للحج مقاصده السامية والجليلة ومنافعه النيرة والمتنوعة، وهو موسم يُغتنم فيه فضل المكان والزمان، والمكان الفسيح الملئ بالخيرات الذي يبحث فيه كل أحد عن بغيته سواء في منافع الدنيا أو منافع الآخرة، وإذا أتينا لنرى أحوال علماء المسلمين في الحج على تنوع مشاربهم؛ نجدهم على محطة الاقتداء والقدوة الحسنة، فمنهم من جعل حجه كله في العبادة الخاصة كالنوافل وقراءة القرآن والأذكار ونحوها ولا يتعداها، ومنهم من أضاف إلى ذلك بذل الوسع في اغتنام الوقت لاستثمار مقاصد الحج في العلم استفادة وإفادة كما هو مسلك كثير من المحدثين الحجاج.

إنهم جعلوا من مقاصدهم في الحج:

الحرص على اللقاء برواة الحديث

تهوى أفئدة كثير من المحدثين إلى رحاب الحج رجاءا وسرورا وفرحا للقاء بإخوانهم من حملة السنة النبويةالأعلام من أهل المشرق والمغرب، إلى حد أن يوصى بعضهم بعضا بالتعرف على الرواة القادمين في الحج.

ومن ذلك قول ابن عيينة: ” قال لي ابن جريج: دلني وأدلك على المشايخ إذا قدموا الموسم، فقدم يحيى بن يحيى الغساني فسمعت منه ولم أعلمه، فلما انقضى الموسم اجتمعنا نتذاكر فذكرت يحيى بن يحيى الغساني، فقال: متى سمعت منه؟ قلت: كان حضر الموسم فقال: حدثني فلان وحدثني فلان وقال: من خنس يحيى بن يحيى خنس منه مثل هؤلاء ” [1]

أيام الحج بالنسبة للمحدثين أيام متميزة ومباركة، أيام لا نظير لها في تجديد رابطة الأخوة والصداقة فيما بينهم وبين إخوانهم.

وقال أبو جعفر الباقر: إنه ليزيدني في الحج رغبة لقاء عمرو بن دينار، فإنه كان يحبنا ويفيدنا

يقول أيوب السختياني: “إن مما يزيدني رغبة في الحج وحضوره أن ألقى إخوانا لي فيه لا ألقاهم في غيره” [2]

ولما قيل لعبيد الله بن عمر: أراك تتحرى لقاء العراقيين في الموسم؟ فقال: والله. ما أفرح في سنتي إلا أيام الموسم، ألقى أقواما قد نور الله قلوبهم بالإيمان، فإذا رأيتهم ارتاح قلبي؛ منهم: أيوب.[3] يقصد أيوب السختياني إمام المحدثين، وبالفعل إنه لرابطة إيمانية ذات معنى راق، وفوق كل عرق وجنس ولون، يعزز موسم الحج دوامها وقواها.

الحرص على السماع من الراوي

كان طلب الإسناد العالي مرغبا فيه باتفاق أئمة الحديث، فبدلا أن يأخذ الراوي  بواسطة فإنه يرحل إلى الشيخ فيأخذ عنه مباشرة تفاديا لأي احتمال خطأ أو وهم إذا كان بوسائط، والحج هو أعظم ملتقى أصحاب الحديث ولهذا تداعت رغبات كثير من الأئمة النقاد إلى الرحلة إلى الحج طلباً لعلو الإسناد.

عن إبراهيم بن إسحاق قاضي مصر: أنا حملتُ رسالةَ اللَّيث بن سَعْد إلى مالك بن أنس، وأخذتُ جوابَها، فكانَ مالكٌ يسألني عن ابن لَهِيعة فأُخبرُهُ بحالِهِ، فجعل مالكٌ يقول لي: فابنُ لهيعة ليسَ بذكر الحَجِّ فسبق إلى قَلْبي أنه يريد مشافهتَه والسَّماع منه.[4]

وقال سفيان الثوري:” حججتُ حِججاً لألقى ابن لهيعة”وكان يقول:” عند ابن لهيعة الأصول، وعندنا الفروع. بل قال أحمد:” ما كان محدث مصر إلا ابن لهيعة”[5]

وقال الأوزاعي: حججت فلقيت عبدة بن أبي لبابة بمنى فقال لي: هل لقيت الحكم؟ قلت: لا قال: فاذهب فالقه فما بين لابتيها أفقه منه! قال: فلقيته فإذا برجل حسن السمت مقنع.[6] وقد صار هذا المسلك أدبا من آداب المحدثين.

