يستعرض الباحث في هذه المساهمة أبرز الأفكار والمقاربات التي ضمّها كتاب “مفهوم الترتيل في القرآن الكريم: النظرية والمنهج” لمؤلفه أحمد عبادي، كما يُبرز المقصود بمصطلح الترتيل عند المؤلف، وكيف استطاع أن يتبين معالم وضوابط منهج الترتيل. وتبقى الفكرة المحورية التي عليها مدار هذا الكتاب هي أن الترتيل لا محيد عنه مسلكا ومنهجا لمن أراد الاستبصار بهدي القرآن واتباعه مسرى ومدلجا.
مفهوم الترتيل في القرآن الكريم: النظرية والمنهج” (2007) للدكتور أحمد عبادي محاولة منهجية دقيقة للكشف عن مفهوم قرآني أُنُفٍ لم ينل حظه الكافي من الدراسة والتنقيب، طمرته البداهة فحجبت مدلولاته خطيرة الأبعاد، واسعة المهاد.
قارئ الكتاب يجده قد شكل تشكيلا أقرب إلى نهج التأسيس منه إلى أي نهج آخر، وهذا أسبغ عليه خصوبة معرفية ومنهجية كبيرة، كانت بارزة منذ الصفحات الأولى.
وقبل الدخول في المقاربة النظرية والمنهجية لهذا المصطلح قدم المؤلف تمهيدا بين فيه على وجه الإجمال تطور الحركة التفسيرية بمختلف ألوانها إلى أن أسفرت عن التفسير الموضوعي، ثم حديث عن هذا الضرب من التفسير، وتعريفات الباحثين له وتقسيماتهم عليه، وأهم أقوالهم ومذاهبهم فيه، ثم حديث عن الوحدة الموضوعية في السورة القرآنية وجهود علماء الأمة المستبصرين في الكشف عنها.
بعد هذا المدخل المنهجي العام حاول المؤلف في الباب الأول من بابي الكتاب تجلية معالم “نظرية الترتيل”، وبيان مسالكها عن طريق البرهنة على بنائية القرآن في مقابل بنائية الكون، وإبراز العلاقة العضوية بين الوحدة البنائية والوحدة المعرفية في كل من المجالين الكوني والقرآني، وفي ذلك يقول: “ففي مقابل بنائية الكون التي أطلق اكتشافها إمكان البحث المنهاجي الذي فجر كل هذه العطاءات المعرفية والمادية التي نشهدها اليوم، فقد منَّ الله سبحانه بأن أقر بين ظهرانينا القرآن ترتيلا، له وحدته العضوية التي تشكل أحد أهم وجوه الإعجاز فيه، وتفتح المجال أمام القراءة المنهجية للآيات البصائر صعدا نحو مآلات معرفية لا حصر لها”[1].
وكما أن الوحدة البنائية في الكون هي التي مكنت العقل البشري -بعد اكتشافها- من تأسيس كل العلوم التي يمكن أن نصطلح على تسميتها: علوم التسخير، ثم تطويرها إلى حد بلورة المنهجية التوحيدية بين التخصصات، والتي أعطت الفكر العلمي مددا قويا، وفتحت أمامه إمكانات في غاية الكثرة والتنوع والنفع، فإن الوعي بالوحدة البنائية للقرآن الكريم “يحقق للبشرية وحدة معرفية تلملم شتات الإنسان المعرفي، وتوحد بين زوايا إدراكه، بما يشبه إكسابه جهاز تنسيق معرفي يمكنه من الخروج من التفرع الإدراكي ومرحلة الشركاء المتشاكسين إلى صيرورته سلما لرب العالمين فيطفق في السير سويا على صراط مستقيم[2].
وهنا يشير المؤلف إلى فكرة بالغة الأهمية؛ وهي أن علوم التسخير -وللنفع السريع الظاهر الذي ينتج عنها- قد شهدت وتشهد تطورات في غاية الأهمية والسرعة، في حين أن علوم التيسير قد أصابتها صنوف من الانتكاس بسبب عوامل أهمها التقليد وانعدام الرؤية وانقطاع الطريق، بفعل الحضور الجبار للاجتهادات وللجهود الموسوعية التي بذلها السابقون، إلى درجة رواج مقولات محبطة في أمتنا، من مثل: “ليس في الإمكان أبدع مما كان” وغيرها.
