تأتي سلسلة حلقات مفهوم “الأمة” في ذكرى مناسبتين أليمتين على الأمة، الأولى: مرور مائة عام على اتفاقية سايكس بيكو (1916م) والتي كانت إيذانًا فعليًا وواقعيًا بتمزيق مفهوم الأمة في الواقع وتمزيق أوصالها وابتداع ما عرف بالحدود الجغرافية بينها، والذكرى الثانية: هي نكبة الأمة في فلسطين وقيام الكيان الصهيوني بمؤامرات غربية وخيانات عربية وإسلامية. وقد تعرض مفهوم “الأمة الإسلامية” إلى تلبيسات عديدة عبر القرن الماضي من محاولات التقزيم إلى محاولات التفتيت إلى الاتهام والإدانة، وقد انتبه الفكر الإسلامي الحديث إلى هذه الإشكالية وواجهها على المستويين الفكري والحركي وهو ما سنتناوله بإذن الله في عدة حلقات متتابعة.
أولاً: لماذا الاهتمام بإعادة بناء المفاهيم في واقعنا المعاصر
تعد مسألة بناء المفاهيم من أهم القضايا التي تعرض لها الفكر الإسلامي منذ بدء الحملة الاستعمارية الغازية على العالم الإسلامي ونرصد فيما يلي أهم الأسباب التي دعت إلى الاهتمام بعملية البناء المفاهيمي عند العقل الإصلاحي في الأمة أو العقل الأكاديمي:
1- الاستعمار الغربي الذي طوَّق العالم الإسلامي من الشرق إلى الغرب “وما صاحبه من غزو ثقافي حضاري تمثل في إعلاء شأن القيم والمفاهيم الغربية في مقابل إضعاف القيم والمفاهيم الإسلامية. ولا شك أن الأمة التي تصاب مفاهيمها تفقد هويتها وأصالتها، فالمنظومة المفاهيمية القادمة مع المستعمر تختلف في مصدرها ورؤيتها ونموذجها المعرفي عن المنظومة الإسلامية وأبرز هذا الاختلاف يتمثل في الكليات الثلاث “الله” “العالم” “الإنسان”. وتحتوى المفاهيم على التصورات والقيم الخاصة بهذه الكليات”.([1])
2- التراجع الفكري للأمة: إن أول ما تصاب به الأمم في أطوار تراجعها الفكري والمعرفي والثقافي مفاهيمها، وأول ما يتأثر بعمليات الصراع الفكري والثقافي كذلك، وأهم الأمراض التي تعتري المفاهيم الميوعة ثم الغموض، فالميوعة تنشأ عن تساهل الأمة في مفاهيمها، فقد تستعير اسمًا أو مصطلحًا من نسق معرفي آخر بطريق القياس القائم على توهم التماثل والتشابه؛ لتتداوله مع مفاهيمها كمفهوم مرادف مساوٍ أو بديل مترجم.
وقد تتناسى الأمة خصوصيتها المعرفية وتخلط بين ما هو مشترك إنساني كالعقليات والطبيعيات والتجريبيات وما هو من الخصوصيات الملية، فتتساهل باستعارة المفاهيم من غيرها حتى تفقد خصوصيتها الملية والشرعية والمنهاجية المتعلقة بها. ومن الأمور اللافتة أن أدوات هذه المعارك الجديدة تتمثل في استخدام مصطلحات الأمة نفسها والتسلل والعبور من خلالها، ومحاولة إعطائها مدلولات جديدة، وتفريغها من مضمونها وتاريخها الثقافي ورصيدها في شعور الناس، وربطها بحوادث وأحداث جديدة، على طريقة المنعكس الشرطي لتحويلها إلى مدلولات جديدة منفردة، تعدو على المدى البعيد على قيمها الدينية والثقافية، وتحاصرها بضروب من الكراهية، وبذلك تخرج الأمة من ذاتها.([2]) لذلك كان اهتمام المفكرين والإصلاحيين منصبًا على إعادة بناء هذه المفاهيم في سبيل إعادة تشكيل الهوية الإسلامية التي هي أساس ومدار البناء الحضاري.
