إن النظم القرآني البديع المعجز يجمع بين جمال المبنى وروعة المعنى، ويأتلف فيه إعجاز البيان مع إعجاز التشريع ومقاصد الأحكام، وعندما تعيش الأمة مع كتاب ربها تلاوة وتدبرا وعملا؛ تستقيم حياتها على الجادة وتسير على نور من ربها يضيء لها دروب حياتها .

وفي هذا السياق نقتبس نورا من أنوار آيات النور، نقف عند جمالها , ونتأمل بيانها، وهي قوله تعالى (قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذَلِكَ أَزْكَى لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا يَصْنَعُونَ ) النور 30 .

لقد توجه الخطاب القرآني البديع في هذه الآية الكريمة بفعل الأمر (قل) متوجها به إلى النبي-صلى الله عليه وسلم- على سبيل الإلزام والوجوب بالتبليغ، ولم يرد التوجيه به مباشرة للمؤمنين فيقول:- (يا أيها الذين آمنوا غضوا أبصاركم ) وذلك – والله أعلم – لما فيه من الأمر بالتبليغ والمتابعة والعناية من قبل الرسول- صلى الله عليه و سلم- لأمته بهذا الأمر؛ لأنه مما يتساهل الناس فيه، ويترتب عليه شر كبير، فيه فساد المجتمعات ودمارها .

وخص توجيه الخطاب بالإلزام والأمر بعد ذلك للمؤمنين، وهم الذين اتسموا بوصف الإيمان؛ لأنه لا يقوى على امتثال ذلك من غض الأبصار, وجمح شهوات النفس ونوازعها البشرية إلا من تغلغل وصف الإيمان في نفوسهم وقلوبهم، دون من تجرد من هذا الوصف أو تعرى منه.

ثم إن الامتثال بهذا الأمر مظهر من مظاهر زيادة الإيمان وسموه، وفي الحديث (النَّظْرَةُ سَهْمٌ مِنْ سِهَامِ إِبْلِيسَ مَسْمُومَةٌ فَمَنْ تَرَكَهَا مِنْ خَوْفِ اللَّهِ أَثَابَهُ جَلَّ وَعَزَّ إِيمَانًا يَجِدُ حَلَاوَتَهُ فِي قَلْبِهِ) .

والغض للبصر مناط به دافع الحشمة والخلق والحياء، لذلك جاء في سياق غض الصوت أيضا في قوله تعالى (وَاغْضُضْ مِنْ صَوْتِكَ) لقمان 19، ولم يقل:- (واخفض من صوتك ) لأن الغض خفض وزيادة، فهو خفض للصوت مع التأدب والحياء .

ومن بديع النظم أنه استعمل حرف الجر (من) في قوله: (يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ ) ولم يستعملها في حفظ الفروج فقال: (وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ )، فالمشرِّع الحكيم طلب من المؤمنين غض أبصارهم عما يحرم عليهم فقط، فالأصل في الأبصار الحل، فهي نعمة من نعم الله للنظر والتأمل في كونه وخلقه والاعتبار، وإنما يغض عن مواضع الحرمات ومناظر الابتذال، في حين أن الأصل في الفروج عموم الحرمة في الإبداء والإفضاء.

وغض الأبصار هو الوسيلة لحفظ الفروج؛ لذا تقدم ذكره في هذا السياق، وحفظ الفروج يمثل لها صونا وعفة، والاستهانة بذلك طريق من طرق الغواية، وسبيل إلى الأمراض الحسية والمعنوية على حد سواء .

ثم علل النظم القرآني هذا الحكم والتوجيه بقوله (ذَلِكَ أَزْكَى لَهُمْ ) و (أزكى) صيغة تفضيل من الزكاة بمعنى النمو والبركة، وتحمل هذه اللفظة في طياتها معاني الطهر والنقاء، والبركة الحسية والمعنوية في حياة المؤمنين، ففي غض الأبصار زكاة للأنفس والأرواح والقلوب، بل زكاة للعقول أيضا.

إنَارَةُ الْعَقْلِ مَكْسُوفٌ بِطَوْعِ هَوًى

وَعَقْلُ عَاصِي الْهَوَى يَزْدَادُ تَنْوِيرًا

ثم ختم المولى الآية بقوله (إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا يَصْنَعُونَ) وفي التأكيد ب(إنَّ) مزيد تنبيه وتحذير للمؤمنين من التهاون في شأن غض الأبصار وحفظ الفروج، وجاء الوصف بالخبير؛ لأنه المطلع على خبايا نفوسهم، وخبير بمقاصد أعمالهم وأفعالهم ، واختار النظم (يصنعون ) دون (يفعلون) أو (يعملون) ؛ لأن الصنع من مقاصد المكلفين ولا يرد إلا من العقلاء على وجه الخصوص، وفعله يتطلب مزيد إتقان وحيطة، والله خبير بمقاصدهم في النظرات والخطرات، مما دق منها وخفي (يَعْلَمُ خَائِنَةَ الْأَعْيُنِ وَمَا تُخْفِي الصُّدُورُ ) .