شهد المجتمع الإسلامي منذ تأسيسه حضورا علميا للنساء وجد صداه في بروز عدد كبير من النساء المشتغلات بالعلم أثبتته كتب التاريخ والتراجم، وفي الأسطر التالية أعرض لبعض النماذج النسائية الاجتهادية وأحاول من خلالها البرهنة على انخراط النساء في عملية الاجتهاد الديني والتأكيد على أن المجال الديني كان فضاء مفتوحا ولم يكن حكرا على الرجال كما يشيع بعض الكتاب المعاصرين.
تاريخ النسوة المجتهدات
عرف القرن الأول الهجري بروز عدد من النساء المشتغلات بالعلم وفي طليعتهن السيدة عائشة رضي الله عنها ولن نتوسع في الحديث عنها فمكانتها ليست محل نقاش، كما ذاع صيت زينب المخزومية (ت:73هـ) ابنة أم سلمة التي روت عن الرسول بضعة أحاديث وكانت من أفقه نساء زمانها وقال أبو رافع في حقها: كنت إذا ذكرت امرأة فقيهة بالمدينة ذكرت زينب بنت أبي سلمة، ومنهن أم الدرداء (ت:81هــ) التي كانت من أعلم نساء زمانها فروت الحديث ونقل عنها بعضهم، وكانت تعقد مجالس العلم بمنزلها ويتحاجج أمامها الرجال وهي تضعف رأي هذا وتقوي ذاك، ويستلفت النظر في سيرتها أنها كانت تذهب مع زوجها إلى المسجد وهي ترتدي البرنس فتصلي في صفوف الرجال وتجلس في حلق القراء تعلم القرآن إلى أن قال لها أبو الدرداء يوما الحقي بصفوف النساء.
ومن المجتهدات في مطلع القرن الثاني الهجري عمرة بنت عبد الرحمن الأنصارية (ت:102ه) وهي ربيبة السيدة عائشة رضي الله عنها وقد جمعت بين رواية الحديث والمعرفة الفقهية وقيل أنها كانت مصدرا لكثير من الأحكام الفقهية مثل: منع بيع الثمار غير الناضجة، وشاع عنها أنها وضعت مقدارا معينا لحد السرقة حيث نهت عن قطع اليد فيما دون الربع دينار، ومع اتساع علومها وفد إليها طلاب العلم للتعلم ووصفها أحدهم بأنها “وعاء العلم وبحره الذي لا ينفد”، وقد عاصرت الخليفة عمر بن عبد العزيز فكان يسألها في بعض مسائل، وحين طلب جمع الحديث الشريف قبل أن يُقضى أهله كانت عمرة من الذين تعينوا لهذه المهمة.
ومع انتشار الإسلام في الأقطار ظهرت في القرن الثالث في المغرب الإسلامي خديجة القيروانية (ت:270ه) وهي ابنة الإمام سحنون الفقيه المالكي المعروف، وكانت ضليعة في الفقه وتصدرت للإفتاء وكان أبوها يستشيرها في بعض المسائل التي ينظرها أمام القضاء.
واستمرت المشاركة العلمية النسائية في القرون التالية ففي القرن الرابع تبرز فاطمة بنت عبد الواحد المحاملي (ت:377ه) التي وصفها الذهبي بأنها “من أحفظ الناس للفقه” إذ تفقهت بالمذهب الشافعي على يد أبيها حتى تصدرت للإفتاء مع أبي علي بن أبي هريرة، وفي القرن السادس برزت فاطمة السمرقندية من أقصى الشرق الإسلامي وهي ابنة الإمام السمرقندي صاحب (تحفة الفقهاء) وقد بلغت مبلغا من العلم جعل والدها يعرض عليها الفتاوى فتناقشه فيها وكانت تعلق عليها بخطها كما كانت توقع على رقع الفتاوى بعد توقيع أبيها الذي لم يستشعر أدنى حرج في ذلك وهو الفقيه الحنفي البارز.
وفي القرن الثامن الهجري- الذي شهد الهجوم المزدوج الذي شنه الصليبيون والتتار على ديار الإسلام وما استتبعه من تراجع في حركة الاجتهاد- استمر الحضور العلمي للنساء، ولعل ما يرويه الصفدي في كتابه (أعوان العصر) عن فاطمة بنت عباس–وفي بعض التراجم عياش- (ت: 714ه) ما يوضح ذلك.
ولدت فاطمة في بغداد وتلقت العلم على يد شيوخها وارتحلت إلى دمشق ثم القاهرة ودرست الفقه دراسة عميقة حتى بلغت مكانة رفيعة أهلتها أن تناظر فقهاء زمانها وتتفوق عليهم في بعض المسائل، وقد عاصرت ابن تيمية ويبدو أن مكانتها العلمية جعلتها في موضع المقارنة معه فيقول الصفدي “لو عاينتها لقرُبت من الشيخ تقي الدين في تفضيلها” ويشرح أبعاد العلاقة بينها وبين ابن تيمية فيذكر أن ابن تيمية رغم إعجابه بعقلها وذكائها وثناؤه عليها صراحة إلا أنه بقي في نفسه شيء منها لأنها تصعد المنبر فهمَّ أن ينهاها غير أنه رأى الرسول-ﷺ- في منامه وسأله عنها فأخبره أنها امرأة صالحة، وما يهمنا في تلك الرواية أنها تشير إلى أن بعض الممارسات النسائية باتت تشكل حساسية معينة لدى الفقهاء في ذلك الوقت مع صعود فكرة المحافظة على المجتمع الإسلامي في ظل الغزو الخارجي.
