إن لكل فن من فنون العلم مدارج الرقي إليه، ومن تخلف عنها فإنه لا يكون رشيدا في طلبه، بل قد يحرم نفسه التضلع في العلم والتمكن منه، وهذا معنى مقولة علمائنا الشهيرة:”من حرم الأصول حرم الوصول”، إذ البناء غير قائم على أساس متين فهو منهار. قال علي بن المديني:” إذا رأيت طالب الحديث أول ما يكتب الحديث يجمع: حديث الغسل، وحديث من كذب علي؛ فاكتب على قفاه: لا يفلح[1]” لأنه لم يبتدأ تعلمه وطلبه بالتدرج المعتاد عند أهل العلم بالحديث فلا يرجى من مثله النفع. وطلب علم الفقه وتعلمه له مراحل يجب التقيد بها والتدرج عليها من أجل الوصول إلى غايته، وإدراك مجالاته، والخروج عن هذه المسالك يحدث الاختلال.

وقد نبه ابن عبد البر على الإخلال الملحوظ لدى طلاب العلم زمانه في عدم الالتزام بطريق مقرر في طلب العلم، والذى كان موجبا للجهل البواح، فقال رحمه الله: واعلم – رحمك الله – أن طلب العلم في زماننا هذا، وفي بلدنا، قد حاد أهله عن طريق سلفهم، وسلكوا في ذلك ما لا يعرفه أئمتهم وابتدعوا في ذلك ما بان به جهلهم وتقصيرهم عن مراتب العلماء قبلهم[2].

ولا تصفو لطالب العلم مشارب العلوم ما دام يشوب طريقته إليها التخبط والانطلاق العشوائي، وأما من رام العلم بمنهج التلقى الصحيح وهو الذى سيجد حظه من التأصيل والملكة التى تؤهله على ضبط الأصول والقواعد، لا سيما في الفقه الذى عبر عنه ابن الجوزي بأن “عليه مدار العلوم، فإن اتسع الزمان للتزود من العلم فليكن من الفقه[3]

وبهذا أوصى الإمام الشافعي تلميذه يونس بن عبد الأعلى: “عليك بالفقه فإنه كالتفاح الشامي يحمل من عامه.[4] يعنى أنه من أسرع العلوم وأبينها نفعا وفائدة إذا أوتي من بابه.  

وقد ذكر أهل العلم بالفقه منهجا قويما للولوج في أبواب علم الفقه والتفقه، وهو البداءة بمرحلة التعليق، ثم التحقيق، ثم التدقيق، وهذا المنهج الذى سار عليه العلماء الماضون، وكان واضح المسلك، محكم الوضع، سهل المأخذ، قريب التحصيل، وجليل الفائدة. يأتى تلخيصه فيما يلى:

التعليق

من هدي المتقدمين في دراسة الفقه الأخذ بصغار العلم قبل كباره، وسموه التعليق، وهو أن يعلق الطالب في ذهنه المتون الفقهية المجردة عن الأدلة، حيث يتمكن من تصوير المسائل بكامل أجسادها، فيحصل لديه ترتيب أبواب الموضوعات وتقسيم فروعها تقسيما منطقيا واضحا، حتى لا يتخرج في هذه المرحلة إلا وقد ضبط أساسيات أبواب الفقه بشكل عام دون الإنشغال بالأدلة والمناقشات، لأن أهم مقاصد مرحلة التعليق هو التدرج في استحضار معظم المسائل الفقهية متناسقة في ذهنه وإن لم يحفظ متونها حرفيا، ولكن يحفظ كل مسألة بشروطها وأركانها وواجباتها وما أشبه ذلك، ولو سئل عن حقيقة الربا ما هى؟ أو عن بيع المرابحة؟ أو ما هي الزكاة؟ وما شروطها مثلا؟ ويكون منضبطا لها عن طريق المتون المجردة، بدءا من كتاب الصلاة إلى آخر أبواب الفقه، ويختلف المتن الفقهي باختلاف المذاهب، فالحنفية يختمون كتاب الفقه بباب الوصايا والفرائض وكذا المالكية، والشافعية يختمونه بباب العتق، وأما الحنابلة فإنهم جعلوا ختامه بباب الإقرار.

ويجب على الطالب فى هذه المرحلة أن يعتني بمتن فقهي معين مختصر، ومعتمد وفق مذهب بلده، قد يكون نثرا أو نظما، ويدرسه على شيخ متخصص خبير يعينه على ضبط الألفاظ وتفكيك المعانى دون التوسع، أو يستعين بالدورس الفقهية المقتصرة المسجلة إذا لم يجد الشيخ المتقن في بلده.

وإذا قدر للطالب – في مرحلة التعليق – التمكن والتشبع من متن الفقه المجرد؛ فإنه سيورث الألفة بألفاظ الفقهاء الموروثة، والتعبير بلغتهم في سرد المسائل، والسير على نهجهم عند ترتيب الأفكار والقضايا الفقهية.