3- ما أصيبت به الأمة الإسلامية في مفاهيمها نتيجة الأزمة الفكرية التي تعيشها منذ التراجع الحضاري الكبير الذي شهدته منذ قرون طويلة، ومن أشكال هذه العلل التي أصابت المفاهيم في البنية المعرفية الإسلامية ما يلي: ([3])
أ – تفريغ محتوى المفاهيم الإسلامية من مضامينها الأصلية، وملئها بالمضمون الغربي المادي بما يحمله من تصورات وأنساق فكرية ومعرفية مختلفة عن التصورات الإسلامية.
ب – إعطاء مدلولات جديدة للمفاهيم الإسلامية غير مدلولاتها الأصيلة في النسق الفكري الإسلامي، فيما يمكن تسميته بعملية إحلال تتشابه تماماً مع عملية الاحتلال الكبرى للعالم الإسلامي.
ج – استحضار مفاهيم من النموذج الغربي ونقلها بالكامل، مما أثر على عملية الإبداع الإسلامي، والإبقاء على حالة الجمود على الموجود.
ويشير نصر عارف إلى مجموعة من الظواهر الخطيرة التي نتجت عن عملية الترجمة ونقل المفاهيم مثل:
1 – استبدال المفهوم الإسلامي بمفهوم آخر غريب في المبنى والمعنى.
2 – تلبيس المفاهيم الإسلامية عن معانيها الإسلامية وإعطائها مضامين ومعاني نابعة من الخبرة الأوروبية على الرغم من أن هذه المعاني لم تكن لها أية جذور في التراث الإسلامي.
3 – طمس المفاهيم الإسلامية وإخراجها عن معانيها الأصلية من ناحية وإخراجها من ساحة البحث العلمي على أساس أنها مفاهيم لا علمية، رغم أنها مفاهيم محورية في البناء المعرفي الإسلامي.([4])
ويؤكد شريعتي على أهمية إعادة بناء المفاهيم في المشروع الحضاري الإسلامي نظرًا لما تعرض له من غزو وهجوم غربي في إطار الإستراتيجية الثقافية التغريبية لتفتيت البناء الفكري للعالم الإسلامي ويعتبرها ” أحد الوجوه المختلفة لهجوم ثقافة الغرب على ثقافتنا: مسخ وإزهاق روح الكثير من اصطلاحاتنا. حيث إن اصطلاحاً أو كلمة ما تتضمن طراز عقيدتنا وتنطوي على روح ورؤية ثقافتنا وقيمنا العقدية والمعنوية . ومن هنا إذا أمكن مسخ أي من هذه المصطلحات وتدميرها ،فسوف يموت بشكل طبيعي ما تنطوي عليه هذه المصطلحات من فكر وروح، ويدفن محمول الكلمة المعنوي”.([5])
ثانيًا: لماذا مفهوم “الأمة” ؟
من أهم التداعيات المعرفية التي ظهرت في الساحة الإسلامية وفي عالم أفكارها عقب سقوط الخلافة وتمكين المشروع التغريبي والاستعمار الفكري والمادي، ما طال مفهوم “الأمة” وجامعيته، حيث حاول التيار التغريبي تشويه مفهوم “الأمة” والعبث به عبر عمليتي: التفكيك وإعادة التركيب لعناصر ومقومات هذا المفهوم، ثم عمليات إزاحة وإحلال مفاهيم غربية بديلة، وكان مفهوم “القومية” و”الوطنية” والدعوات العرقية التي تحملها هذه المفاهيم هي البديل التغريبي والاستعماري.
