يعد شهر رمضان معلما موسميا فارقا في حياة المسلم، وهو يقطع خط السير والوصول إلى الله تعالى متحققا بمعاني العبودية وتجلياتها الجمالية الكمالية في شعاب الحياة كلها، ولأمر ما كان الصيام أحد الأركان الخمسة، وهي أركان متعلقة بفعل البدن بالأساس نطقا بالشهادة، وأداء للصلاة والحج، وإمضاء للزكاة التي هي حصيلة الكد والسعي، في حين كان الإيمان ثمرة العمل الروحي والعقلي، ولا غرو أن كل ما سبق  من مباني الإيمان متعالق بالروح، وأركان الإسلام مترابطة بالبدن، وامتزاجهما وثمرتهما اليانعة هي الإحسان الدال على الجمال والكمال والتحقق والتذوق.

 يعتبر الصوم شعيرة رائعة مجسدة لكل معاني الانتصار على جواذب الطين، ولمعاني الانتظار إلى اللقاء السرمدي، والشوف إلى الرفيق الأعلى، والإيمان المطلق بالغيب الذي هو فيصل التفرقة بين الإيمان والكفر.

وعليه اعتبر المربون رمضان شهر الانتصار الدائم، وهو انتصار على الشيطان وحزبه والهوى وأهله، وذلك في تأتي معاني هذا الانتصار والعلي والسمو والتحقق بمعاني الخلافة عن الله تعالى فيما يأتي:

1-الانتصار الإيماني:

وذلك من حيث الاندراج في العبودية، إذ هو دثارها، والصلاة شعارها، فلم تخل شريعة سابقة من صلاة وصوم، كما قال تعالى:” ﴿يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ﴾ [البقرة، 183]

وعبادة الصيام فريدة غريبة لأنها جمعت أركان الدين كلها، من الإيمان، والإسلام، والإحسان، حيث تتجلى فيها المراقبة والمشاهدة، وفي هذا تصديق لحديث النبي : «‌كل ‌عمل ‌ابن ‌آدم ‌له ‌إلا ‌الصوم، فإنه لي وأنا أجزي به، ولخلوف فم الصائم أطيب عند الله من ريح المسك.» (البخاري، 5927)، لأن فيها وجها من الاقتداء بالملك الله تعالى الصمد الغني عن الحاجات، والإنسان مادة وروح، فهو يغلق إمدادات المادة التي تجور على الروح، على الرغم من أن الناس تقوم ماديتهم وتستمر بشريتهم بالطعام والتزاوج.

كما أن رمضان دورة سنوية مجددة لأشواق الأرواح وانتعاشها بالذكر والصلاة، والقيام والتهجد والسهر، والمناجاة وقرع الباب، والتعرض للصدقة من الله، فخيراته تفيض على عباده، وكم له من العتقاء والمقبولين.
ومن أعظم ما يجعل دورة الأرواح ناجحة ومثمرة ما فيها من كبت للشيطان المتكبر،  وكسر لأمانيه الكاذبة، فعندما أُخبر الملائكة  بتعلق إرادة المولى بخلق الإنسان: ﴿قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَ ﴾ [البقرة: 30]، ولم يعرفوا بأنه سيخرج من نسله الأنبياء والصالحون والخلفاء المصلحون، فعادوا  يستغفرون للمؤمنين لخطئهم الأول لما ظنوا بآدم سوء، كما قال تعالى: ﴿الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيُؤْمِنُونَ بِهِ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْمًا فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تَابُوا وَاتَّبَعُوا سَبِيلَكَ وَقِهِمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ﴾ [غافر، 7].

وأما الشيطان فلم يتراجع عن سيئته الأولى، فهو يحاول الانتقام  دوما وأبدا، فتأتي الصلوات لتبعده، وتأتي مواسم الصوم لتكبته، وتتجدد العبادة في رمضان، وفي الست من شوال، وعرفة وعاشوراء والأيام البيض، والاثنين  والخميس. وكلها محطات معلنة بقدرة الإنسان على التحقق بالعبودية والبراءة من الشيطان.

