قال تعالى : { وَإِذْ قَالَتْ أُمَّةٌ مِّنْهُمْ لِمَ تَعِظُونَ قَوْمًا ۙ اللَّهُ مُهْلِكُهُمْ أَوْ مُعَذِّبُهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا ۖ قَالُوا معذرة إلى ربكم وَلَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ } (الأعراف : 164)
تتحدث مع هذا وذاك، وتكتب هنا وهناك، تأمر بالخير وتنهى عن الشر، وتنصح هذا وذاك وتلك، لا تتوقف ولا تيأس، بل مستمر إلى ما شاء الله لك أن تستمر، لكن في الأثناء يأتيك من يقول لك: أنت تحرث في بحر! أنت تضيع وقتك وجهدك على أناس لن يلتفت أحدهم إليك. لذا اهتم بنفسك ومن تحب، أغلق عليك بابك حتى يأتيك اليقين!.
هذا مشهد سلبي من مشاهد بث اليأس في النفوس، ضمن مشاهد كثيرة كانت تحدث قديماً وما زالت تتكرر، بل ستستمر مراراً حتى يرث الله الأرض ومن عليها. وحتى لا يضيع خيط الموضوع منا، سنتعرض لقصة أصحاب السبت، القرية التي كانت حاضرة البحر، لتتضح الرؤية أكثر، ولنتخذ من القصة منطلقاً إلى ما أروم إليه في خاتمة هذا الموضوع.
جاء ذكرهم في القرآن، حين تفاخر بعض يهود المدينة أمام رسول الله – ﷺ – يريدون أن يظهروا له عليه الصلاة والسلام مكانتهم الرفيعة بين الأمم، وأنهم من سبط خليله إبراهيم، ومن سبط إسرائيل، ومن سبط موسى كليم الله. فأوحى الله إلى نبيه (واسألهم عن القرية التي كانت حاضرة البحر إذ يعدون في السبت إذ تأتيهم حيتانهم يوم سبتهم شرعا ويوم لا يسبتون لا تأتيهم كذلك نبلوهم بما كانوا يفسقون). أي اسأل اليهود يا محمد الذين هم جيرانك، عن أخبار أسلافهم وما مسخ الله منهم قردة وخنازير. أما عذبتهم بذنوبهم؛ وذلك بتغيير فرع من فروع الشريعة؟.
قصة أصحاب السبت
كان أهل القرية، التي لم يذكر الله تفاصيلها الجغرافية والتاريخية سوى أنهم من يهود، بحسب سياق الآيات التي قبلها، يعتمدون على البحر في كسب رزقهم. فابتلاهم الله، كما هي السنن الإلهية مع خلقه منذ أن خلق آدم عليه السلام وإلى أن يرث الأرض ومن عليها، بأن حرم عليهم القيام بصيد الأسماك يوم سبتهم. وازداد الابتلاء شدة حين كانت تأتي الأسماك وبكثرة يوم السبت، وتقل كثيراً باقي أيام الأسبوع. فتحايلت فئة منهم على الأمر الإلهي. كانوا يضعون شباكهم قبل يوم السبت، فتأتي الأسماك في ذاك اليوم وتعلق بها، ثم يجمعونها اليوم التالي!.
فئة منهم لم يعجبها هذا التحايل على الأوامر الإلهية، فقامت من فورها بواجب النهي، واستنكرت فعلهم وأمرتهم بالتوقف كي لا تنزل عليهم النقمة الإلهية، وتتضرر القرية كلها، فما استجابوا، بل استمر الأمر بين الفئتين، لتظهر فئة ثالثة بعد حين من الدهر تقول للفئة الناهية (لم تعـظـون قوماً اللهُ مهلكهم) ؟ أي أنكم باستمرار فعل النهي والاستنكار والنصح مع تلك الفئة، صرتم كمن يحرث في بحر. فلا فائدة من الوعظ والنهي مع تلك الفئة الباغية الآثمة، التي لا نشك في هلاكها بسبب عصيانها أوامر ربها.
هل توقفت الفئة الناهية عن المنكر والآمرة بالمعروف؟
بالطبع لم تتوقف وقالت في ردها على من لا يرون في عملها أي جدوى، وبكلام مختصر موجز: إن عملنا هو بمثابة (معـذرة إلى ربكم ولعلهم يتقون). أي أن ما نقوم به فهو واجب لله نؤديه – كما يقول سيد قطب في ظلال القرآن: “واجب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والتخويف من انتهاك الحرمات، لنبلغ إلى الله عذرنا، ويعلم أن قد أدينا واجبنا. ثم لعل النصح يؤثر في تلك القلوب العاصية فيثير فيها وجدان التقوى“. وهكذا انقسمت القرية بعد هذا التحايل وردود الأفعال المتنوعة، إلى ثلاث فرق. فرقة متحايلة، وأخرى ناهية، وثالثة لا مع هؤلاء ولا إلى هؤلاء.
