يؤشر البلاء دوما على اتجاهات حركة الناس في سبيل دفعه والإفلات من آثاره. لكن حين تشتد وطأته، وتقف الأسباب حائرة وعاجزة عن التصدي له، فإن البديهي في حالة المسلم أن يرفع رأسه إلى السماء، ويعلن لخالقه بأنه فهم الدرس جيدا، وأنه سيعيد النظر في منطلقاته وتصرفاته، ويكف عن جنون السعي الدنيوي وما يُوَرّثه من غفلة.
ليست مهمة البلاء إفناء البشرية بقدر ما يمثل منعطفا لتقييم المسار، ومراجعة الخطوات حتى يتبين الإنسان مدى مطابقتها للمنهج، ودورانها مع المقاصد التي نص عليها الشارع الحكيم. وكما أن المواعظ سياط تؤلم فورَ وقوعها، كما يقول ابن الجوزي، فإن البلاء سوط أشد وقعا؛ يهز النفوس المشدودة إلى دنيا الأسباب كي تفر إلى الله، وتسترد انفعالها المحمود مع أوامره ونواهيه.
ولأن النفس تنفعل بالمواقف حتى في قالب قصصي يؤكد المسافة بين الحدث وقارئه، فقد شكلت القصص مدخلا تربويا اعتمده النص القرآني والحديث النبوي، لتربية الفرد وتوجيهه، ووضعه أمام نماذج متنوعة، تنكشف من خلالها الحقيقة البشرية في مجمل لحظات ضعفها وارتفاعها. ويشكل حديث الغار مثالا للقصة التي تبين للمسلم كيفية التصرف حال وقوع البلاء، وتعرض أسلوبا عمليا ومُجرَّبا لكشف الغُمّة.
ملخص الحديث الذي أخرجه البخاري في صحيحه، عن ابن عمر رضي الله عنهما، أن ثلاثة رجال أصابهم مطر شديد فأووا إلى غار؛ إلا أن صخرة وقعت على باب الغار فانسد عليهم. ويبدو أنهم بذلوا وسعهم لإيجاد مخرج لكن دون جدوى. وفي اللحظة التي يغلب عليها الاستسلام، وتُشل الإرادة الإنسانية أمام عجز الأسباب، يتقدم أحد الثلاثة برأي مفاده: أن يدعو كل رجل منهم بما يعلم أنه صدقَ اللهَ فيه.
وفي رواية موسى بن عقبة “انظروا أعمالا عملتموها صالحة لله”.
وفي حديث علي عند البزار” تفكروا في أحسن أعمالكم فادعوا الله بها لعل الله يفرج عنكم”.
من البديهي أن يتجه المرء ،حين يشعر بالعجز وقلة الحيلة، إلى معبوده دون تردد؛ فيقدم القرابين، ويتلو الصلوات، ويتضرع في خشوع ولهفة. هكذا جرت العادة في تاريخ الحضارات المختلفة. غير أن الإسلام حرَّر الدعاء والتضرع من كل واسطة بين العبد وربه، وأخبر القرآن الكريم بأن الله تعالى قريب، يجيب الداعي والمضطر، ويكفي أن يسأله صاحب الحاجة حاجته، أو يرفع إليه الشاكي ظلامته، حتى يجده سميعا مجيبا. ومن جهة أخرى عرض النبي ﷺ لمَواطن الدعاء وآدابه، والهيئة التي ينبغي أن يستحضرها المسلمون عندما يرفعون أكف الضراعة. وكان العرض إما تقريريا مباشرا، أو من خلال مواقف وقصص كما هو شأن حديث الغار. لكن ما يتمتع به هذا الحديث دون غيره أنه يقدم أسلوبا عمليا، وقربانا “رمزيا” توافرت فيه معايير الإخلاص والصلاح، يعزز به المرء طلب الاستجابة وتفريج الضيق.
مدار قربان الرجل الأول هو الأمانة وحفظ مال الغير، بينما عرض الثاني صورة متقدمة لبر الوالدين، وإيثار رضاهما على حاجة الأبناء، أما الثالث فقدم مثالا للعفة وثني النفس عن بلوغ شهوتها من حرام. وبعد كل موقف يتوجه السائل إلى ربه قائلا: ” اللهم إن كنتَ تعلم أني فعلت ذلك من خشيتك ففرّج عنا”، ويُعقب النبي ﷺ بأن الصخرة كانت تنفرج كل مرة حتى انساخت عنهم فخرجوا يمشون.
حين عرض الإمامالنووي[ت.676هـ] هذا الحديث في كتابه (الأذكار) تحت باب” دعاء الإنسان وتوسله بعمله الصالح” أبدى ملاحظة على أسلوب التوسل بالعمل لأنه ينافي أهم مظاهر الدعاء وهو الافتقار، حيث يقول:” وقد يقال: في هذا شيء لأن فيه نوعا من الافتقار المطلق إلى الله تعالى، ولكن ذكر النبي ﷺ هذا الحديث ثناء عليهم، فهو دليل على تصويبه فعلهم.” وظني أن الإمام النووي رحمه الله رأى فيه تزكية للنفس في موضع يقتضي إظهار الذلة والضعف، غير أن الأمر ليس كذلك، فثبات القلب أمام زينة الحياة الدنيا أو داعي الشهوة ليس بالأمر الهين، إذ يقتضي الجمع بين خشية الله، والصبر الذي يُخمد حرارة النفس وشهوتها.
هذا من جهة، ومن جهة أخرى فإن الثلاثة دعوا الله بعمل يغلب على ظنهم أنهم قد أخلصوا فيه، دون الجزم بهذا الإخلاص. لذا لم يقل أي منهم ” أدعوك بعملي ” وإنما قال: ” إن كنت تعلم أني فعلت ذلك..” أي أنه اعتقد التقصير في نفسه وأساء الظن بها بداية، ثم أحال أمره إلى الله تعالى.
كل ما في الأمر أن الضرورة، يقول تقي الدين السبكي الكبير، قد تلجئ إلى تعجيل جزاء بعض الأعمال في الدنيا. لكن السؤال الذي يُطرح اليوم متعلق بسبب تخلفنا عن هذا الأسلوب، واكتفائنا بالصيغ المعتادة في الفضائيات وشبكة الانترنيت. صيغٌ لفرطِ ما اعتدنا على سماعها وترديدها، أضحت خالية من “الذلة” و”الافتقار”، و”التضرع” الذي يستشعر فيه المرء حلاوة الانكسار بين يدي خالقه.
ألسنا بحاجة اليوم لأن يفتح كل منا سجل إنجازاته، باحثا عن موقف أو عمل يصلح لأن يدعو الله تعالى به كي يُفرج عنا ما نتخبط فيه ؟
ألا يتوجب علينا أن نستثمر القوة الدافعة للعمل الصالح، في تحريك آلاف الصخور التي تجثم فوق صدر الأمة ؟
وفي الأخير، ألا ينبغي لنا في أزمنة الضيق والشدة، ومحطات البلاء العديدة، أن نقطع اللهاث خلف الأسباب المحلية والمستوردة، لنجد ضالّتنا في العبارة السديدة:
إنه والله يا هؤلاء لن ينجيكم إلا الصدق” ؟!