طرح مقتل المواطن الأسود “جورج فلويد”، قضية العنصرية في المجتمع الأمريكي[1]، إذ كشف الحادث عن تغلغل العنصرية في الذهنية الأمريكي، فلم تفلح التطورات العلمية والتكنولوجية في اقتلاع تلك الجذور الغائرة من التفكير والمؤسسات والممارسات، فالحشائش الضارة تنمو من جديد إذا لم تُجتث جذورها البعيدة.

ويأتي كتاب “الأعراق البشرية: هل نحن حقًّا على هذا القدر من الاختلاف؟” تأليف “آلان إتش جودمان”[2]، وآخرون، وترجمة: شيماء طه الريدي، وآخرون، والصادر عن مؤسسة “هنداوي” عام 2019 في (564) صفحة، ليستعرض الجذور الغائرة في فكرة العنصرية، والتي تستند إلى مفهوم “العرق”، فيتناول ذلك المفهوم الذي سالت حوله دماء ملايين البشر على مدار التاريخ، بحثا عن نقاءه، وظهرت فيه نظريات تربط التفوق بعرق معين، وتفرض على بقية الأعراق الخضوع والانقياد.

فالكتاب يناقش “العرق” اجتماعيا وبيولوجيا، مؤكدا أنه مفهوم ثقافي صنعته المجتمعات لتحقيق مصالحها وسطوتها، ثم يمضي الكتاب مع المفهوم في تجلياته التاريخية، وكيف أنه مازال قادرا على هدر الأرواح وإزهاقها، ويكشف عن قدرته على التسلل إلى القوانين والمؤسسات لبناء تقاليد تمنح عرقا معينا حقوقا وتلزم الآخرين بواجبات وقيود أو تحرمهم من مكتسبات.

الكتاب يتكون من ثلاثة أجزاء، هي: تاريخ العرق والاختلاف والعنصرية، ولماذا لا يُعدُّ التباين البشري عرقًا؟، والتعايش مع العرق والعنصرية، والكتاب هو نتاجُ عشر سنواتٍ من العمل المتواصل الكثير، رعته “الجمعية الأمريكية للأنثروبولوجيا”، مطبقة الأفكار والنقاشات على الواقع الأمريكي، الذي نبت فيه مفهوم “العرق” وأنتج عنصرية امتدت أكثر من ثلاثة قرون.

العرق..اختراع بشري

يؤكد الكتاب أن هناك اختلافات بيولوجية بين البشر، إلا أن البشر جميعا يرجعون لأصل واحد، وأن تلك الاختلاف تمنح الحياة سرها وقوتها واستمرارها، أما خطورة الاختلاف فتكمن في تحويله إلى أداة للقهر والاستغلال والاستعلاء، ومن ثم فـ”العرق” مفهوم ثقافي، وفكرة مخترعة، ولا يوجد له أي أساس “جيني” يستند عليه في الزعم بأن البشر غير متساوين، أو أن اختلافاتهم ترجع إلى أسس بيولوجية، لذا يصبح “العرق” أداة ضارة لاستبقاء أوضاع عنصرية معينة تحول دون بناء مجتمع تسود فيه المساواة.

يرجع مفهوم “العرق” وتجلياته إلى عدة قرون، ويمكن تحديدها بالعام 1691م عندما أصدرت “فرجينيا”، التي تعد أول مستعمرة إنجليزية في أمريكا الشمالية، قانونًا يحظر زواج البيض من السود[3]، ثم تلتها ولاية “ماريلاند”، وسميت القوانين بـ” قوانين مكافحة تمازج الأجناس“[4]، فمع جلب الأفارقة للعمل في “فرجينيا” أصبح للاختلافات الجسدية أهميتها في تحديد المكانة في المجتمع، وأصبح ينظر إلى السود وإلى الهنود الحمر على أنهم أقل من البشر، ولا يستحقون الحريات نفسها التي يحظى بها البِيض، وهي ذهنية استمرت في أمريكا، وأنتجت قوانين عنصرية مثل: صدور قانون عام 1882 يحظر دخول الصينيين إلى الولايات المتحدة، ويمنع حصولهم على الجنسية الأمريكية وظل القانون ساريا حتى العام 1943، وصدور قانون عام  1909 يحظر زواج اليابانيين من البيض.