يخلص السيد عمر في دراسته، حول مفهوم “الأمة في قرن: نقد تراكمي مقارن” إلى أن مفهوم “الأمة” الذي حاول القوميون إعادة بنائه – بعد سقوط الخلافة وتفتت العالم الإسلامي بالفعل إلى دويلات وإمارات – استبعد الدين والتاريخ كناظمين لهذا المفهوم وأعلى من عنصر اللغة، ورأي آخرون تعليه القومية على الدين – في هذا البناء التغريبي الجديد لمفهوم “الأمة” – وأن أخره القومية العربية أعمق تاريخيًا من الإسلام، وتحول بذلك مفهوم “الأمة” إلى حدود تقف عند كل قطر عربي على حدة.([6])
وخلصت هذه الدراسة – أيضًا – إلى أن الشقة جدُ واسعة بين مضامين مفهوم الأمة في لغة الضاد، وفي السياق القرآني، وبينما آل إليه ذلك المفهوم في عقول فريق من المفكرين المسلمين استحضارًا وتأثرًا بمضامين مفهوم القومية الغربية العلمانية كما ترسخت في أوروبا خلال القرون الثلاثة الماضية، وفي العالم الإسلامي منذ سقوط الخلافة العثمانية. ورغم ما ترتب في أرض الواقع على ذلك من تهميش وتفتت في العالم الإسلامي، ومن تراجع أوروبي عن القومية (ولكن مع التمسك بالعلمانية المادية) فإن عملة القومية العلمانية لا تزال رائجة في العالم الإسلامي دون أية بوادر لإعادة النظر فيها في المستقبل.
ويضيف – أيضًا – أن اعتبار القومية – مرادفًا لمفهوم الأمة فكرة مستوردة منقطعة الصلة تمامًا بالدلالات اللغوية لمفهوم الأمة التي أنزل إليه بها القرآن، وبدلالات ذلك المفهوم ومضامينه في القرآن الكريم.([7])
إن مفهوم القومية وما صاحبه من مضامين معرفية في المستويات الفكرية والثقافية والمؤسسات التنفيذية، حيث حلت القوانين الوضعية في الدولة القطرية، وانشق نظام تعليمها إلى تقليدي (ديني) ومدني (حديث) وتغيرت البنى الفكرية للمؤسسات الثقافية والسياسية التي قامت على أساس من الفكرة القومية التي تفصل بين الدين وشؤون الحياة.
ويرى سيف الدين عبد الفتاح أن مفهوم “الدولة القومية” الذي صاحب الاستعمار، وكان من أهم نتائج الحقبة الاستعمارية على الأمة المسلمة ” أحدث تأثيرات مهمة على مفهوم “الأمة الإسلامية”، وعلى المفهوم التقليدي الذي أسمى “بدار الإسلام”، إنه أفرز تعددًا من نوع متميز أشار إلى النشأة الخاصة للدول القومية في عالم المسلمين والعالم الثالث، والذي حكمته موازين حقبة ما بعد الاستعمار الاستيطاني والدخول في مرحلة جديدة من علاقات الدول القومية التابعة. هذا التعدد الذي صاحب الدولة القومية في عالم المسلمين والعالم الثالث، صاحبه تعدد في الرؤى ونماذج التنمية، كما غلف بسياقات أيديولوجية خاصة العالمية منها (الرأسمالية والاشتراكية) ويمكن لها حالة سائدة حكمت السياسات والعلاقات وقد أدى ذلك في العالم الإسلامي إلى: ([8])
1 – الاتجاه نحو الانفصال والتفكك.
2 – ضعف التوجهات التكاملية والوحدوية والتعاونية: رؤية وسياسات ومؤسسات.
3 – الصراعات البينية، وصراعات الحدود، وصراعات الأعراق.
4 – تدويل المشاكل والقضايا التي تخص عالم المسلمين.
5 – ضعف التنسيق في السياسات والعلاقات خاصة القضايا البينية والمشتركة والمتبادلة.
6 – ضعف الصياغات التنظيمية والمؤسسية التى تتناسب والتحديات التي تواجه عالم المسلمين.
وفي ضوء تغلغل هذا المفهوم في بنيان الدولة القطرية المعاصرة في عالم المسلمين، صادف العالم الإسلامي أزمات ومشكلات غاية في الخطورة الحروب والصراعات البينية مثل: حرب الخليج الأولى (الحرب العراقية – الإيرانية) وحرب الخليج الثانية (غزو العراق للكويت) بالإضافة إلى الصراعات على ترسيمات الحدود ورغبات الانفصال المتعددة للقوميات في العالم الإسلامي.
