يعد كتاب ( The Formation of Islamic Art ) حول تكوين الفن الإسلامي الصادر في طبعته الأولى عام 1973 والمنقحة عام 1987، بمثابة البيان التأسيسي لدراسات الفن الإسلامي المعاصرة. نقل أوليغ غرابار (Oleg Grabar) حقل الفن الإسلامي بهذا العمل من مرحلة التصنيف والتوثيق الأثري إلى مرحلة التنظير والتفكيك الفكري. الكتاب يجيب على أسئلة حول الإنتاج الفني للمسلمين ماذا و لماذا وكيف تشكلت لغة بصرية جديدة من ركام إمبراطوريات سابقة، ويوضح مفهوم الاستحواذ الإبداعي ودوره في صهر التراث البيزنطي والساساني في بوتقة جمالية إسلامية فريدة.

إبستمولوجيا في تاريخ الفن

قبل صدورهذا الكتاب، كانت دراسات الفن الإسلامي في الغرب تغلب عليها النزعة الاستشراقية التي تتعامل مع الآثار الإسلامية من باب التحف وتصنف وفق تسلسل زمني (العهد الأموي، العهد العباسي، العد المملوكي) أو بحسب التوزيع الجغرافي، ثم جاء الدكتور أوليغ غرابار وتعامل مع الفن الإسلامي باعتباره نظاما رمزيا ولغة تواصل بصرية تعكس التحولات العميقة في بنية المجتمع والدين.

تجاوز غرابار عملية تحديث المعلومات الأثرية في طبعة الكتاب المنقحة والصادرة عن

( Yale University Press ) عام 1987م، وقدم مراجعة نقدية لأطروحاته السابقة مقترحا إطارا نظريا يشرح اللحظة التاريخية التي تحولت فيها الأشكال المستعارة إلى هوية بصرية مستقلة.

الاستحواذ الإبداعي

انطلق المؤلف من إشكالية جوهرية تبحث عن كيفية تمكن مجموعة من القبائل العربية التي لا تملك تقاليد فنية معمارية ضخمة من ابتكار أسلوب فني مميز وفرضه على مساحة تمتد من إسبانيا إلى وسط آسيا.

ووجد أوليغ غرابار الإجابة في مفهوم  الاستحواذ الإبداعي (Creative Appropriation)  حيث لاحظ أن المسلمين الأوائل ورثوا تقاليد بصرية هائلة من العالمين البيزنطي والساساني إلا أن عبقرية الحضارة الإسلامية أبدعت في ابتكار آلية تعتمد على التحويل والتطوير.

1. آليات التحويل الجمالي

حدد المؤلف غرابار آليات محددة لهذا التحويل من ذلك أسلوب عزل العناصر عن سياقها والذي يعتمد على أخذ عنصر زخرفي سابق يرمز إلى شيء مقدس في ديانة قديمة ثم العمل على تجريده من معناه الأصلي وصناعة قيمة جمالية. ومن أساليب التحويل الجمالي أيضا ، عملية إعادة التركيب بدمج عناصر متنافرة وتحقيق منتج إبداعي جديد، وأبرز مثال على ذلك عندما تدمج التيجان الرومانية مع القباب الساسانية في مبنى واحد يتكون لدينا بناء المسجد.

2. سمات الجماليات الجديدة

يبرز غرابار ثلاث ركائز ميزت هذا النسق الجديد:

  1. اللاتشخيصية:  أوضح غرابار أن هذا المفهوم كان اختيار جمالي وعقائدي من أجل تمييز الفضاء الإسلامي عن الفضاء الأيقوني المسيحي.
  2. سطحية الزخرفة وتغطية الفراغ: الميل إلى تغطية كل سطح متاح بالزخرفة، مما يلغي الإحساس بكتلة الجدار وثقله، ويحوله إلى نسيج بصري خفيف، ويأتي هذا التحليل من عمق الحضارة الإسلامية، فالمسلم على وجه التحديد يفزع من الفراغ ويسعى دائما لملئه بالمفيد والجميل.
  3. الأرابيسك: التحول نحو التجريد الهندسي والنباتي الذي يعبر عن فكرة اللانهائية، حيث يمكن للنمط الزخرفي أن يمتد نظريا إلى ما لا نهاية، مما يعكس رؤية كونية للوحدة والنظام.

العدسة النظرية

تبنى كتاب ( The Formation of Islamic Art ) منهجية موضوعية فقسم البحث إلى محاور بحسب المفاهيم بدلا من السرد التاريخي التقليدي، وركز مؤلفه غرابار على الفترة التأسيسية للفترة مابين القرن السابع إلى التاسع الميلادي لأنها المختبر الذي طبخت فيه هذه الهوية.

1. رمزية ووظيفة العمارة

يتجاوز المؤلف وصف المسجد إلى سؤال: لماذا أخذ المسجد هذا الشكل ؟ ويربط تطور الشكل المعماري (الفناء، القاعة المغطاة، المئذنة) بالمتطلبات الضرورية لإقامة الشعائر ( صلاة الجماعة ) على سبيل المثال: الحاجة لصفوف مستقيمة للصلاة، الحاجة لمنبر لخطبة الجمعة، والحاجة لتوجيه القبلة.