فماذا يعني المؤلف بمصطلح الترتيل؟ وكيف استطاع أن يتبين معالم هذا المنهج؟ ثم كيف حدد مستوياته وضوابط تنزيله؟
إن التنسيق بين الآيات وإن تفرقت منزلا في القرآن المجيد، هو أظهر معاني الترتيل، والغريب أننا نجد كثيرا من المفسرين، رغم اتفاق أقوال أئمة أهل اللغة -حسب تعبير ابن عاشور[3]- على أن الترتيل مأخوذ من النضد والاتساق ومن التنسيق، ومن الانتظام على استقامة، يقصرونه على الجانب الصوتي منه؛ بمعنى “إرسال الكلمة من الفم بسهولة واستقامة”.
وما الترتيل الذي قام به جبريل عليه السلام بأمر من الله عز وجل (ورتلناه ترتيلا) إلا إرساء لمنهج تبياني وتنزيلي وتوظيفي للآيات في واقع الناس. ومن هذا المنهج تفتق علم من نبغ من أئمة الأمة الأعلام، وبه ظهروا على من سواهم. وقد استمر إلى حين انبثقت خير أمة أخرجت للناس (كنتم خير أمة أخرجت للناس) [سورة ال عمران/الآية: 110]. فالقرآن الكريم في أول تنزله نزل مستجيبا لحاجات الجماعة المسلمة التأسيسية معرفيا وتربويا وسياسيا وتعبديا واجتماعيا وتشريعيا واقتصاديا وأخلاقيا، كل ذلك عن طريق منهج تم إرساؤه بالترتيل.
مستويات الترتيل في القرآن
يمكننا أن نتبين للترتيل في كتاب الله تعالى ثلاثة مستويات:
أولا: المستوى المفاهيمي
إن القرآن الكريم، بما أنه وحي أوحي به من عند الله أكبر من الواقع العيني المشخص الذي يتنزل عليه، فلا يكون -بالتبع- إلا في ضوء ما تكرم الموحي به سبحانه بإيداعه فيه من ضوابط فهمه، ومداخل المعرفة به. ومن هنا ضرورة الترتيل على المستوى اللفظي لتحقيق دلالات الألفاظ في ضوء الاستبعاد الكلي لاحتمال وجود ترادف في القرآن بالمعنى الشائع للترادف[4].
إن بناء المفاهيم يقتضي التدقيق التحليلي، أي القدرة على فك الوحدة إلى عناصرها، والتمحيص في الجزئيات، فالتعامل يكون على قدر الوحدة المعنية. وهو عمل يتطلب مهارات تحليلية بالأساس، إذ يكون الباحث فيه كالخبير في معمل “فحوص طبية أو حيوية يمسك المجهر لكي يفحص العينة.. اللفظ.. الاصطلاح الذي منه يخرج المفهوم”[5].
إذا تبينت أهمية تحديد مدلولات مفاهيم القرآن المجيد، فإن القيام بالترتيل يصبح ضرورة لاستبانة حمولتها، إذ القرآن مرتل، حسن النضد، متسق كنسيج الرتيلاء التي ترتل بيتها بإتقان ونظام، تتفاضى الآيات فيه والبصائر التي صرفت فيه على شاكلة يتيسر معها الذكر، وتمكن معها الهداية.
وبعد أن قدم أحمدد عبادي المستوى المفاهيمي في إطار استدلالي محكم ومتدرج خلص إلى أن الترتيل على المستوى المفاهيمي كما على المستوى اللفظي وفي غيره من الاتجاهات له بعدان أساسيان:
- البعد المتمثل في الدراسة المصطلحية، بمختلف خطواتها المنهجية [6].
- البعد الموضوعي المضموني الذي تكون فيه إضاءات للمعنى قيد البحث، وذلك من جوانب قد لا تتصل بتمظهرات جذور المصطلح المختلفة.
وبناء عليه لا يمكن الزعم بالفراغ من الترتيل قبل توفية البعدين معا كامل حقهما. إذ ثمة علاقات ووشائج لا يمكن اكتشافها إلا بالنظر إلى المعنى الكلي “من خلال أنماط التجاوز والتقابل وعبر الانتقال بين مواضع ومواضع، ومن خلال متابعة إيقاعات الخطاب في حركاته”[7].
وبهذا الشكل يتم الانفصال بمدلولات المفاهيم، إذ ضبط المفاهيم المكونة لنسق القرآن المجيد هو الذي يمكن من الاهتداء، فمن يتمكن من المفاهيم في نسقها القرآني فقد تمكن من الإبصار[8].