التحقيق

ثم ينتقل الطالب من منزلة التعليق إلى مستوى تحقيق المسائل الفقهية بأدلتها، ويهتم في هذه المرحلة بمعرفة أدلة المذهب ويعرض المسائل بحججها ومناطها وعللها، ويعرف أوجه الاستدلال من الأدلة حتى يطمئن قلبه في مسألة يدرسها وتقوى ثقته، فأدلة الفقه عامة؛ راجعة إلى مصدرين وهما: النقلي والعقلي، والمصدر النقلي هو ما كان الاعتماد فيه على الرواية، وهذا يشمل الكتاب والسنة والإجماع، بينما المصدر العقلى عمدته الاجتهاد والاستنباط من المصدر النقلي، وهذا يشمل القياس والاستحسان والمصالح المرسلة وغيرها، وما من مذهب إلا وقد جمع بين الأصلين النقلى والعقلى أو الأثر والنظر.

ولذا يتعين على الطالب في مرحلة التحقيق الاجتهاد والاهتمام باستعاب كل مسألة بدليلها، أثريا كان أو نظريا وفق مدرسة فقهية سائدة في محيطه.

ومن جميل الفوائد ينالها الطالب في هذا الموطن: جودة النظر، وقريحة الذهن في استخراج الأحكام من الأدلة، ودربة استنباط الحكم ومقاصد التشريع من خلال النصوص الشرعية، والتبصر بطرق الاستدلال على طريقة أهل العلم.

التدقيق

بعد معرفة الطالب طرق العلماء في الاستنباط والاستدلال وأدلة المذهب فإنه يتدرج بعد ذلك إلى مرحلة المقارنة بين أدلة المسألة المختلف فيها ليدقق النظر ويغربل الأقوال والآراء بغية الوصول إلى ترجيح بينها، وهذا هو المقصود بالتدقيق.

والخلاف الققهى قسمان، إما الخلاف في داخل المذهب الواحد ويسمى الخلاف النازل، وإما الخلاف العالي وهو الخلاف الذى يحكى بين المذاهب الأربعة أو خارجها، ووقوف الطالب على المواضع دار فيها الخلاف بين المذاهب والأئمة؛ مع تحقق النظر في أسباب الخلاف فإنه يمكنه للكشف عن الأقوال الراجحة بقوة الأدلة من الأقوال المرجوحة، ويعينه على حسن اختيار أقوى الأقوال حسب الأدلة والموازنة بينها، والمقاصد الشرعية دون التعصب لأي مذهب.

ومن بلغ مرحلة التدقيق في الفقه يعد من الفقهاء حقا، ويشار إليه بالبنان في رحاب العلم.

يقول هشام بن عبدالله الرازي: “من لم يعرف اختلاف القراءة، فليس بقارئٍ، ومن لم يعرف اختلاف الفقهاء، فليس بفقيه”[5]

وقال سعيد بن أبي عروبة: “من لم يسمع الاختلاف، فلا تعده عالما”[6]

وهذا يدل على أهمية العلم بمواقع الخلاف الفقهي ومدى ضرورتها في مسار التحصيل العلمي والمنهج الدراسي لدى الطالب.

قال قتادة بن دعامة: “من لم يعرف الاختلاف، لم يشَمَّ أنفُه الفقه”[7]

وقال يحيى بن سلام: “لا ينبغي لمن لا يعرف الاختلاف أن يفتي، ولا يجوز لمن لا يعلم الأقاويل أن يقول: هذا أحبُّ إليّ”[8]

إذن لا بد لطالب العلم أن يصدر عن سنة التدرج في الطلب والتأصيل مهما كلفه ذلك من الوقت والعمر، كي يترسخ كما ترسخ الراسخون في العلم من سلف الأمة وخلفها، ثم يبقى الحذر والحذر من منهج التلفيق في طلب العلم من حيث استقبال كبار العلم قبل صغاره، والإقبال على كبار المسائل الفقهية والخلافات قبل ضبط الأصول والقواعد العلمية، والبت في الخلط بين المذاهب دون البصيرة…وهذا المنهج منهج دخيل على العلم، وخطير على منتهجه في الإضلال عن سبيل العلماء.

وأما منهج الترقيق والتنميق فحسن جدا لمن بلغ رتبة العلم من التحقيق والتدقيق، تزيينا للعلم وتحبيبا له في النفوس.   

قال محمد بن أحمد الخطيب الشربيني نقلا عن شيخه أبى المواهب: “إثبات المسألة بدليلها تحقيق، وإثباتها بدليل آخر تدقيق، والتعبير عنها بفائق العبارة الحلوة ترقيق، وبمراعاة علم المعاني والبديع في تركيبها تنميق، والسلامة فيها من اعتراض الشارع توفيق”[9]

وهذه هي الخلاصة في المنهجية المرحلية السليمة في ضبط الفقه التي بها مر أئمة الدين قديما وحديثا.


[1] الجامع للخطيب (رقم 1986)

[2] جامع بيان العلم وفضله

[3] صيد الخاطر، ص: 184

[4] الآداب الشرعية والمنح المرعية 2/125

[5] الموافقات 4/ 161

[6] جامع بيان العلم وفضله 2/ 46

[7] الموافقات 4/ 161

[8] جامع بيان العلم وفضله 2/819

[9] مغني المحتاج إلى معرفة معاني ألفاظ المنهاج 1/103