مشهد تاريخي يعرض مجموعة من الأشخاص في ساحة مزينة بأعمدة معمارية فخمة وزخارف ملونة. يجلس البعض على الأرض، بينما يتفاعل الآخرون بالقرب من أعمدة المبنى. تعكس التفاصيل المعمارية والأزياء التراثية الثقافة الغنية والفنون التقليدية.
لوحة تبرز عمارة المسجد

2. الوسيط الزخرفي

يطرح غرابار نظرية جريئة مفادها أن الزخرفة في الفن الإسلامي تتجاوز عامل التجميل وتأخذ دور الوسيط، لأن الزخرفة والنقوش المعمارية هي التي تمنح المبنى هويته وتحدد وظيفته، وأحيانا تأخذ مكان البنية المعمارية نفسها من الناحية البصرية فتجعل الجدار الصلب يبدو على شكل ستارة من “الدانتيل” (نسيج رقيق ومفرغ يتميز بوجود شبكة مفتوحة من الخيوط الملتوية أو المنسوجة أو المعقودة، مكونة تصاميم وزخارف بديعة) كما في قصر الحير في سوريا أو قصر الحمراء في غرناطة.

الاستحواذ الرمزي

أكد غرابار على مفهوم الاستحواذ الرمزي حيث يحلل أبعاد استخدم الفن للإعلان عن فكرة سيادة العقيدة الجديدة على الأرض القديمة. وضرب مثالا ببناء قبة الصخرة فقراءة غرابار لها أنها أقرب للنصب التذكاري من بناء داخل مسجد، وقام بتحليل النقوش القرآنية داخل القبة معتبرا المبنى عبارة عن نص بصري يتحاور مع الآخرين من خلال جمالية المعمار.

جدارية الملوك الستة

وقف غرابار طويلا أمام جدارية تصور ستة ملوك في قصر عمرة الأموي  (بينهم قيصر بيزنطة وكسرى فارس وملك القوط، وهي إحدى أشهر اللوحات الجدارية التاريخية التي تعود إلى العصر الأموي) ، وهم يرفعون أيديهم تحية أو استسلاما. يرى غوربار أن جدارية الملوك الستة هي إعلان عن السيادة الأموية العالمية التي تتجاوز القوة الإقليمية، حيث تصور الخليفة وارثا للقوى العظمى الأخرى ومهيمنا عليها.

لوحة جدارية قديمة تظهر شخصيات دينية في خلفية مزخرفة، مع تفاصيل تاريخية وملامح تآكل. تعكس الفنون الجدارية التقليدية وتاريخ العمارة.
جدارية الملوك الستة في قصر عمرة الأموي

فن الدين والدنيا

يكسر الكتاب الثنائية الجامدة بين الديني والدنيوي حينما تطرق غرابار لفن البلاط (Court Art)  في العهد الأموي، ،وذلك بملاحظة وتتبع الصور الموجودة في القصور الخاصة للخلفاء الأمويين مثل (مثل خربة المفجر وقصر عمرة)، ومقارنتها بالالتزام الصارم لمبدأ التجريد في المساجد.

هذا التناقض الظاهري فسره غرابار تطبيق لمبدأ “اللاتشخيصية” وهذا ما ميز الحضارة الإسلامية في تفعيل خاصية الجمود وتكوين هوية خاصة للمساجد تميزها عن الكنائس المليئة بالأيقونات. في المقابل وجد في القصوراستمرار التقاليد الفنية للبلاط الساساني والبيزنطي وهذا ماجعل غرابار يستنتج أن الفن الإسلامي فن انتقائي بامتياز، يعرف متى يستخدم الصورة ومتى يحجبها.

مراجعة الذات وتعدد النماذج

اكتسبت طبعة 1987 من كتاب  (The Formation of Islamic Art ) أهميتها من الفصل الإضافي بعد اثني عشر عاما. وقدم غرابار نقدا ذاتيا لعمله السابق اعترف فيه بأن محاولة إيجاد نقطة انطلاق واحدة للفن الإسلامي قد تكون سطحية، واقترح بدلا من ذلك النظر إلى مراكز حضارية متعددة مثل الشام، والعراق، ومصر التي تطورت فيها الأنماط بإيقاعات مختلفة، واقترح فكرة الاستفادة من الاكتشافات الأثرية الجديدة من أجل مزيد من التدقيق في تواريخ بعض المباني، مما يساعد في تغيير فهم تطور الزخرفة.

أيضا ربط غرابار بين التكوين الأول وبين واقع العمارة الإسلامية الحديثة وطرح سؤالا حول عنصر المعاصرة : هل العودة لتقليد الأقواس والقباب اليوم يعد فنا إسلاميا ؟ أم أن الروح الإسلامية تتجاوز الأشكال وتكمن في العملية الإبداعية؟ وهنا يقدم  غرابار ملاحظة للمعماري المسلم المعاصر بضرورة تبني جرأة الأمويين في استيعاب تقنيات عصرهم (الخرسانة والزجاج اليوم) بدلا من نسخ أشكال الماضي.

لماذا نقرأ غرابار اليوم؟

إن العودة لكتاب بقيمة (The Formation of Islamic Art ) ضرورية للتذكير بأن تشكل الفن الإسلامي مر عبر تفاعلات جرئية ومعقدة مع الفنون والثقافات المختلفة، وهذا لا يختلف كثيرا عن تاريخ تكون الأفكار وكيفية تشكل الحضارات.

يذكرنا غرابار في كتابه بأن أعظم إنجازات الحضارة الإسلامية لم تأتِ من الانغلاق على الذات وإنما من القدرة الفائقة على الانفتاح على فنون العالم القديم وهضمها وإعادة إنتاجها بصيغة جديدة، وهذا ما نحتاجه اليوم في عالم اشتد فيه النقاش حول الهوية والأصالة والمعاصرة.