قد يعتبر البعض أنّه من المثالية المُجرّدة ومن فرط الانفصام عن الواقع، الحديث عن أمل يخرج من شقوق أسوار مُظلمة، وعن فرج يشقّ صخور اليأس أنهاراً، فمن السهل المنسجم مع المنطق المباشر اعتبار القاع ملجأً آمناً عندما تعصف الريح بقمم الجبال، حيث يكون تبني منهجية مقاومة اليأس لتحرير الأمل من قيود الإحباط المهمّة المستحيلة التي لا يُتقنها سوى المؤمنون، كأعقد الحلقات التي نعلق بها في حياتنا لا تحتاج إلى معجزات بقدر ما تحتاج إلى جرعة حقيقية من الإيمان.
لم تكن المعضلة في الابتلاء ذاته بل في استحضار الصبر الكافي في ثوب الطمأنينة وصولاً للبشرى “وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِّنَ الْخَوْفْ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِّنَ الأَمْوَالِ وَالأنفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ”. [البقرة: 155]
حتى إذا أصبح الكفر محسوساً والمكر واقعاً يتربص بالمؤمنين في ضجيج المحنة ويُطلب النّصير وهو نادرٌ، هناك عند صمت التخاذل يصدح موقفُ الحواريين خالداً في وجدان الذين آمنوا “يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ كُونُوۤاْ أَنصَارَ ٱللَّهِ كَمَا قَالَ عِيسَى ٱبْنُ مَرْيَمَ لِلْحَوَارِيِّينَ مَنْ أَنَّصَارِيۤ إِلَى ٱللَّهِ قَالَ ٱلْحَوَارِيُّونَ نَحْنُ أَنصَارُ ٱللَّهِ” [الصف: 14].
وفي دول الاستبداد واستعلاء الطاغية وسفور الفساد ومحق الأذهان كي تسير في فُلك مُدّعي الرؤية الأوحد يعجّ المشهد الخارجيّ بمعاني الهزيمة والذلّ “إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلا فِي الأَرْضِ وَجَعَلَ أَهْلَهَا شِيَعًا يَسْتَضْعِفُ طَائِفَةً مِّنْهُمْ يُذَبِّحُ أَبْنَاءَهُمْ وَيَسْتَحْيِي نِسَاءهُمْ إِنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ” [القصص: 4]، إلّا أنّ مصداق الحكمة الآلهية يتجاوز الظاهر الحاصل للعيان، لمستقبلٍ يَعِدُ بالحرية والانتصار “وَنُرِيدُ أَن نَّمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ” [القصص: 5]، ولا تكتمل الحرية إلّا بعدالة تقتصّ من الاستبداد فتعاقب المجرم وجلّاده وسياطهما التي ألهبت عروق المُستضعفين “.. وَنُرِي فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا مِنْهُم مَّا كَانُوا يَحْذَرُونَ” [القصص: 6].
وفي غمرة مُعترك تمكين أهل الحقّ يكمن مختبر المبادئ وامتحان المعتقدات، ويكون الاختيار لزاماً وَهِيَ تَجْرِي بِهِمْ فِي مَوْجٍ كَٱلْجِبَالِ وَنَادَىٰ نُوحٌ ٱبْنَهُ وَكَانَ فِي مَعْزِلٍ يٰبُنَيَّ ٱرْكَبَ مَّعَنَا وَلاَ تَكُن مَّعَ ٱلْكَافِرِينَ” [هود: 42]، قد تُغرق أمواج الاختبار أعزّ ما نملك وتنهش ما لانحبُ أن نفقده، تريد أن تختبرنا لِتصقل جوهر الإيمان فينا، عندما يحيط بحر الظلمات بنا وتتكسر الأشرعة من حولنا لا نَسألُ هل ستستمر العاصفة بل هل ستصمد السفينة التي نركبُ في وجهها؟، فكل السُفن تبحر وبعضها يصل وقليلٌ من البعض يرسو بسلام ” قِيلَ يٰنُوحُ ٱهْبِطْ بِسَلاَمٍ مِّنَّا وَبَركَاتٍ عَلَيْكَ وَعَلَىٰ أُمَمٍ مِّمَّن مَّعَكَ وَأُمَمٌ سَنُمَتِّعُهُمْ ثُمَّ يَمَسُّهُمْ مِّنَّا عَذَابٌ أَلِيمٌ” [هود: 48].
وعندما تُرصف الجثث وتضيق المساحات فلا تتسع للحزن، وتتسع المآقي حتى تنهلُ من الروح نبعاً من الدمع لا ينضب، يُعاد ترتيب الدماء في معادلة جديدة لمفهوم الألم، تُذيب المشقّة وترجح كفّة الميزان وإن تساوت في ظاهر مقدار الأوجاع، وما هي إلّا لحظات حتى تنتقل الراحة عبر جسر الرجاء فوق وادي القروح “وَلاَ تَهِنُواْ فِي ٱبْتِغَآءِ ٱلْقَوْمِ إِن تَكُونُواْ تَأْلَمُونَ فَإِنَّهُمْ يَأْلَمُونَ كَمَا تَأْلَمونَ وَتَرْجُونَ مِنَ ٱللَّهِ مَا لاَ يَرْجُونَ وَكَانَ ٱللَّهُ عَلِيماً حَكِيماً” [النساء: 104].
عديدةٌ هي القناديل القرآنية التي تنتزع الصبح من جُدر الظلام فيتنفس أملاً ويعبق نوراً، ببشريات قرآنية تهمس في أُذن المُنصتين، في ترتيل طفل يصعقُ سمعَ الطواغيت يتلوها في تلعثمٍ ويكررها “قُتِلَ أَصْحَابُ ٱلأُخْدُودِ” [البروج: 4].