حدد الله تعالى الغاية من عبادة الصيام بأنها تحقيق التقوى، وهذه الغاية العظيمة – التي جاء الأنبياء جميعا للوصول إليها- لا تتم إلا بعد ترك المنكرات الخلقية بصورها المتعددة؛ من غش وخداع وتزوير وشهادة زور ونفاق وسب ولعن وقذف ورغبات تخرج من قلب سيء؛ كحب إلإفساد بين الناس والحقد والحسد، ولا يليق بمسلم سعى إلى تطهير نفسه وتحقيق التقوى من خلال عبادة الصيام أن يملأ الحقد قلبه على الآخرين اعتراضا على قسمة الحكيم الخبير جل جلاله للأرزاق أو عجزا عن الوصول للمعالي، ورحمة ربك خير مما يجمعون ورحمة الله تعالى أبوابها مفتوحة لكل صاحب قلب سليم يمد يديه إلى الله طالبا خيري الدنيا والآخرة.
وتتعاون فروع العلم لكي تصل بنا إلى الإنسان الصالح الذي يعبد ربه حق العباده وتترقى أخلاقه كأحد ثمار عبادته وينطلق في الكون بانيا وهاديا إلى التي هي أقوم، فإذا قام الفقهاء بتحديد ما يبطل الصيام ،فإن علماء التزكية يحددون لنا ما ينبغي أن نسعى إليه لكي تترقى أرواحنا، لأن صيانة الأخلاق هي الغاية التي حددها النبي ﷺ من بعثته، فقال: ” إِنَّمَا بُعِثْتُ لِأُتَمِّمَ صَالِحَ الْأَخْلَاقِ [1].
وإعادة الإنسان إلى الفطرة التي فطره الله عليها، وتهذيب أخلاقه، وإكسابه ما فقده من الأخلاق الحميدة، وتطهيره مما وقع فيه من منكرات أخلاقية، هي الغاية من أداء الصيام وسائر العبادات.
ولعلنا نجد في كتب الفقهاء من يتحدث عن مبطلات الصيام دون أن يذكر المنكرات الخلقية – التي ذكرنا بعضها في بداية المقال- ويراها لا تبطل الصيام وإنما تنقص من ثوابه أو تحرم من الثواب بالكلية، وهذا لا يعني أبدا أن نغفل نقاط مهمة:
1 – على رأسها، من ذا الذي يعمل دون أن ينتظر أجرا إما من الله تعالى أو من الناs؟، وإذا طبقنا هذه القاعدة على عبادة الصيام؛ فنقول: من ذا الذي يرضى أن يحرم نفسه من شهوتي البطن والفرج ثم لا يحصل في مقابل ذلك على شيء؟، قال ﷺ :رُبَّ صائِم لَيْسَ لَهُ مِنْ صِيامِهِ إِلا الجُوعُ وَرُبَّ قائِمٍ لَيْسَ لَهُ مِنْ قِيامِهِ إلا السهر.[2]
قَالَ الطِّيبِيُّ: فَإِنَّ الصَّائِمَ إِذَا لَمْ يَكُنْ مُحْتَسِبًا أَوْ لَمْ يَكُنْ مُجْتَنِبًا عَنِ الْفَوَاحِشِ مِنَ الزُّورِ وَالْبُهْتَانِ وَالْغِيبَةِ وَنَحْوِهَا مِنَ الْمَنَاهِي فَلَا حَاصِلَ لَهُ إِلَّا الْجُوعُ وَالْعَطَشُ، وَإِنْ سَقَطَ الْقَضَاءُ، وَكَذَلِكَ الصَّلَاةُ فِي الدَّارِ الْمَغْصُوبَةِ فَإِنَّهَا تُسْقِطُ الْقَضَاءَ وَلَا يَتَرَتَّبُ عَلَيْهَا الثَّوَابُ”[3].
2 – فضل الله تعالى شهر الصيام على غيره وكوننا لا نراعي هذه الحرمة إما جهلا أو غفلة أو تهاونا فذلك لا ينقص من أجر الصيام فحسب بل ينقص من رصيد الإيمان.