يؤكد المؤرخ “فرانك سنودن” Frank M. Snowden في كتابه “قبل التعصُّب اللَّوني” Before Color Prejudice ، التي أعدَّها عن “الصورة الذهنية للسُّود” في الفن والأدب المصري، والإغريقي، والروماني القديم، أن تلك المجتمعات لم تعرف الوعي اللوني الحاد، ولم تنظر إلى البشرة السوداء كأساس للعبودية.

ويلاحظ أنه عند نزول المهاجرين الأوروبيين الأوائل على الشواطيء الأمريكية، لم يكن الوعي اللوني موجودا، ولكن كان المنظور الديني هو المحدد للاختلافات، لكن تغير الأمر بعد ذلك لاعتبارات اقتصادية لتبرير العبودية، وتبرير استحواذ المهاجرين الأوروبيين على أراضي الهنود الحمر، لذا تم اختراع مفهوم “العرق”، فعلت قيمة العرق وطغت على مكونات الهوية الأخرى وهو ما أشارت إليه “أودري سميدلي” Audrey Smedley في كتابها ” العرق في أمريكا الشمالية ” Race in North America، فقد اعتبر الأوروبيون القبائلَ الأصلية “أممًا” لا “أعراقًا”، ولم يصف المُستعمِرون الإنجليز الأوائلُ السودَ بكلماتٍ ذات صبغةٍ عِرقية عندما وضعوا نظام عملٍ قائمًا على العبودية المرتبطة بعقودٍ طويلة الأجل، وهو نظامٌ شملَ كلًّا من الأوروبيين والأفارقة.

ويلاحظ أن وضع الأفارقة بدأ يتغيَّر على نحوٍ بالغ بحلول منتصف القرن السابع عشر؛ بعدما أحالَ زعماءُ المستعمراتِ الأفارقةَ إلى مرتبةٍ أدنى تمثَّلت في العبودية الدائمة، عندما شرعَ المستعمرون الإنجليز في وضع هَرَمية عِرقية من خلال اعتمادهم المُتزايد على العبودية وطموحاتهم في الاستيلاء على الأراضي الأمريكية من سكانها الأصليين، فلم تبدأ العبودية وانتزاع ملكية الأراضي من الأمريكيِّين الأصليين مشروعاتٍ عِرقيةً أو قائمة على العرق، لكنها أصبحت كذلك.

وينص الكتاب أن العبودية وصمة أخلاقية فهي “ الخطيئة الأصلية” للأمة الأمريكية، بعدما ظهر العرق كمفهوم يجرد العبيد من الصفة الإنسانية، ويضع السود في مرتبة “دونية” من البشر، حتى إن الرئيس الثالث لأمريكا ” توماس جفرسون” في كتابه “ملاحظاتٌ حول ولاية فرجينيا” Notes on the State of Virginia الصادر 1785 رأى أن السُّودَ يمتلكون “هباتٍ جسديةً وعقلية أقل شأنًا” بالمقارنة بالبِيض، وأنكر قدرة السود على إنتاج الفن أو الأدب، لذا تحول “العرق” كأيديولوجية شعبية تؤكد الاختلافات البيولوجية بين البشر، وتبرر العبودية والاستغلال، ساعية إلى الاستناد لأسس علمية تقوى موقفها.

وقد نتج عن ذلك إخضاع الأفارقة للعمل القسري الدائم، وأخذت عناصر الخدم الأوروبية تغيب، وأصبحت العبودية تقوم على العرق، فوُضِعَت الكثيرُ من القوانين التي تُقيِّد حقوق الأفارقة وذُريَّتهم وتفرض عليهم العبودية الدائمة، وتمنع سادتهم من إعتاقهم. وبحلول عام ١٧٢٥، مُنِعَ الزنوج، حتى الأحرار منهم، من التصويت، وصارت الملامح الجسدية علاماتٍ دالةً على المكانة الاجتماعية العِرقية، وجُرد السود من الصفات الإنسانية، ونُظر إليهم أنهم أقرب للقرود، ورغم نص الدستور الأمريكي على إلغاء العبودية عام 1865م إلا أن العرق أصبح أيديولوجيا تفرض عدم المساواة .