الحرص على التثبت في الرواية

كان بعض المحدثون يرحلون من بلدانهم إلى الحجمع تحمل المشاق والمصاعب لأجل التحقق من صحة الحديث أو فائدة حديثية، كما في قصة شعبة الشهيرة مع حديث عقبة بن عامر في فضل الوضوء وتثبته فيه عندما سمعه من أبي إسحاق السبيعي، قال له: من حدثك؟ قال: حدثني عبد الله بن عطاء عن عقبة. قال: قلت: سمع عبد الله بن عطاء من عقبة؟ قال: فغضب، ومسعر بن كدام حاضر فقال: أغضبت الشيخ. فقلت: ما له؟ ليصححن لي هذا الحديث أو لأسقطن حديثه، فقال مسعر: عبد الله بن عطاء بمكة، فرحلت إلى مكة لم أرد الحج أردت الحديثوفي رواية “فحججت، وقدم عبد الله بن عطاء فلقيته فسألته عن الحديث…الخ [7]

يقول علي بن المديني: «حججت حجة وليس لي همة إلا أن أسمع من سفيان يذكر في هذا الحديث الخبر حتى سمعته يقول: حدثنا عمرو بن دينار، وقد كنت سمعت هذا من سفيان من قبل ذلك ولم يذكر فيه الخبر».[8]أي لم يذكر فيه صيغة التحديث الدالة على الاتصال إلا في هذه المرة، وتحققت له بغيته في هذا الموسم. 

الحرص على حضور مجلس العلم

جرت عادة أصحاب الحديث في تلقى العلم من أفواه أئمة الحديث وشد الرحال في سبيل ذلك، وقد جعلوا ذلك أيضا هدفا نبيلا في الحج، حتى قال فضيل بن عياض “لا يخلص لأصحاب الحديث حج، وسفيان بن عيينة حي”[9] أي أصبحت من الواجبات بالنسبة للمحدثين في موسم الحج أن يحضروا حلقة سفيان لعلو شأنه في علم الحديث، وقد حضرها التابعون.

يقول الفضل البزاز: حججت مع أحمد بن حنبل، ونزلنا في مكان واحد، فلما صليت الصبح درت المسجد فجئت إلى مجلس سفيان بن عيينة، وكنت أدور مجلسا مجلسا؛ طلبا لأحمد بن حنبل، حتى وجدت أحمد عند شاب أعرابي وعلى رأسه جمة فزاحمته حتى قعدت عند أحمد بن حنبل، فقلت: يا أبا عبد الله تركت ابن عيينة وعنده الزهري وعمرو بن دينار وزياد بن علاقة ومن التابعين ما الله به عليم![10]، فقال لي: اسكت! فإن فاتك حديث بعلو تجده بنزول، ولا يضرك في دينك ولا في عقلك، وإن فاتك عقل هذا الفتى أخاف أن لا تجده إلى يوم القيامة، ما رأيت أحدا أفقه في كتاب الله عز وجل من هذا الفتى القرشي. قلت: من هذا؟ قال: محمد بن إدريس الشافعي[11].
ومن الطرائف أنه لما حج هارون الرشيد أرسل إلى سفيان بن عيينة فأمره أن يحدث بنيه، فقال يا أمير المؤمنين قد سألني الناس فامتنعت عليهم، ولكني أجلس لبنيك وللناس، فقال: نعم. فلما جلس صاح به الناس: سألناك الجلوس لنا فأبيت علينا، فلما جاءك المال والجائزة جلست.

فقال للمستملي: أنصتهم لي. فصاح المستملي: صه صه. فسكت الناس، فأخرج سفيان بن عيينة رأسه إليهم، وقال: حدثني الزهري، عن أنس بن مالك، قال: قال رسول الله : ” ما شيءٌ أحل وأطيب من ثلاثة :صداق الزوجة، والميراث، وما أتاك الله به من غير مسألة، فإنه رزق ساقه الله إليك ” والله ما جئت هذا الرجل ولا سألته شيئاً من ماله، ولو وجّه إليّ شطر ماله لقبلته، ثم أدخل رأسه ولم يحدثهم في ذلك الموسم بشيء.[12]

ومن المحدثين من يشتهى أن يعقد مجلس الإملاء رغبة في نشر العلم وتبليغ السنة النبوية في الموسم، كما قال محدث اليمن عبد الرزاق بن همام:” قدمت مكة مرة فأتاني أصحاب الحديث ثم انقطعوا عني يومين أو ثلاثة، فقلت: يا رب ما شأني كذاب أنا! أبي شيء أنا! قال فجاءوني بعد ذلك،[13] وفي رواية قال عبد الرزاق: قدمت مكة فمكثت ثلاثة أيام لا يجيئني أصحاب الحديث فمضيت وطفت وتعلقت بأستار الكعبة وقلت: يا رب مالي أكذاب أنا! أمدلس أنا! قال: فرجعت إلى البيت فجاؤني[14]. هكذا كانت شدة عنايتهم وحرصهم بشأن الرواية في الحج.