بصورة أخرى، انقسم سكان القرية الواحدة إلى ثلاث أمم – كما في تفسير الظلال -: أمة عاصية محتالة. وأمة تقف في وجه المعصية والاحتيال وقفة إيجابية بالإنكار والتوجيه والنصيحة. وأمة تدع المنكر وأهله، وتقف موقف الإنكار السلبي ولا تدفعه بعمل إيجابي.. فلما لم يجد النصح، ولم تنفع العظة، وسدر السادرون في غيهم، حقت كلمة الله، وتحققت نذره. فإذا الذين كانوا ينهون عن السوء في نجوة من السوء. وإذا الأمة العاصية يحل بها العذاب الشديد الذي سيأتي بيانه. فأما الفرقة الثالثة أو الأمة الثالثة، فقد سكت النص عنها، ربما تهوينا لشأنها – وإن كانت لم تؤخذ بالعذاب – إذ إنها قعدت عن الإنكار الإيجابي، ووقفت عند حدود الإنكار السلبي. فاستحقت الإهمال وإن لم تستحق العذاب (فلما نسوا ما ذكروا به أنجينا الذين ينهون عن السوء، وأخذنا الذين ظلموا بعذاب بئيس بما كانوا يفسقون. فلما عتوا عما نهوا عنه قلنا لهم: كونوا قردة خاسئين).
إنما عليك البلاغ
أحداث قصة القرية تفيد أهمية وضرورة العمل على إزالة منكر ما في المجتمع، وبالطرق المحددة شرعاً كما جاء في صحيح مسلم (من رأى منكم منكراً فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه، وذلك أضعف الإيمان).
إن تكاسل المجتمع عن القيام بواجب الردع – في وجود القدرة على ذلك – أو النصح والدعوة إلى الإصلاح بكل السبل المتاحة، والمتمثلة بشكل أساسي في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، إنما هذا التكاسل قد يؤدي إلى هلاك الجميع أحياناً، وليس فقط الفئة العاصية، وحديث السفينة يوضح الكثير من مشاهد الصورة.
روى البخاري من حديث النعمان بن بشير – رضي الله عنهما – أن رسول الله – ﷺ – قال: “مثلُ القائم على حدود اللَّه والواقعِ فيها كمثل قوم استَهموا على سفينة، فأصاب بعضُهم أعلاها وبعضُهم أسفلها، فكان الذين في أسفلها إذا استقوا من الماء مرُّوا على من فوقهم، فقالوا: لو أنّا خرقنا في نصيبنا خرقاً ولم نؤذِ من فوقنا، فإن يتركوهم وما أرادوا هلكوا جميعاً، وإن أخذوا على أيديهم نجوا ونجوا جميعا”.
لاحظ أن الفئة التي أرادت خرق السفينة، كانت لها تأويل ونظرة معينة للأمر، بحيث كان يبدو حُسن النية ظاهراً وواضحاً عند من يراقبهم، وفي الوقت نفسه، كان أفرادها معتقدين بصوابية تأويلهم أو نظرتهم. فقد كانوا يريدون ألا يشقوا على من فوقهم بكثرة ترددهم عليهم لسُقيا الماء، فجاءت فكرة خرق خشب السفينة بالأٍسفل ليستقوا منه الماء، سواء كانوا على دراية بخطورة عملهم أم لا. فهل يُتركون وإن كانت نياتهم حسنة؟.
بالطبع لا يجب تركهم وتجسيد رؤيتهم الفاسدة، وإن بدت ظاهرياً طيبتها. لقد كان تأويلهم فاسداً ورؤيتهم أفسد، وذاك التأويل وتلكم الرؤية كانت لتكون سبباً في هلاكهم وغرقهم وغرق من فوقهم أيضاً، لولا ردع الآخرين لهم وصرفهم عن رؤيتهم واعتقادهم الفاسد ذاك. وبالمثل، لولا قيام الفئة الناهية بإنكار عمل الفئة المحتالة بالقرية، لربما نزل عليهم العذاب أيضاً بصورة وأخرى، لولا أن رحمهم الله، ونزل العذاب على المحتالين فقط، وهو ما يفيد ضرورة القيام بواجب التبليغ والتنبيه إلى المخاطر المحدقة بأي مجتمع حين تبدأ بالظهور.
لابد أن تظهر فئة آمرة بالمعروف وناهية عن المنكر في كل مجتمع، تستخدم كل السبل والأدوات المتاحة في عملها، وعدم ترك المجال لأي فئة ضالة مضلة أو تعتقد بصوابية عملها وأجنداتها، تحت أي شكل من الأشكال. أي مجتمع إنما هو أشبه بالسفينة المذكورة بالحديث الشريف. وأي تكاسل وتهوين من أمر الفئات المتحايلة على الشرع والقوانين، إنما هو تسريع الخطوات نحو نهاية غير مريحة للجميع، بمن فيهم أهل الصلاح والتقوى.
هذا ما ينبهنا القرآن إليه في قوله تعالى (واتقوا فتنة لا تصيبن الذين ظلموا منكم خاصة). فقد أمر الله المؤمنين ألا يقروا المنكر بين أظهرهم فيعمهم العذاب، هكذا فسر ابن عباس الآية وفهمها، وهكذا نسأل الله أن يفهّمها لكل مسلم، أينما كان وسيكون.