توسيع العرق الأبيض

يمنح الكتاب قارئه تأريخا جيدا لتوسع مفهوم “العرق الأبيض”، الذي جاء انعكاسا لمصالح اقتصادية وسياسية في المجتمع الأمريكي، فقد ظهر أولُ استخدامٍ قانوني لكلمة “أبيض” في مُستعمَرة فرجينيا عام ١٦٩١، يمنع زواج البيض من غيرهم، ويضع حدودا لونية في المجتمع بين البشر، ثم تغيَّرت تعريفاتُ العرق الأبيض وحدوده على مدار التاريخ الأمريكي تبعا لحاجات المجتمع ومصالحه ومخاوفه، وكما يذكر “دو بويز” Du Bois في كتابه ” إعادة الإعمار الأسود” Black Reconstruction in America  أن ذلك كان حلا عرقيا لمواجهة التهديد الاقتصادي والمادي الذي تَفرضه وحدة الطبقة العاملة، حيث فرقت النخبة البيضاء بين العمال السود والبيض، فأصبح اللون الأبيض مصدر قوة وهوية.

أما المؤرخة “نيل  بينتر” Nell Painter في كتابها “تاريخ الشعب الأبيض” The History of White People ، فتشير أنه خلال القرن التاسع عشر تم توسيع نطاق الاقتراع للذكور البيض، فتم توسيع مفهوم العرق الأبيض كنوع من الاستجابة للتحولات الديموغرافية والضغوط الثقافية الواسعة، ثم جاء التوسع الثاني خلال أواخر القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين عندما حاز الأيرلنديون والألمان على الاعتراف بأنهم أمريكيون وحصولهم على الامتيازات القانونية والاقتصادية والسياسية، وجاء ذلك التوسع لتقوية مفهوم العرق الأبيض في مواجهة الهجرات القادمة إلى أمريكا من جنوب أوروبا وشرقها، من البولنديين والروس والايطاليين، وفي تلك الفترة ثارت مناقشات حول كتاب “ماديسون جرانت” Madison Grant  “اندثار العرق العظيم” Passing at the Great Race عام ١٩١٦، الذي وصف البيض بـ”العنصر السيد”، ودعوته إلى “تحسين النسل”، ودفاعه عن تعقيم “غير المرغوب فيهم” والحد من الهجرة إلى أمريكا، ومن الغريب أن الزعيم الألماني “هتلر” كان ممن اعتنقوا أفكار هذا الكتاب، وأرسل إلى “جرانت” يشكره على تأليفه ويصفه بـ”الكتاب المقدس”

وفي مُنتصف القرن العشرين، نُظِر إلى جميع المُهاجرين القادمين من جنوب وشرق أوروبا، وأبناؤهم، كشعوب بيضاء، ليكون ذلك ثالثَ “توسُّع” لنطاق العرق الأبيض، خلال فترة الأربعينيات والخمسينيات، واستفادت هذه الجماعات من سياسات الإسكان الفيدرالي التمييزية التي ساعدت في تكوين ضواحٍ للبِيض من سكان الطبقة المتوسطة، وصار لفظ “البِيض” مرادفًا لجميع الأجناس الأوروبية، ومع هذا يرى عالم الاجتماع الأمريكي ستيفن كلاينبيرج Stephen Klineberg أن قانون الهجرة الأمريكي لعام 1965 ينص بوضوح على أن المهاجرين من أوروبا الشمالية لهم الأفضلية على باقي العرق الأبيض.


[1] كان الزعيم الأمريكي المسلم “مالكوم إكس” يقول: “إن أمريكا فى حاجة إلى فهم الإسلام لأنه الدين الوحيد الذى يملك حل مشاكل العنصرية فيها”

[2] آلان إتش جودمان: عالِمٌ في الأنثروبولوجيا البيولوجية. شغلَ منصبَ رئيسِ الجَمعيةِ الأمريكيةِ للأنثروبولوجيا

[3] ألغت معظم الولايات الأمريكية حظرها على الزواج بين الأعراق بحلول عام 1967، أي بعد ثلاثة قرون

[4] استُخدم مصطلح تمازج الأجناس لأول مرة في عام 1863 خلال الحرب الأهلية الأمريكية من قبل الصحفيين الأمريكيين، وتعمدوا ذلك للطعن في حركة إلغاء العنصرية عن طريق إثارة النقاش حول احتمال حدوث زواج بين الأعراق بعد إلغاء العبودية