اختبار ثبوت سماع الرواة

للمحدثين اهتمام خاص بتفتيش عن مواضع السماع وتواريخ اللقاء بين الرواة، وتظهر فائدة ذلك عند الحكم على الحديث وصلا وإرسالا، اتصالا وانقطاعا، وقد عني المحدثون بهذا الجانب في الحج عناية كبيرة، من حيث تتبع أخبار المحدث في الموسم ومعرفة السنة التى حج فيها وعدد حجه ومن لقي وروى عنه وغير ذلك مما له اعتبار في الصناعة الحديثية.

يقول حميد الطويل:” لم يحج الحسن إلا حجتين حجة في أول عمره وأخرى في آخر عمره”.[15] يعنى أنه لا يمكن إدعاء السماع من الحسن في موسم الحج سوى الحجتين. وقال أحمد: حماد بن سلمة لم يخرج إلى الكوفة، حج فسمع من سلمة بن كهيل[16]. معناه أنه لم يثبت اللقاء بين حماد بن سلمة وسلمة بن كهيل إلا في الحج فقط.

ونظير ذلك قول ابن معين عن سفيان بن حسين أنه: عن غير الزهري أثبت منه عن الزهري، إنما سمع من الزهري بالموسم يعني لم يصحبه ولم يجتمع به غير أيام الموسم”[17]  ولم يتقن عنه حديثه بسبب “أن صحيفة الزهري اختلطت عليه؛ فكان يأتي بها على التوهم”[18]  

وقال ابن بكير: حج الليث بن سعد سنة ثلاث عشرة فسمع من ابن شهاب بمكة وسمع من أبي مليكة وعطاء وأبي الزبير ونافع وعمران بن أنس وعدة مشايخ[19].

يعنى أن الليث قد استفاد أثناء الحج اللقاء بكثير من أئمة الشأن، فتكون روايته عنهم متصلة.

وقال عمرو بن دينار: سمعت مجالد سنة سبعين عند درج زمزم عام حج مصعب بن الزبير يحدث عمرو بن أوس وجابر بن زيد سفيان بن حسين.[20] وهذا من كمال الضبط وقوة الذاكرة لدى المحدثين.

ولما كان موسم الحج محفوفا بمثل هذه الفوائد العلمية والروحية ونحوهما تعلقت نفوسهم به فأكثروا من تكراره، ونقلت لنا صفحات التاريخ عن أخبارهم في ذلك.

يقول ابن شوذب:” شهدت جنازة طاووس بن كيسان بمكة سنة ست ومائة فسمعتهم يقولون: رحمك الله يا أبا عبد الرحمن، حج أربعين حجة” [21]

قال الحسن بن عمران – ابن أخي سفيان بن عيينة -: حججت مع عمي سفيان آخر حجة حجها سنة سبع وتسعين ومائة فلما كنا بجمع وصلى استلقى على فراشه، ثم قال: فد وافيت هذا الموضع سبعين عاما أقول في كل سنة: اللهم! لا تجعله آخر العهد من هذا المكان، وإني قد استحييت من الله من كثرة ما أسأل ذلك، فرجع فتوفي في السنة الداخلة يوم السبت أول يوم من رجب سنة ثمان وتسعين ومائة ودفن بالحجون… وتوفي وهو ابن إحدى وتسعين سنة. [22]

ولله در القوم عاشوا للعلم ونشروه حينما نزلوا، واستجابوا لأمر الرسول عليه الصلاة والسلام ” فليبلغ الشاهد الغائب”[23] قاله عليه الصلاة والسلام في حجة الوداع.


[1] الجامع لأخلاق الراوى 2/144

[2] تاريخ ابن معين (رقم 77)

[3] حلية الأولياء 3/4

[4] المدخل إلى كتاب الإكليل. ص:68

[5] شرح علل الحديث 1/421

[6] تاريخ مدينة دمشق 35/160

[7] المحدث الفاصل. ص:313

[8] سؤلات البرذعي 2/770

[9] الطبقات الكبرى 3/293

[10] لعل قصده باعتبار من قد مر بها قبل وقت أحمد

[11] تاريخ مدينة دمشق 32/143

[12] بهجة المجالس وأنس المجالس. ص:32

[13] تاريخ ابن معين (رقم 76)

[14] الكفاية ص:357

[15] الطبقات الكبير لابن سعد (رقم:8680)

[16] المعرفة والتاريخ 2/85

[17] شرح علل الترمذي 2/808

[18] المجروحين 1/358

[19] المعرفة والتاريخ 2/85

[20] العلل ومعرفة الرجال 2/447

[21] العلل ومعرفة الرجال، 2 / 463

[22] الطبقات الكبرى، 5 / 497

[23] رواه البخاري (4406)