وعلى هذا شهدت القرون التالية مزيدًا من الانحسار فتقلصت أعداد العالمات في كتب التراجم وندر وجود فقيهات بينهن وتركز الحضور النسائي العلمي في مجال الحديث والتصوف وذلك لارتباط الفقه والإفتاء في ذلك الوقت بمؤسسة القضاء، ورغم ذلك فإننا لا نعدم حتى القرن العاشر الهجري وجود فقيهة ومفتية في وزن عائشة الباعونية (ت: 922ه) التي ولدت في دمشق وارتحلت إلى القاهرة وتلقت العلم على يد شيوخها وأجيزت بالتدريس والإفتاء في عصر السلطان المملوكي الغوري، وأهلتها معرفتها المعمقة أن تضع عددا من المؤلفات الفقهية والأدبية بعضها موجود حتى الآن.
وإذا كان الحضور العلمي النسائي في المنطقة العربية قد تقلص فمن المرجح أنه استمر خارجها حيث برزت في الهند زيب النساء ابنة الشاه محي الدين عالمكير (ت: 1113ه) حفظت القرآن وأتقنت العلوم الشرعية وعلوم العربية ونظمت الشعر، وقد ذكر عادل نويهض في مؤلفه (معجم المفسرين) أن لزيب النساء كتابا في التفسير عرف باسم (زِيب التفاسير) وسواء أكان تأليفا خالصا أم ترجمة عن العربية لتفسير الفخر الرازي فإنه يعدُ أول محاولة نسائية لإنتاج علمي حول القرآن الكريم.
وفي الحقب التاريخية التالية لا نكاد نعثر على عالمات بمثل هذا الثقل العلمي إذ شهدت المعرفة الدينية عموما تراجعا كبيرا في العصر العثماني واقتصرت على إنتاج شروح وحواشي وتعليقات على ما كتبه المتقدمون.
يسمح لنا هذا العرض التاريخي الوجيز الادعاء بأن مشاركة النساء في العملية المعرفية ظاهرة ممتدة إلى حد بعيد فلم تشهد انقطاعا زمانيا أو مكانيا عبر التاريخ الإسلامي، وتواصلت عبر المجالات المعرفية كافة ورغم أننا ركزنا في غالبية النماذج التي سقناها على المجال الفقهي فذلك لأن مشاركة المرأة في علم الحديث هي مشاركة ثابتة وليست محل جدل.
الموقف الفقهي من اجتهاد النساء
فرض اجتهاد النساء نفسه على الفقهاء وأصبح محل نقاش في مؤلفاتهم الفقهية؛ فابن حزم الأندلسي وابن رشد والإمام الغزالي لم يشر أيا منهم إلى اشتراط الذكورة في الاجتهاد وهو ما يعني ضمنيا دخول النساء فيمن يحق لهم الاجتهاد، أما الإمام النووي فقد نص في كتابه (المجموع) على تساوي الرجل والمرأة في منصب الإفتاء –الذي كان رديفا للاجتهاد-، وأجاز ابن قدامة المقدسي إفتاء المرأة دون قضائها، على حين فنَّد الإمام السرخسي دعوى القائلين بأن الفتوى لا تحل إلا لأزواج النبي دون غيرهن من النساء واعتبره رأيا باطلا. ويبدو واضحا من مناقشات الفقهاء المتقدمين أنهم قصروا بحثهم على تحديد شروط الاجتهاد ومشروعية اجتهاد المرأة وإفتاؤها ولم يتطرقوا إلى نقصان عقلها، غير أن العلامة زكريا الأنصاري وهو من علماء القرن العاشر الهجري يناقش في كتابه (غاية الوصول إلى شرح لب الأصول) شروط المجتهد ويستدعي مسألة النقص فيقول أنه لا يشترط في الاجتهاد الذكورة “لجواز أن يكون للنساء قوة الاجتهاد وإن كن ناقصات عقل”. ويبدو أن الحق في الاجتهاد سيصبح في العصر العثماني وما يليه محل شك فقد ذهب تقرير علمي أعده بعض علماء الشريعة في أوائل القرن الرابع الهجري إلى حد تعريف المجتهد بأنه “الرجل الوجيه عند الله وعند الأمة البالغ مبلغ العلم ومعرفة مدارك التشريع وأسرار الشريعة” وهو ما يعني ضمنيا إقصاء النساء من دائرة الاجتهاد “واختراع أصول جديدة للشرع لم يقل بها أحد من أهله” حسب وصف رشيد رضا في مجلة المنار.
ما نخلص إليه أن النساء شاركن في عملية الاجتهاد الإسلامي وأن حضورهن ثابت تؤكده كتب التراجم وأنه لم يكن ما يمنع اجتماعيا ولا شرعيا من تلك المشاركة.