تحمل ذكرى معجزتي الإسراء والمعراج دلالات ومقاصد واسعة في حياة الأمة، وعلاقتها بالأمم الأخرى.
والحديث حول تحول قيادة العالم من أمة موسى – عليه السلام – إلى أمة محمد ﷺ، وما يتبع هذا من حمل أمانة الإنسانية، وما يتبع هذا من إدراك فقه القيادة المسلمة، وما يتبع ذلك من أحكام فقهية لم يتطرق إليها الفقهاء، لأجل الاستضعاف، تلك القيادة التي لا يشترط أن تقف عند حد القيادة ، ولكن الله تعالى حين وهب القيادة للأمة، فإنه ما نص على نوعية القيادة، بل هي دينية واجتماعية في المقام الأول، فهي قيادة توجيه وإرشاد، وليست قيادة حكم وتسلط، ولهذا ليس من الحكمة أن نقول: إن قيادة الأمة قد ماتت وهي في حالة هزال أو سكر أخلاقي واجتماعي، بل من الحكمة أن نحيي جوانب من حياة الأمة وألا نميته لأجل موات جانب واحد، ومع إدراكي بالتشابك بين الجوانب المتعددة في تاريخ الحضارات والأمم، فإنه ليس من الحكمة أن نحكم على الجسد بالموت لأجل مرض في العين أو الرأس، بل العقل يقول: نعالج تلك الأمراض ونبقي الصحيح على صحته، مع تأثره بالمرض.
إن مقومات الأمة الإسلامية ما زالت باقية ولن تزول، ولكن تفعيلها والأخذ بها هو الذي يظهرها، أو أن نشعر بانهزامنا فنقعد في بيوتنا لندع غيرنا ينظم لنا هيكل حياتنا، والخطوط التي يمكن أن نسير فيها، والمناطق التي يحظر علينا الاقتراب منها، ووضع السياسة العامة في شئون الدين والحياة، لا أن نكون تابعين فحسب، ولكن لنكون أشبه بالعبيد، لا لله رب العالمين.
الانهزام الحضاري والفقهي
إن الانهزام الحضاري يضر بالأحكام الفقهية، ويجعل دفة الاجتهاد ليست متجهة إلى تطبيق النصوص والمصالح الشرعية، بقدر ما أنها تتجه إلى إيجاد رخص، أو يكون لفقه الاستضعاف أثر في الفتوى، بحكم تباين الفتوى باختلاف الزمان والمكان، فخرجت بعض الفتاوى بقبول استقدام جنود احتلال على هيئة دفاع أجنبي لتوهم احتلال دولة مسلمة لدولة مسلمة أخرى، متناسين هؤلاء الفقهاء أن فقه النص وحده لا يكفي، بل يجب النظر إلى المقاصد، وأن العبرة في العقود والمعاملات بالمقاصد والمعاني لا بالألفاظ والمباني، فالقول بجواز مجيء قوى تابعة لدول عظمى يعني الاحتلال بشكل مختلف، ولسنا من الغباء أن نفهم الاحتلال على أنه احتلال بالمعنى التقليدي، ولو انتفع الفقهاء بمقاصد الإسراء والمعراج لكان دليلا على عدم جواز مثل هذه الفتاوى التي أضرت بالبلاد والعباد، مع الانتفاع بالنصوص الشرعية الواردة في المسألة، ولتكون مقاصد الإسراء والمعراج من أسباب ترجيح بعض الآراء على الآراء الأخرى.
إن مقاصد الإسراء والمعراج تعني أن تعي الأمة شعوبا وعلماء قبل الحكام مقتضيات فقه المعجزة، من الواجبات الشرعية الملقاة على عاتقة الأمة تجاه الإنسانية دون النظر إلى ما تحت الأقدام في بلادنا، ليكون العمل في الخارج والداخل هو إحدى سمات الأمة في سيرها في طريق الإصلاح.
كما أن من فقه الإسراء والمعراج أن تعرج الأمة عن السفاسف في تعاملاتها فيما بينها، وعن سفاسفها في التعامل مع الآخر، فلا يكون مجرد اختلاف العقيدة مانعا من التعاون على البر والتقوى، وأن نفرق بين ما هو إسلامي خالص، وما هو إسلامي إنساني، وأن نفرق بين الاختلاف والعداء، وبين العداء والاعتداء، لتتم الرحمة الإنسانية التي خاطب بها ربنا رسوله ﷺ: “وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين”.
قيادة إنسانية
إن اجتماع الرسل للنبي ﷺ فقه منه الكثير معنى قيادة النبي ﷺ للأنبياء، وأنه خاتم الأنبياء والمرسلين، وإني أفهم من اجتماع الرسل للأنبياء أن تسعى أمته لجمع العالمين على المبادئ الإسلامية السمحة، مما ينتج عن هذا آثار فقهية من احترام الغير وعدم الاعتداء عليه، وجواز التعامل معه، كقواعد أصيلة، ويبقى درء الاعتداء المتصور في الجهاد ليس أصلا في المعاملة، وإنما هو رفع للظلم الذي حرمه الله تعالى على نفسه، كما حرمه على خلقه، ولرد الظالم عن ظلمه ليس إلا، ليكون الاعتداء على غير المسلمين بلا عدوان خارجا عن منهج الفقه، وفقه الإسراء والمعراج.
إحياء فقه المقاصد
وإن من فقه الإسراء والمعراج إحياء روح العبادة، وعدم الوقوف عند الصور وحدها، بل يجب أن تتعدى ذلك إلى تحقيق المقاصد، وفي ذلك إشارة إلى وجوب اهتمام العلماء لفقه المقاصد، وعدم الوقوف عند الشروط وحدها، فإن العبادات والمعاملات لها شروط للوجوب، وشروط للصحة، وفي ذات الوقت لها مقاصد تبتغى من ورائها، والمقاصد مقصودة لذاتها، أما الشروط في كالحارس والمعين لتحقيق المقاصد، ولهذا فقد ذهب من أهل العلم إلى أن الخشوع في الصلاة ركن من أركانها، وهذا يعني أن يحيي الفقهاء منهج بيان الحكم الشرعي ومعه الإرشاد للالتزام بخطاب الله تعالى لعباده المكلفين.
ثورة الاتصالات والمواصلات
وفي فقه الإسراء والمعراج وانتقال الرسول ﷺ من مكة إلى فلسطين، وعروجه من الأرض لسدرة المنتهى مارا بالسموات العلا، ورجوعه وإحضار جبريل عليه السلام لصورة للمسجد الأقصى، فيه انتفاع بوسائل الاتصال الحديثة وتفعيلها كي تقوم بدور في تبليغ التشريع والأحكام، وأن الوسائل تأخذ حكم المقاصد، وأن نحكم بالوسيلة بحكم غاياتها، فلا يفتى بحرمة مشاهدة التلفاز أو الفضائيات أو غيرها، فقد وجدت إشارات لها منذ زمن النبوة قبل أن يعرف الناس ثورة الاتصالات بمئات السنين.
وفي ظني أننا بحاجة إلى إعمال فكر وعقل، وسعي نحو إخراج سمات منهجية فقهية حضارية من الإسراء والمعراج، وستبقى تلك الذكرى مصدر تجديد للأمة، ونبعا لتجديد خطابها وسعيها الحضاري والفقهي.