمعالجة، نظرًا لتداعياتها المدمرة التي قد تصل إلى الإبادة والتطهير العرقي.
فصول كتاب (العنصرية والتعصب العرقي: من التمييز إلى الإبادة الجماعية)
ينطلق الكتاب في رحلة منظمة عبر تسعة فصول، كل منها يمثل لبنة أساسية في بناء فهم متكامل للظاهرة، فيما يلي نظرة موجزة على كل فصل وأبرز ما يتناوله:
الفصل الأول: الخلفيات التاريخية للعنصرية
يبحث هذا الفصل في الجذور التاريخية العميقة للفكر العنصري. خلافًا للاعتقاد الشائع بأن العنصرية الحديثة وليدة تجارة العبيد عبر الأطلسي ، يوضح الكتاب أن جذورها تمتد إلى الحضارات القديمة مثل اليونانية والرومانية ، مرورًا بالعصور الوسطى وتفسيراتها الدينية المشوهة للنصوص المقدسة. كما يتطرق الفصل إلى العداء التاريخي بين أوروبا المسيحية والعالم الإسلامي ودوره في تشكيل الصور النمطية السلبية.
الفصل الثاني: تصنيف الشعوب وفقًا للسلالة والأصل والتسمية
يركز هذا الفصل على دور “العلم” في ترسيخ العنصرية. أو نشوء ما يسمى العنصرية العلمية في القرن التاسع عشر، يستعرض كيف استُخدمت مجالات مثل التاريخ الطبيعي والأنثروبولوجيا لتطوير تصنيفات هرمية للأعراق البشرية ، حيث وُضع العرق الأبيض في قمة الهرم. كما يناقش الفصل مفاهيم مثل “تحسين النسل” التي روج لها علماء غربيون والتي قدمت تبريرًا علميًا مزيفًا لسياسات الإبادة والعقم القسري.
الفصل الثالث: مفاهيم أساسية في العنصرية والإثنية
يقدم هذا الفصل تعريفًا للمفاهيم والمصطلحات الأساسية في دراسة العنصرية. يميز الكتاب بين “السلالة” كمفهوم يتعلق بالسمات البيولوجية المشتركة ، و”العنصرية” كصراع بين السلالات يتسم بالكراهية والعدوان. كما يعرف “الجماعات العرقية” (الإثنيات) على أنها جماعات تشترك في أصل وثقافة وذكريات مشتركة. يبرز إسهامات مفكرين مثل آنا جوليا كوبر التي ربطت بين العنصرية وقمع المرأة (تقاطع العرق والجندر)، وعالم الاجتماع ماكس فيبر الذي حلل تداخل العرق والإثنية مع بناء الدولة القومية كما يتناول جهود روبرت بارك ومدرسة شيكاغو في أوائل القرن العشرين بوضع إطار سوسيولوجي لدراسة علاقات الأعراق في المجتمع يقدم الفصل قراءة نقدية لهذه الطروحات الكلاسيكية، مبينًا كيف مهّدت لدراسات حديثة أعمق وأكثر شمولاً لظواهر العنصرية والتنوع الإثني.
الفصل الرابع: نحو فهم الإثنية.. المناقشات النظرية والاصطلاحية
يتعمق هذا الفصل في مفهوم “الإثنية” من خلال استعراض النقاشات النظرية. ويبرز كيف تتشكل الهويات الإثنية من خلال اللغة والدين والثقافة والتاريخ المشترك. كما يتناول التحديات التي تواجه الأقليات الإثنية في الحفاظ على هويتها في مواجهة ضغوط الاندماج أو التهميش.
الفصل الخامس: الهجرة والإثنية والعنصرية.. الأطر والمكونات
يستعرض هذا الفصل العلاقة المعقدة بين الهجرة والعنصرية. يشير إلى أن الهجرة ظاهرة عالمية، حيث يعيش ما يقرب من 3% من سكان العالم خارج بلدانهم الأصلية. ويتتبع المراحل التاريخية الرئيسية للهجرة منذ القرن السادس عشر، بدءًا من النقل القسري للعبيد الأفارقة ، وصولًا إلى هجرات ما بعد الحروب من دول العالم الثالث إلى الدول الصناعية. ويقترح المؤلف إطارًا تحليليًا متكاملاً لدراسة العلاقة الثلاثية بين الهجرة والعنصرية والهوية الإثنية على الصعيد العالمي.