3 – وانتهاك حرمة الشهر بإيقاع الجرائم الخلقية التي ترتكب باللسان أو القلب فيه جانب آخر، وهو الغفلة عن تعمير الزمان بالعمل الصالح وعدم الإقبال على الفرص الربانية التي يعطيها الله تعالى لخلقه.
وكما حدد الله تعالى في كتابه الغاية من الصيام بقوله {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ } [البقرة: 183]سار النبي ﷺ في هذا الإطار حين قال :” الصِّيَامُ جُنَّةٌ “[4] فسر الإمام النووي جنة بقوله:” سِتْرٌ وَمَانِعٌ مِنْ الرَّفَثِ وَالْآثَامِ وَمَانِعٌ أَيْضًا مِنْ النَّارِ[5] وقال الإمام ابن رجب :” فَإِذَا كَانَ لَهُ جُنَّةٌ مِنَ الْمَعَاصِي، كَانَ لَهُ فِي الْآخِرَةِ جُنَّةٌ مِنَ النَّارِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ جُنَّةٌ فِي الدُّنْيَا مِنَ الْمَعَاصِي، لَمْ يَكُنْ لَهُ جُنَّةٌ فِي الْآخِرَةِ مِنَ النَّارِ”[6].
فالصوم يحمي الإنسان من الوقوع في الأخطاء ويحميه من عذاب الله تعالى في الآخرة.
عرف العلماء عبادة الصيام بـأنها:” الامتناع عن شهوتي البطن والفرج يوما كاملا بنية التقرب إلى الله تعالى”،وما التكاليف الإلهية إلا أمر يقتضي الفعل ونهي يقتضي الامتناع والإمساك، وكما نطبق ذلك في عبادة الصيام على الطعام والشراب نطبقه كذلك على المنكرات الخلقية التي تخرج من القلب، والقلب هو محل نظر الله تعالى، قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِنَّ اللهَ لَا يَنْظُرُ إِلَى صُوَرِكُمْ وَأَمْوَالِكُمْ، وَلَكِنْ يَنْظُرُ إِلَى قُلُوبِكُمْ وَأَعْمَالِكُمْ»[7]
وتأكيدا على أهمية صيانة القلب من الوقوع في الجرائم الخلقية – التي تقع ابتداء أو رد فعل – كان قوله ﷺ “إِذَا كَانَ يَوْمُ صَوْمِ أَحَدِكُمْ فَلاَ يَرْفُثْ[8] وَلاَ يَصْخَبْ، فَإِنْ سَابَّهُ أَحَدٌ أَوْ قَاتَلَهُ، فَلْيَقُلْ إِنِّي امْرُؤٌ صَائِمٌ “[9] يقول ذلك:”كلَاما لسانيا ليسمعه الشاتم والمقاتل فينزجر غَالِبا أَو كلَاما نفسانيا، أَي: يحدِّث بِهِ نَفسه ليمنعها من مشاتمته، وَعند الشَّافِعِي: يجب الْحمل على كلا الْمَعْنيين”[10]
فالرسالة التي تخرج من الصائم ينبغي أن توجه نفسه ليكف عن اتساع دائرة السوء، كما توجه لهذا الذي تجاوز حدود الله واعتدى على أخيه المسلم بمنكر من القول أو الفعل، فليس المطلوب كف الأذى بل تحمل الاذى وتحمل الأذى مع القدرة على رده يدل على قوة الإيمان، قال رَسُول اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَيْسَ الشَّدِيدُ بِالصُّرَعَةِ إِنَّمَا الشَّدِيدُ الَّذِي يَمْلِكُ نَفْسَهُ عِنْدَ الْغَضَبِ»[11]وفي تحمل الأذى تقليص لدائرة العنف التي تتسع مع كل رد، ويتسبب عنها عداوات وأحقاد، وربما دماء يمكن أن تصان بكف الأذى من جانب وتحمله من جانب آخر، ومعنى “كَوْنِ الصَّوْمِ جُنَّةً: أَنْ يَقِيَ صَاحِبَهُ مِنْ أَنْ يُؤْذَى كَمَا يَقِيهِ أَنْ يُؤْذِيَ”[12]
إن الإسلام أبعد ما يكون عن الحفاظ على المظاهر والأشكال،رسخت ذلك الآيات القرآنية وتوجيهات النبي ﷺ في المواقف المختلفة،ولما رأى النبي ﷺ من يصلي مسرعا قال له:«ارْجِعْ فَصَلِّ، فَإِنَّكَ لَمْ تُصَلِّ» ثَلاَثًا[13] مع أنه قام وقعد وركع وسجد أدى شكل الصلاة لكن فاته روحها وهو الخشوع.
