صدر حديثا عن مؤسسة قطر الندى كتاب “مراقي الأواه إلى تدبر كتاب الله” للعلامة أحمد بن أحمذيَّ الحسني، بتحقيق الدكتور محمد أحمد بن محمد بن المنى (مبارك)، وهو كتاب نفيس طال انتظار تحقيقه ونشره للباحثين وطلبة العلم، حيث سيثير الكتاب بعد تداوله في أيدي الباحثين قضايا كثيرة في اللغة والتفسير وغيرهما من علوم.
وتفسير “مراقي الأواه” منظومة رجزية في تفسير القرآن الكريم، وقد دقق المحقق عدد أبياتها حيث يبلغ اثنين وتسعين وستمائة وسبعة آلاف بيت (7962) بيت، “خلافا لما اشتهر على الألسنة من كونه يبلغ ثلاثمائة وثمانية آلاف بيت (8300)، كما أشار إلى ذلك حفيد المؤلف محمد فاضل بن محمّدٍ بن أحمذي ببيت مضاف إلى بعض نسخ الكتاب:
وإن ترد إحصاءَه فقد أتى***”حاء” ألوف “مع سين” يا فتى
وقد قسم المصنف كتابه إلى جزأين، ينتهي نصفه الأول عند نهاية سورة الكهف، ويبلغ عدد أبياته أربعة وسبعين وثلاثمائة وثلاثة آلاف (3374)، بينما يبدأ نصفه الثاني من أول سورة مريم إلى نهاية القرآن، ويبلغ عدد أبياته تسعة عشر وثلاثمائة وأربعة آلاف بيت (4318).
سمى ابن أحمذي في خاتمة منظومته كتابه، حيث قال:
نظم تعرض لما كان انبهم***من ذكرنا معنى وحيث النظم تم
سميته: مراقيَ الأواه***إلى تدبر كتاب الله
والمتمعن في ألفاظ العنوان سرعان ما يتبادر إلى ذهنه أنه نظم في الرقائق والتربية، خاصة إذا علم أن مؤلفه ابن أحمذيّ مهتم بهذا الجانب، وله فيه أنظام كثيرة، وأن هذه الأنظام القصيرة مقدمات وممهدات لهذه الموسوعة التربوية المنظومة، لكن الدارس لهذا الكتاب يتجلى له بوضوح كيف أنه تفسير لغوي شامل، وليس نظما لغريب القرآن كما قارب أن يصفه بذلك بعض الدارسين.
وقد أراد المؤلف من وراء منظومته التفسيرية هذه أن يربط الأجيال المسلمة بكتاب الله حيث يحجب كثيرا منهم عن تدبره عدم فهمه لغوامض المعاني، فأراد بكتابه سد تلك الثغرة ببيان ما يشكل من معاني ألفاظ القرآن ليسهل فهمه وتدبره على أبناء المسلمين، فيرتبطوا أكثر بكتاب الله، وقد بين مرامه هذا بقوله:
هذا ولما أن رأيت القوما***قد هجروا معنى الكتاب اليوما
مع أنه من أعظم المطلوب***من أهله تدبر القلوب
ولا تدبر لكالبهيمة***كيف السرى في الليلة البهيمة
أحببت أن أكشف عن بيان***بعض معاني غامض القرآن
وقد صرح المؤلف بمصادره التي اعتمد عليها في منظومته، وهي مصادر تقع في أعلى مراتب كتب التفسير، وهي:
-جامع البيان في تفسير القرآن للطبري (ت310هـ)
-مدارك التنزيل وحقائق التأويل للنسفي (ت710هـ)
-غرائب القرآن ورغائب الفرقان للقمي (ت بعد 850هـ)
-لبات التأويل في معاني التنزيل للخازن (ت741هـ)
-الذهب الإبريز في تفسير كتاب الله العزيز لليدالي (ت1166)
-الفتوحات الإلهية للجمل (ت1204هـ)
هذه أهم المصادر الرئيسة التي اعتمد عليها المؤلف، لكن هناك مصادر أخرى رجع إليها ونقل عنها واستفاد منها بشكل مباشر أو غير مباشر وهي كثيرة منها: الكشاف للزمخشري، ومعالم التنزيل للبغوي، والتسهيل لابن جزي، وإرشاد العقل السليم لأبي السعود، والجامع لأحكام القرآن للقرطبي، وأنوار التنزيل للبيضاوي، وإعراب القرآن لأبي البقاء العكبري، ومعاني القرآن للفراء، ومعاني القرآن للزجاج، والتفسير الوسيط للواحدي، وتفسير الكواشي، وتفسير أبي حيان الأندلسي، وتفسير الجواهر الحسان للثعالبي.
ومن الخصائص التي امتاز بها كتاب مراقي الأواه -حسب المحقق- أنه تفسير انتقائي لا يستوعب جميع القرآن بل يتناول البعض ويترك البعض الآخر، ومنها أيضا أنه كتاب جمع وانتخاب، فالمؤلف لم يأت بمعان جديدة من عنده، وإنما كان دوره هو أن يجمع الأقوال وينتخب منها حسب ما يراه، وكذلك يتميز هذا المؤلف بالاختصار.
ولعل إحدى أهم هذه الخصائص هي أنته تفسير أدبي، فهو منظومة محكمة السرد، متينة السبك، جمعها عالم حكيم، وصاغها شاعر بارع، ومن ملامح سطوة الأدب على هذا الكتاب استمراء مؤلفه إيراد الشواهد الشعرية لأقرب موجب، وولعع بالتضمين والإرصاد، وكذا كثرة استعانته بالأمثال العربية، واستعماله بكثرة للألفاظ المعجمية توشيحا لنظمه من غير تكلف.
وإذا كان كتاب مراقي الأواه منظومة في التفسير إلا أنه لم يسلم من تسرب الثقافة الموسوعية لمؤلفه إلى ثناياه، فتجد المنطق والفقه والأصول وغيرها من علوم برع فيها المؤلف ووظفها في كتابه، كما اعتمد المؤلف طريقة منهجية فذة في كتابه حيث يجنح إلى تفسير القرآن بالقرآن ما وسعه ذلك، فإن لم يجد حاول أن يبني حول الكلمة المفسرة شبكة من المفردات القريبة منها في المعنى، ثم يفسر القرآن أيضا بأقوال الصحابة التابعين والعلماء من بعدهم.
والحقيقة أن هذه دراسة رصينة لكتاب نفيس تحتاجه المكتبة العربية منذ فترة، فهو جديد وفريد بل هو أول تفسير منظوم -حسب علمي-، ليس كتاب مراقي الأواه مجرد تفسير بل هو موسوعة في اللغة والأخلاق والأخبار والسير وغيرها من علومنا العربية والإسلامية الرائعة.