الفصل السادس: العنف العنصري والحد من العنصرية
يتناول هذا الفصل أشكال العنف العنصري وسبل مكافحته. يوضح كيف أن الصراعات على الموارد الاقتصادية، والنزاعات حول التعليم والتوظيف، وعدم المساواة الاقتصادية، كلها عوامل تؤدي إلى تأجيج العداء بين المجموعات العرقية المختلفة. كما يسلط الضوء على دور الخطاب العنصري في وسائل الإعلام في تصعيد العنف. يشدد الفصل على ضرورة اتباع نهج شامل يجمع بين الإجراءات القانونية والتثقيفية وغيرهما من أجل تقليص العنصرية في المجتمعات.
الفصل السابع: الاستبعاد والتمييز.. معاناة “غجر الروما”
يقدم هذا الفصل دراسة حالة عن معاناة “غجر الروما” في أوروبا كنموذج للاستبعاد والتمييز المنهجي. يتعرض الغجر، الذين يقدر عددهم بنحو 10 ملايين نسمة في أوروبا ، لأشكال متعددة من التمييز تشمل الحرمان من السكن اللائق، والخدمات الأساسية كالماء والكهرباء، والصرف الصحي، مما يؤدي إلى تدهور صحتهم ومستواهم التعليمي.
الفصل الثامن: العنصرية والهجرة في الإعلام الجديد
يبحث هذا الفصل في دور وسائل الإعلام الجديدة، مثل الإنترنت ووسائل التواصل الاجتماعي، في نشر الخطاب العنصري وتأجيج الكراهية ضد المهاجرين والأقليات .. كما يقارن كيفية تناول وسائل الإعلام لقضايا التنوع العرقي في سياقات مختلفة موضحًا كيف يمكن للإعلام التأثير إيجابًا أو سلبًا على الرأي العام تجاه الجماعات الأخرى ويدعو الفصل إلى تعزيز المسؤولية الإعلامية وأخلاقيات المهنة للحد من بث الكراهية وتعزيز ثقافة الاحترام المتبادل.
الفصل التاسع: مستقبل عالم ما بعد العنصرية
يطرح هذا الفصل رؤية نقدية لمفاهيم “ما بعد العنصرية” و”ما بعد الإثنية”. يحذر من أن تبني هذه المفاهيم قد يؤدي إلى تغييب القضايا الأساسية المتعلقة بالاحتلال والنضال من أجل التحرير، وتصوير الصراع على أنه مجرد خلاف عرقي أو إثني.
يناقش الأطروحات التفاؤلية التي تفترض تراجع أهمية التصنيفات العرقية مع ازدياد الوعي الإنساني والتقدم الحقوقي، لكنه يلفت إلى أن الواقع الحالي لا يزال يشهد أزمات عرقية متجددة بأشكال مختلفة حول العالم. يؤكد المؤلف أن تجاوز العنصرية يستلزم تغييرات جوهرية في الوعي والسلوك الجماعي، إلى جانب سياسات عادلة تعزز المساواة والشمول. بذلك يدعو الكتاب إلى رؤية مستقبلية يصبح فيها التنوع العرقي حقيقة مقبولة وطبيعية دون أن يكون مصدرًا للظلم أو الصراع.
خاتمة
لقد سعى كتاب “العنصرية والتعصب العرقي: من التمييز إلى الإبادة الجماعية” للباحث إيان لو إلى تقديم رؤية شاملة ومتعمقة لظاهرة العنصرية والتعصب، من خلال الربط الدقيق بين الجذور التاريخية والأبعاد النظرية، وصولًا إلى تجلياتها المعاصرة. وشكلت ترجمته إلى اللغة العربية إضافة هامة للمكتبة العربية. وعلى الرغم من تناول موضوع العنصرية في دراسات عديدة، إلا أن هذا الكتاب يضيف أبعادًا جديدة عبر اعتماده على نماذج وحالات عالمية متنوعة لا تقتصر على الغرب وحده، بل تشمل آسيا وإفريقيا ومناطق أخرى، مما يتيح للقارئ فهمًا أعمق وأكثر شمولًا لهذه الظاهرة في سياقاتها المتعددة. كما تميزت منهجية المؤلف بدمج التحليل التاريخي والنظري مع دراسة الحالات الواقعية، مما أكسب الكتاب عمقًا علميًا ومصداقية في الطرح.
باختصار، يعد هذا الكتاب مساهمة معرفية مهمة تساعد القارئ العربي على إدراك آليات استمرار العنصرية، والتعامل معها بصورة منهجية بهدف بناء عالم أكثر عدالة ومساواة.