ويعلن طه جابر العلواني – أنه لا نجاة للعرب ولا للمسلمين، ولا خلاص لهم إلا بإعادة بناء “الأمة” مفهومًا وواقعًا بعد التحلي “بالإرادة” والتزود “بالفاعلية” والسعي لتحقيق “الشرعية” والتحقيق بها. ([9])
ثالثًا: شبكة المفاهيم الوافدة المقابلة لمفهوم الأمة
استطاع الاستعمار ومشروعه الفكري تبديد مفهوم الأمة عبر المفاهيم الوافدة التي تلقتها فئة من أبناء الأمة وروجوا لها على أساس أنها المخلص لهم وأنها ضامنة لطريق التقدم والنهضة، والخروج من حالة التراجع والانحطاط الحضاري. وكانت أبرز هذه المفاهيم وأخطرها على السواء مفهوم: العلمانية، والقومية، وما تبعهما من دعوات لإخراج الدين من معادلة الأمة والدولة الجديدة، ثم إخراج مفهوم الأمة ذاته من نظرية الاجتماع الإسلامي الجديدة في ظل الاستعمار وخططه لتقسيم العالم الإسلامي حسب نفوذ وفقًا لأبعاد جغرافية تخدم مصالحه حالة وجوده، وحالة ارتحاله.
والشكل التالي يوضح شبكة المفاهيم الوافدة المقابلة لمفهوم الأمة وما ترتب عليها داخل العالم الإسلامي، والتي شكلت دورًا تاريخيًا ما زال قائمًا في واقع الأمة إلى اليوم.
([1]) العلواني, طه جابر. “تقديم ” في : إبراهيم البيومي غانم وآخرون : بناء المفاهيم دراسة معرفية ونماذج تطبيقية، القاهرة ، المعهد العالمي للفكر الإسلامي، 2000، ص8 .
([2]) حسنة, عمر عبيد. ( تقديم) ، في : سعيد شبار, المصطلح خيار لغوي – وسمة حضارية, كتاب الأمة، 78، قطر، 2000، ص30.
([3]) ومن الدراسات الرائدة في هذا الصدد دراسة السيد عمر : بناء المفاهيم ودورها في نهضة الأمة والتى دارت حول تشخيص حالة المفاهيم في الوضعية المعاصرة لعالمنا الإسلامي، وحالة تيه المفاهيم الحادثة في أمتنا، وآليات العبث بالمفاهيم ودواعيه، وطرق تبديد المفاهيم الإسلامية، مع طرح خبرة بحثية لبناء المفاهيم تطبيقاً على مفهوم التزكية. (عمر، السيد. بناء المفاهيم ودورها في نهضة الأمة، الرياض، دار الهدى، 2014).
([4]) عارف, نصر محمد. نظريات التنمية السياسية المعاصرة، القاهرة, المعهد العالمي للفكر الإسلامي،1998, ص299.
([5]) شتا, إبراهيم الدسوقي. الثورة الإيرانية الجذور ..الأيديولوجية , القاهرة , الزهراء للإعلام العربي, ط2 1988 , ص186 .
([6]) السيد عمر: حول مفهوم الأمة في قرن: نقد تراكمي مقارن، في : الأمة في قرن، الكتاب الأول، القاهرة، مكتبة الشروق الدولية 2001، ص64.
([7])السيد عمر: حول مفهوم الأمة في قرن: نقد تراكمي مقارن, ص112.
([8]) سيف الدين عبد الفتاح: الأمة الإسلامية وعواقب الدولة القومية، أمتي في العالم، حولية قضايا العالم الإسلامي، العدد الأول، 2000، ص43 .
([9]) طه جابر العلواني (مقدمة) في : منى أبو الفضل: الأمة القطب نحو تأصيل منهاجي لمفهوم الأمة في الإسلام، القاهرة، مكتبة الشروق الدولية، 2005، ص14 .