لماذا نبدأ ومتى نخطو وإلى أين نتجه وكيف نصل؟ أسئلة عريقة وعميقة ودقيقة وأنيقة لابد لكل كاتب أو قائل أو مقول أن يطرحها على نفسه قبل أي مشروع هادف في حياته، وهي تفرض نفسها منذ الوهلة الأولى من غير تكلف أو تصنع، فيبدأ المرء ويخطو ويتجه ولكن لا يستطيع أن يحدد كيف يصل.
لأن الكيف مسألة حال والحال غير خاضع في كثير من الأحوال لا للمقال ولا للفعال وإنما هو ثمرة بين بين ، أي أنه غير قياسي ، وهو بالنسبة للكاتب أو القائل نفسي ، وبهذه النسبة فلا أحد يمكن له أن يدعي ضبط ما هو نفسي مائة بالمائة، إذ هنا تختلط القوى والأدوات ومصادر المعرفة وتتزاحم فيما بينها ،من ثلاثية متكاملة حينا ومتناقضة أحيانا ومتداخلة بين حين وآخر: ثلاثية القلب والعقل والحس أو الجسم بعروقه وغرائزه وانعكاساته وارتداداته.
وحينما يلجأ كاتب أو مدرس وخطيب إلى سلوك منهج النقد واقتفاء عيوب وسقطات الآخر ، سواء كانت علمية أو عملية أو فنية وما إلى ذلك فإنه في الغالب قد يظن في نفسه أنه يسعى إلى الإصلاح ومحاربة الفساد وتصحيح المسار! وهذا المبعث من حيث المبدأ جميل وتميل إليه النفس ميلا كبيرا لأنها غير محبوسة بمرآة ضيقة تعكس عليها الصورة من قريب، فترى المشهد وتتفرج عليه فتحكم حكما جازما من خارج، وعلى بعد مع الترجيح ،بأن هذا الذي رأته هو عين الصواب والحقيقة ، تماما كمن يتفرج على مقابلة لكرة القدم وهو يناصر فريقا ما، فلما لم يصل اللاعب إلى تسديد الهدف ينقلب عليه نقدا وتنقيصا وتحليلا وتقليلا ! لكنه لو كان مكانه لما استطاع أن يقدم ولو معشار عرضه ولا أن يجاريه خطوات في سرعته ودقته، فيكثر اللغط وتتشابك الألفاظ ومن ثم الأيادي ولم لا الحجارة والسيوف.
والكاتب النقدي من هذا المثال، قد يبدو بعيدا عن هذا المعنى بحسب المقام، ولكن عند التدقيق والتحقيق سيقع في نفس المطب شاء أم أبى ،لأن النفس البشرية واحدة والغرائز هي نفسها والبواعث كذلك لكن الأحوال تختلف بحسب الموضوع والمتولد ما بين المقدمات والنتائج.
ولم يتساءل أحد يوما ما ، وكاتب هذه السطور من بين هذه الجموع، وممن وقع في هذا المطب، عما هو مقامي الأخلاقي وأهليتي العلمية والفكرية حتى يتسنى لي أن انتقد غيري وأهاجم أفكاره وأحللها ، وأعين عيوبه ونقصه وما يعتريها من خلل ومطابقة وغير مطابقة للحال والحقيقة؟
هل لأنني أعلم من الآخر ، أم أنني أعمق فكرا من الآخر ، أم أنني أملك للحقيقة من الآخر؟
ثم ما هي الضرورة لممارسة هذا النقد وإفراغ الجهد فيه كما ما هي الثمرة والنتائج المتوقعة من هذا العمل المضني والمكلف نفسيا وعصبيا وزمنيا ولم لا نقديا؟ فهل هذا من واجب العلم وحتميته أم هو فضول وخوض فيما لا يعني، فلا يجر خيرا إن على مستوى الفرد أو المجتمع والوطن ككل؟
ثم ما هو البديل عن هذا النقد الذي هو عبارة عن هدم لرأي وفعل وتوجه الآخر، والذي بالطبع سيولد غضبا وبالمقابل سيرد عليه بنفس الأسلوب؟
وأيضا ما الفرق بين الناقد العلمي زعما وبين بعض الأحزاب المتصارعة عند فترة الانتخابات ، كل يهدم برنامج الآخر ولكن من غير بديل متميز.
كل هذه الأسئلة وغيرها لم تخطر يوما على البال ولم تراجع فيها النفس على أي حال ، وإنما ستكون هناك سكرة الكتابة طاغية والنزعة نحو قمع المخالف حاضرة، ومن وراء ذلك وهم التشجيع من المحيط بأنك رائد وأنك صاحب الحجج القوية واللجاج المفحم، فتزداد حينذاك الرغبة في تعميق النقد واقتفاء كل شاذة وفادة واستخراج كل نقيصة وما دونها ، ليس لذلك من باعث سوى إفحام الغير والظهور بمظهر المنتصر والمفكر الذي لا يطاول ولا يقاوم .ناسيا المسكين أنه غارق في باب المراء الممقوت شرعا وأخلاقا ، ومنغمس في الجدل العقيم الذي لا ينبت كلأ ولا يبقي أرضا !كما قد يغفل عن قاعدة فيزيائية بسيطة وهي أن مواجهة النار بالنار لا تولد ولا تسعر سوى النار.
ولربما قد يكون هذا النقد مرتبطا في البداية بالموضوع كموضوع لكنه سرعان ما ينتقل إلى الشخص بزعم أن كل فكر يعبر عن سلوك صاحبه واعتقاده ومذهبه فيتسلسل الأمر من قضية إلى قضايا ومن أعراض إلى أمراض ومن حياد إلى أحقاد وهكذا دواليك.
وهنا قد تلعب المذهبية والطائفية والحزبية الضيقة دورا كبيرا في إذكاء هذه النزعة النقدية ، إلى أن تجر صاحبها العاقل ذي اللب نحو العنف الكتابي والشفوي ولم لا اليدوي ، فيفقد حينها الكاتب همته وهيبته وقيمته الأخلاقية والإصلاحية سواء عند العامة أو الخاصة لأنه هو من سيصبح المتفرج عليه من خارج وبعيد وهو من ستراقب أفعاله وأقواله وحركاته، فيتصيد الكل نقائصه ومن ثم تكشف عوراته ، وما أكثر العورات عند الإنسان وما أشدها إيلاما حينما تكون مكشوفة عن كاتب وعالم ومفكر قد كان بالأمس مثالا للانضباط والفضيلة ! و “من تتبع عورة أخيه المسلم، تتبع الله عورته، ومن تتبع الله عورته، يفضحه ولو في جوف بيته” كما قال سيد المرسلين سيدنا محمد ﷺ.