2-الانتصار الأخلاقي:

ففي الصيام تتغير الأخلاق نحو الأفضل، إذا هو فرصة عظمى لتغيير الذات. لما فيه من حصانة ذاتية عن المؤثرات والمكدرات والمنفرات، وفي الحديث «الصيام ‌جنّة، فلا يرفث ولا يجهل، وإن امرؤ قاتله أو شاتمه، فليقل إني صائم مرتين» (البخاري، 1894). والجنّة وقاية من النار، ولأجل ذلك وجب الاهتمام بها  والاحتياط لها، كما يحتاط المقاتل لدرعه حتى لا تنفذ إليه السهام ورؤوس الحراب، وكذلك الذنوب فإنها إن خرقتها تهلهلت وتقطعت فتتسلل النار إلى البدن، ولأجل ذلك تشدّد بعض السلف في أمر الذنوب والمعاصي في رمضان، فاعتبرها بعضهم مفطرة كحال الأكل والشرب، وأوجبوا القضاء، فالغيبة عند بعض السلف والفقهاء تفطر، كما هو المروي عن عائشة، الأوزاعي، الثوري، وابن حزم، ويقاس عليها غيرها من الموبقات المهلكات.

وروي عن أبي هريرةَ أنه قال:” الغيبةُ تخرِق الصيام والاستغفار يرقعه، فمن استطاع منكم أن يجئَ بصوم مرقع فليفعل”. وقد اعتلوا لأريهم هذا بما ورد عن النبي : «من لم يدع قول الزور والعمل به، فليس لله حاجة في أن يدع طعامه وشرابه» (البخاري، 1903). وقوله :” ‌ليس ‌الصيام ‌من ‌الأكل ‌والشرب، ‌إنما ‌الصيام ‌من ‌اللغو ‌والرفث، فإن سابك أحد أو جهل عليك فقل: إني صائم، إني صائم” (المستدرك، 1586).

ولأجل هذه الصيانة الأخلاقية وتحقيق الانتصار فيها، إذ هي أعظم معارك الإنسان في هذه الدنيا، وما بعدها أهون، توالت الآثار على السلف في العناية بالجانب الأخلاقي في رمضان، واستشعار النقص دوما عن الكمال لإتمام المسارعة والمسابقة.  فعن أبي بكرة، قال: قال رسول الله : “‌لا ‌يقولن ‌أحدكم: ‌إني ‌صمت رمضان كله وقمته كله”، قال: فلا أدري أكره التزكية، أو قال: لا بد من نومة أو رقدة” (أبو داود، 2415).

وما سبق تذكير دائم بأن الصوم عبادة تبنى وتحفظ وتتميز وتستثمر حتى لا تنمحي آثارها في بقية السنة، لأنها أمانة واجبة الحفظ، وجاء عن جابر رضي الله عنه:” إذا ‌صمت ‌فليصم ‌سمعك ويصرك ولسانك عن الكذب والمآثم، (ودع أذى الخادم)، وليكن عليك وقار وسكينة يوم صيامك، ولا تجعل يوم فطرك ويوم صيامك سواء” (مصنف ابن أبي شيبة، 9125).

3-الانتصار الاجتماعي:

ويتجلى ذلك في تغير عادات المسلمين في موسم الخير، إذ أيامه أعياد كلها، وذلك من حيث شيوع التعاون وكترته بإحراج الزكوات والصدقات، والتعبد بسائر القربات، ولا غرو أن كان لرمضان ثقافة خاصة في كل العالم الإسلامي، ففيه تمد الموائد، وتكثر الضيافة، وتعمر البيوت بقفة رمضان، وتزهو المساجد بعمارها.

ولأجل ما سبق ندب الشارع إلى تفطير الصائمين: سلمان الفارسي من خطبة للنبي :”من فَطَّر فيه صائمًا كان له مغفرةً لذنوبه وعتق رقبته من النَار، وكان له مثل أجره من غير أن ينقص من أجره شيءٌ” قلنا: يا رسول الله! ليس كلنا يجد ما يفطر الصائم؟ فقال رسول الله : “يعطي الله هذا الثوابَ ‌من ‌فطّر ‌صائمًا على مذقة لبن أو تمرة أو شربة من ماء، ومن أشبع صائمًا سقاه الله من حوضي شربةً لا يظمأ حتّى يدخل الجنّة” (شعب الإيمان، 3336).