ثانيا: المستوى المرجعي النسقي (بناء الأطر المرجعية والأنساق القياسية)
ويقصد عبادي بالأطر المرجعية: التضافرات المفاهيمية التي تُنتِج لنا -بعد ترتيلها- أنساقا تمثلية مجالية تكون بالنسبة للتصور الكلي الكامن في القرآن المجيد بمثابة المركبات الإدراكية المشكلة لما يشبه القطاعات له، والتي يتمكن المرتل -بالرد إليها- من تحديد موقعه في الخارطة العامة لهذا التصور الكلي.
وتعد الأطر المرجعية أو الأنساق القياسية بمثابة اللحمة والعصب للترتيل، تضيع في غيابها ملامحه، ولا يبقى لأجزائه من المعنى والفاعلية، ولا لدقائق خيوطه من التناسق والجمال، ما للمجموع المؤتلف، والكل المنتظم[9].
ولابد من الإشارة إلى أن هذه المركبات التي سماها عبادي أطرا مرجعية أو أنساقا قياسية تستوجب عملية كدح وحفر متواصل.
ثالثا: المستوى التنزيلي
يقف أحمد عبادي في هذا المستوى على الفرق الجوهري بين إنزال القرآن جملة واحدة إلى السماء الدنيا وتنزيله إلى رسول الله ﷺ؛ فالتنزيل -كما يتضح في الآية: 32 من سورة الفرقان– كان ترتيلا بأمر الله، وهذا الترتيل كان يستبطن خطة تشريعية وتربوية وبنائية جلية المعالم، معجزة الملامح[10].
وقد جاء التنزيل في خطته التربوية متعدد المستويات والأبعاد على أكثر من مدخل، المدخل الفردي لتكوين الجماعة، وهو المدخل الذي استوجبه التتابع الزماني للتنزيل، والمدخل الجماعي لتقويم الفرد؛ وهو المدخل الذي استوجبه تمام الرسالة واستقامة الجماعة، التي خلفها الرسول ﷺ، لتكون علامة لبدء مرحلة جديدة في التاريخ الإنساني[11].
وقد استرعى هذا المستوى الثالث من مستويات الترتيل اهتمام مجموعة من العلماء وخاصة العاملين منهم المكابدين، ففصلوا في كيفيات التنزيل، وفرعوا القول في شروطه ومناطات -تخريجا وتحقيقا وتنقيحا- ومقاصده ومآلاته والموازنات بين المصالح والمفاسد التي قد تنتج عن هذا التنزيل، كما فصلوا القول في وسائل ترتيب الأولويات، وميزوا بين الأولى في كل نازلة، وتتبعوا الاحتمالات والوجوه والأشباه والنظائر، فنتج من ذلك كله فقه تنزيلي ضاف ووضيء، فأدوا بذلك رحمهم الله ما عليهم، وعلينا أن نؤدي ما علينا [12].
ضوابط الترتيل في القرآن
أولا: الضابط المنهاجي
تتمثل العقدة المنهجية في سياق الترتيل في القدرة على استيعاب الفوارق بين مستوى العمل على بناء المفاهيم، وبين مستوى التعامل على بناء الأطر المرجعية التي تنتظم هذه المفاهيم.
من هنا تأتي أهمية الضابط المنهاجي للترتيل الذي يعد بمثابة خريطة طريق لاستبانة الخطوات أو الوسائط والوسائل التي يتحقق بها الوصول إلى الغاية على أفضل وأكمل ما تقتضيه الأصول وتتيحه الإمكانات.
ثانيا: الضابط التمثّلي
وهو في حقيقته تلك النظرة الكلية في التعامل مع القرآن الكريم، والتي من شأنها أن تؤطر كل مستويات الترتيل: اللفظي/المفاهيمي، النسقي/المرجعي، والتنزيلي/التأويلي، والتي تزكو ثمراتها بمقدار ما تحققه من استيعاب لأبعاد النظرة الكلية المستمدة من طبيعة القرآن الكريم الشاملة.
وفي غيابه فإن الترتيل لن يعدو كونه عبارة عن عملية فرز وتصنيف وتبويب محدودة الدلالة والنفع، غير قادرة على الدفع قدما بالمشروع الكلي الذي ذرئ الإنسان في الأرض للاضطلاع بتحقيقه.
ثالثا: الضابط اللغوي
ومفاده الانضباط لقوانين اللسان العربي الذي اختاره الله وعاء لهذا الوحي، وهذا الضابط رغم تجلي نفعه في المستويين الآخرين، فإنه ينصرف عموم ضبطه إلى المستوى المفاهيمي من مستويات الترتيل.