إن الاسلام يقف بكل صرامة أمام التدين الشكلي الذي لا ينفذ تأثيره إلى القلوب،{لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّائِلِينَ وَفِي الرِّقَابِ وَأَقَامَ الصَّلَاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُوا وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ أُولَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ} [البقرة: 177].
وعندما ننظر إلى أقوال الفقهاء في مبطلات الصيام، فلا نجد من بينها الكذب وهو نموذج لما يمكن أن يقع باللسان من المنكرات الأخلاقية، وايقاع الأذى بالآخرين؛ سواء كان هذا الأذى ماديا أو معنويا، نتعجب، كيف لا تكون هذه المنكرات الأخلاقية من مبطلات الصيام؟!! أقول: أرجو لمن يتعامل مع الثقافة الإسلامية بفروعها المتعددة، أن يراعي الفرق بين العلماء الذين ينظرون إلى مقاصد الشريعة من أنها جاءت لإصلاح الإنسان ظاهرا وباطنا، وتهيئته ليكون نافعا لنفسه ولمن حوله وبذلك يؤدي مهمته الكبرى وهي عبادة الله وعمارة الكون وبين من يقدمون الحكم الشرعي على الواقعة دون أن ينظروا إلى شبكة العلاقات بين نصوص الشريعة والغايات الكبرى من أداء العبادات.
ولم تخل اجتهادات الفقهاء من القول بأن هذه المنكرات الأخلاقية إذا وقعت تبطل الصوم وتوجب القضاء ،وهذا القول وإن لم يكن أصحابه هم الكثرة وإن لم يلق قبولا يمثل الإجماع، إلا أنه رأي لأناس لهم وزنهم بين أهل الفقه و هو منذر بخطورة هذه الجرائم وضررها على الصائم ومن أصحاب هذا الاتجاه الإمام الأوزاعي الذي ” ذَهَبَ إلَى أَنَّهَا تُفْطِرُ الصَّائِمَ وَيَجِبُ عَلَيْهِ الْقَضَاءُ وَسَائِرُ الْعُلَمَاءِ عَلَى خِلَافِهِ لَكِنْ ذَكَرَهُ بَعْضُهُمْ عَنْ عَائِشَةَ وَسُفْيَانَ الثَّوْرِيِّ حَكَاهُ الْمُنْذِرِيُّ”[14].
ومن أراد أن يخفف من قول الإمام الأوزارعي ومن سبقه بهذا الرأي قال: أما “قَولَ الْأَوْزَاعِيّ: يفْطر السب والغيبة، فَقيل: مَعْنَاهُ أَنه يصير فِي حكم الْمُفطر فِي سُقُوط الْأجر لَا أَنه يفْطر حَقِيقَة”[15]، وإذا سقط الأجر فلم العمل .
[1] مسند أحمد وقال محققوه صحيح.
[2] سنن ابن ماجه
[3] مرقاة المفاتيح شرح مشكاة المصابيح بتصرف يسير
[4] صحيح البخاري
[5] طرح التثريب في شرح التقريب
[6] جامع العلوم والحكم
[7] صحيح مسلم
[8] الرفث الكلام الفاحش
[9] صحيح البخاري
[10] عمدة القاري شرح صحيح البخاري
[11] الصحيحين
[12] شرح الزرقاني على الموطأ
[13] صحيح البخاري
[14] طرح التثريب في شرح التقريب بتصرف يسير
[15] عمدة القاري شرح صحيح البخاري بتصرف يسير