وكان المصطفى المثل الأعلى في الجود وصناعة الخير في كل رمضان، كما روى ابن عباس: «كان رسول الله أجود الناس، ‌وكان ‌أجود ‌ما ‌يكون ‌في ‌رمضان حين يلقاه جبريل، وكان يلقاه في كل ليلة من رمضان فيدارسه القرآن، فلرسول الله أجود بالخير من الريح المرسلة» (البخاري، 6)، وذلك لأن التخفيف عن الناس في معاناتهم ولأوائهم من علائم الإيمان، فإن الإحساس بالجوع تذكير بمعاناة المعوزين، فلله أهلون وخاصة مرضيون، وهم المهتمون والنافعون لخلق الله، لأن المسلم رباني رحماني رقيق. والفرق عظيم بين سائر الممسكين وبين خصوص الصائمين.

كما يتجلى الانتصار الاجتماعي في هذه الوحدة الشعورية والشعائرية بين المسلمين في وحدة السحور والإفطار والصوم، والتلاحم في الرؤية الواحدة، والتراحم في صفوف التراويح، واللهج بالدعاء للجميع. والتسابق بالتهاني.

4- الانتصار السياسي:

وهو انتصار يتجلى في عديد الوقائع والأحداث، ومن أهمها ميلاد الأمة الإسلامية بنزول الوحي في رمضان، وفيه كان الإعلان الكبير لشعيرة الصلاة، ففي رمضان شرع الآذان في السنة الأولى، وفي الثانية كانت غزوة بدر في السابع عشر منه، وفيه كان فتح مكة في العشرين منه في السنة الثامنة للهجرة.

وفي عهود التابعين كان فتح بلاد السند في رمضان سنة (92) شرقا، وفي السنة ذاتها فتحت الأندلس غربا، وفيه دق المسلون أبواب فرنسا، ففيه  كانت معركة بلاط الشهداء (رمضان 114ه)، وفيه غزوة عمورية التي كسرت غطرسة البيزنطيين على يد المعتصم العباسي في رمضان (223)، ومعركة عين جالوت (26 رمضان سنة 658 )، بقيادة السلطان قطز، والتي ردت التتار خائبين بعد اكتساحهم لشرق العالم الإسلامي، وفيه كانت معركة شقحب (رمضان 702ه) بقيادة الناصر محمد قلاوون ضد التتار، وشارك فيها شيخ الإسلام ابن تيمية، وفيه كان فتح  بلاد البوسنة والهرسك في( رمضان 791) بقيادة مراد الأول  العثماني، ولا زالت أجيالنا تتذكر  حرب رمضان 1396 – أكتوبر 1973م. ضد الكيان الغاصب في فلسطين.

والخلاصة أن رمضان شهر الانتصارات الشعائرية والأخلاقية والاجتماعية والسياسية، ومن بلغه فقد أُوتي خيرا كثيرا، وأُعطي فسحات من العمل والأجر، ويكفي في هذا ما رواه طلحة بن عبيد الله: أن رجلين من بلي قدما على رسول الله  وكان إسلامهما جميعا، فكان أحدهما أشد اجتهادا من الآخر، فغزا المجتهد منهما فاستشهد، ثم مكث الآخر بعده سنة ثم توفي، قال طلحة: فرأيت في المنام بينا أنا عند باب الجنة إذا أنا بهما فخرج خارج من الجنة فأذن للذي توفي الآخر منهما، ثم خرج فأذن للذي استشهد، ثم رجع إلي فقال: ارجع فإنك لم يأن لك بعد، فأصبح طلحة يحدث به الناس فعجبوا لذلك، فبلغ ذلك رسول الله  وحدثوه الحديث، فقال: من أي ذلك تعجبون؟ فقالوا: يا رسول الله؛ هذا كان أشد الرجلين اجتهادا ثم استشهد، ودخل هذا الآخر الجنة قبله، فقال رسول الله : أليس قد مكث هذا بعده سنة؟ قالوا: بلى، قال: وأدرك رمضان فصام وصلى كذا وكذا من سجدة في السنة؟ قالوا: بلى، قال رسول الله : فما بينهما أبعد مما بين السماء والأرض. (ابن ماجه، 3925).