رابعا: الضابط المقاصدي
وهو ضابط، وإن كان نفعه كسابقه متعديا إلى المستويين الآخرين، فإنه ينصرف أساسا إلى مستوى بناء الأطر المرجعية؛ إذ تسعف استدامة الوعي بالمقاصد في عملية محاكمة المركبات المفاهيمية التي تشكل الأنساق القياسية [13].
خامسا: الضابط المآلي
وقوامه هو النظر في مآلات تنزيل الترتيل، وذلك بغية الاستشراف الاستقبالي لعواقبه، قصد الاجتهاد في ضمان أكثر قدر ممكن من الهدى للواقع الذي يجري فيه الترتيل. ولا شك أن النظر المآلي ينطوي على ميزة عدم الانحباس في الواقع القريب الضيق، والانسجام في ملابساته، بل يمكن من المشي سواء على صراط مستقيم، بمجال بصري أرحب، فيمنح الترتيل في مستواه التنزيلي إمكانات أكثر سعة وأهدى رشدا.
سادسا: الضابط التكاملي
وهو ضابط يفرض استدامة الوعي بضرورة رد الآيات والبصائر بعضها إلى بعض لاجتناب السقوط في التعضية والتفريق بينها، كما يفرض كذلك التأسي بنبي الرحمة وهو يرتل القرآن ترتيلا.
ولا يخفى على القارئ الحصيف ما لهذه الضوابط من دور فعال وحيوي في الكشف عن مكونات المنهج الأمثل للاضطلاع بأمر الله بترتيل القرآن ترتيلا.
وبعد أن عرض عبادي نظريته التكاملية للترتيل في إطار استدلالي ومنهجي متدرج ومحكم، اجتهد -وبدافع من منهجه الصارم- في تطبيق هذا المنهج الفريد على موضوع تربوي هو: إخراج الإنسان الصالح في القرآن المجيد.
وقبل أن يبسط أسس منهج إخراج الإنسان الصالح في القرآن قدم تجريدا لما اصطلح على تسميته في الباب الأول بـ”الضابط التمثلي” مستشهدا بالمعمار الاجتماعي الصالح الذي أرسى دعائمه محمد بن عبد الله ﷺ عن طريق إخراج (الأمة القطب) القابلة للتوسع حتى تشمل البشرية جمعاء؛ لأنها -وكما يقول الأستاذ- لا تنفي تجربة ولا حكمة ولا عنصرا، بل عن طريق التعارف تحدث التكامل نحو الصلاح في نظام تشريعي حِكَمي مقاصدي معتبر للمآلات بديع [14].
لينتقل بعد ذلك إلى محاولة تركيب أركان ما سماه الأطر المرجعية/الأنساق القياسية وذلك من خلال دراسة مجموعة من المفاهيم ترتيلا في المستوى المفاهيمي، ثم الربط بينها. ولأجل هذا الغرض اختار القيام بالمستوى الأول من مستويات الترتيل ضمن عناوين هذه الأطر والأنساق، وقد حددها في خمسة، هي على التوالي[15]: الوحي. القبلة. الوجهة. المنهجة الآياتية. الصلاح.
إن من مظاهر تكريم الله للإنسان أن جعل سبحانه الوحي في حالة اكتماله مستوعبا لكل طاقاته ولكل قدراته ولكل طموحاته وتطلعاته عبر سائر الأزمنة. وفي هذا السياق يبرز المؤلف أن نتيجة عمل الوحي في القرآن المجيد -في المجال الإنساني كما في المجال الكوني- هي السجود. غير أن السجود في المجال الكوني -ولطبيعة عمل الوحي فيه- يتم تلقائيا، في حين أنه في المجال الإنساني لا يتم إلا بالكدح والمكابدة، يقول عز وجل: (اَلم تر أن الله يسجد له من في السماوات ومن في الاَرض والشمس والقمر والنجوم والجبال والشجر والدواب وكثير من الناس وكثير حق عليه العذاب ومن يهن الله فما له من مكرم إن الله يفعل ما يشاء) [سورة الحج/الآية: 18]. ذلك أن الإنسان يتميز عن الكون بأنه حمّل الأمانة وعلّم الأسماء ووهب ملكة الفهم التي تمكنه من التفكر والتدبر واستفراغ الوسع في الاستهداء بالآيات البصائر وصرفها وفق عملية التصريف القرآني لتضيء زوايا مختلفة، وتبرز جوانب متفرقة من القضايا التي تشير إليها.
مظاهر تكريم الإنسان
ومن مظاهر تكريم هذا الإنسان كذلك أنه يولد على الفطرة /الصبغة الأصلية والتقويم الحسن (لقد خلقنا الاِنسان في أحسن تقويم) [سورة التين/الآية: 4] وهي مقومات تكسبه القدرة على قراءة الآيات والبصائر وفق منهجية معرفية يسميها المؤلف “المنهجية الآياتية” تجعله قادرا على قرن الوجهة الملائمة بالحركة التي يفرضها الموقع ليتم التوجه نحو القبلة الحقيقية لتحقيق السجود الكلي والاندراج في موكب الساجدين. أو على حد تعبير د.منى أبو الفضل: “عودة البشرية إلى رحمها الكوني”؛ وهذا هو الصلاح القرآني الذي ينبغي أن يكون ضاربا بجذوره في عمق طوايا كينونة الإنسان، كما ينبغي بالتبع أن تكون له تجلياته في واقعه[16].
فكيف يمكن أن نصنع الإنسان الصالح المصلح؟
إن محور عملية إخراج الأمة الصالحة المصلحة الأساسي هو الإنسان، ومن ثم فإن أفقها الأسنى هو إخراج الإنسان الصالح المصلح عن طريق ضبط تصوراته لعناصر الوجود -الله، الكون، الإنسان، الحياة والآخرة- وضبط علاقاته معها، وإكسابه الخبرات التي تمكنه من أن يجري هذه العلاقات وفق مقتضيات تلك التصورات… وذلك عن طريق بذل جهد واع ممنهج ومرحلي متوسل بكل الوسائل المشروعة.
وتتم عملية إخراج الأمة الصالحة المصلحة -في نظر المؤلف- عبر مسلكين متوازيين:
الأول: ضبط تصورات الإنسان وعلاقاته، وذلك من خلال خط علمي يضبط تصورات الإنسان عن الله والكون والإنسان والحياة والآخرة، وآخر عملي يضبط العلاقات بالله والكون والإنسان والحياة والآخرة بمختلف أقسامها [17].
الثاني: التنشئة على محورَي الربانية والقوة: والمقصود بالتربية الربانية أن تكون غايتها ربانية، يقصد بها وجه الله والدار الآخرة. تصوغ النفس الإنسانية بعلم الله، فتكون نتيجتها الإنسان الرباني الذي يعيش بعلم الله فيما يصدق وفيما يطبق، فيما يعتقد وفيما يفعل، فيلتقي الخلق والأمر، وينسجم العقل والفطرة، ويكون الوحي علما في صدره، ونورا في قلبه. ويظهر ذلك في إيمانه بالله عز وجل، وفي إيمانه بالملائكة، وباليوم الآخر، وبالكتب والرسل.
وأهم ما ينبغي أن تركز عليه التربية الإسلامية في محور الربانية، بعد الإيمان بأركانه الستة، الأمور الأربعة التالية: إخلاص النية. مراقبة الله تعالى. محاسبة النفس. التوكل على الله [18].
كما أن التربية الإسلامية ينبغي أن تسعى إلى إكساب المربي القوة بكل أصنافها ومعانيها؛ ابتداء من القوة في العقل إلى القوة في الروح، والقوة في الخبرة بكل أنواعها، والقوة في الإرادة، والقوة في التسخير، والقوة في الجسم…
ولا شك أن هذه الآفاق كلها تقتضي بلورة مناهج عملية ومرحلية لتمرير كل هذه المعاني إلى متلقي التربية الإسلامية؛ مناهج من المطلوب الاستفادة بشأنها من سنة المصطفى ﷺ في هذا الباب، وكل الجهود البشرية الراشدة.
الخلاصة
لعل الخلاصة المركزية التي يخرج بها قارئ الكتاب منه أن مؤلفه أحمد عبادي استطاع أن يبرهن -ما وسعته البرهنة وأسعفته الحيلة- على أن الترتيل لا محيد عنه مسلكا ومنهجا لمن أراد الاستبصار بهدي القرآن واتباعه مسرى ومدلجا، متسلحا في ذلك بعتاد منهجي ومفاهيمي غاية في الدقة. كما أنه وفق في توضيح معالم هذا المنهج الفريد، الذي بدت ثماره بحمد الله في مجالات علمية ومعرفية شتى، مع إبداء ملاحظات تعديلية وتصويبية من أجل شحذ هذا المنهج وبرده وتبيان خطواته ودعمه. مما يجعل هذا العمل المبارك محفزا ومستنفرا لكثير من العقول والمسلمات، أكثر من ذلك يجعله محطة منهجية وفكرية أساسية في تاريخ الدراسات القرآنية المعاصرة سيكون لها ما بعدها إن شاء الله.
عرض: محمد المنتار5>