لا ينتهي عمر الإنسان وفق ما يشاء هو، بل وفق مشيئة الله عز وجل، وهذ يعني أن المرء قد يغادر الحياة قبل أن يدرك كل ما يشتهي، ودون أن ينجز ما قد بدأ من أعمال. وهذه سنةٌ تنطبق على الكتاب كما تنطبق على غيرهم.
يموت الكاتب، وتبقى من بعده ذريةٌ من ورق، بعضها ولدانٌ مخلدون، وبعضها أجنةٌ نفخت فيها الروح ولمّا تولد بعدُ، ويمكن لها أن تخرج إلى الحياة بعد فترة بسيطة في “الحضانة”، أو تولد خداجاً كأحجية ناقصة.
ويجب أن نذكر هنا واحداً من أشهر الكتب المتداولة في طول العالم الإسلامي وعرضه، وهو تفسير الجلالين، الذي شرع في تأليفه الإمام جلال الدين المحلي، ثم عاجله الأجل قبل أن يفرغ من تأليفه، وجاء الإمام جلال الدين السيوطي فأكمل التفسير إلى سورة الناس وأخرجه للملأ.
وفي عصرنا الحديث حدثت قصة مشابهة على نحو ما، هي قصة كتاب “أضواء البيان” للشيخ محمد الأمين الشنقيطي، الذي توفي قبل أن يستوفي تفسير القرآن الكريم كاملاً فأكمله تلميذه الشيخ عطية محمد سالم، رحم الله الجميع.
وهناك كتبٌ موءودة! اكتملت كتابتها ولكنّ كاتبيها أبقوها حبيسة الأدراج خوفاً أو طمعاً أو سأماً أو عدم رضى! وأتذكر أني سألتُ الشيخ منير غضبان رحمه الله عن كتابٍ له في تاريخ سورية؛ فأجاب بأنه أنجزه ولكنه كان متردداً في نشره خشية أن تضر بعض معلوماته ببعض الناس.
ومن الكتب ما يندثر ذكره تماماً أو يكاد، لا لرغبة من المؤلف في إخمال ذكره، ولكن لأنه طبع على نحوٍ يجعله غير متاح إلا في أضيق الحدود؛ كما يحصل في بعض سلاسل الكتب التي كانت توزع على هيئة هدايا مع بعض الصحف والمجلات في مصر، وبعد مرور سنوات قليلة يتعسر الوصول إليها أو يتعذر..
ويطبع بعض المؤلفين من كتبهم نسخاً محدودةً، يهدون منها إلى بعض أصدقائهم ثم لا يعيدون طبعها، فيدهب أثرها من بعد.
وأفظع من ذلك: أن يعتكف المؤلف على كتابٍ يعمل عليه الشهور أو السنوات، ثم تجتاح الكتاب جائحة من طرازٍ ما؛ فيذهب كل شيء هباءً! وهو ما يذكّر بابن الملقن رحمه الله، فقد أمضى عشرات السنين يؤلف، وينقح، جتى بلغت مؤلفاته ٣٠٠ مجلد بين صغير وكبير، ثم إن حريقاً مشب في داره وأتى على كل كتبه؛ ما أصابه بصدمة حادةٍ تغيرت قدراته العقلية على إثرها حتى أدركته الوفاة!
وعلى نطاقٍ أضيق: يبرز لنا الأديب المصري أحمد الزيات، الذي سلخ ثلاث ًسنين يؤلف فيها كتاب “العراق كما عرفته”، وقد تعرضت مسودة الكتاب بعد لحريق أحالها رماداً، ولم ينشط الزيات لإعادة كتابته من جديد.
وهناك كتبٌ لم تتجاوز مرحلة النطفة، وهي الفكرة.. وكتب لم تعدُ طور العلقة.. وهي التصور المكتوب.. وأخرى انقضى عليها الأجل وهي مضغة: مسودة مخلقة وغير مخلقة.
وفي أصحاب الأقلام من يشرع في الكتاب؛ ثم ينقطع عن مواصلة التأليف في أثناء المشوار: إما كسلاً، أو مللاً، أو بفعل انقطاع المدد من الفكر والمعرفة، أو بسبب طروء فكرةٍ جديدة لكتاب جديد يصرفه عن الكتاب الأول؛ ويحدث أن ينقطع عن الكتاب الجديد الذي انتقل إليه لأن فكرةً ثالثة عرضت عليه نفسها؛ فينقضي عمره وهو يقفز من عمل ناقص ليشرع في عمل غير مكتمل!
ومما يحسن أن يقال لهذا الصنف من الكتبة قول الحكيم: من ثبتَ نبتَ! وقول الشاعر:
ومشتت العزمات ينفق عمره
حيران؛ لا ظفر ولا إخفاق!
وفي الكتب ما لا يُنشر إلا بعد وفاة مؤلفه، وحسبنا مثالاً: سيرةُ مارك توين الذاتية.. التي يقول في مطلعها: “سأضع في اعتباري في هذه السيرة الذاتية أني أتحدث إليكم من وراء القبر، وأني سوف أكون في عداد الأموات حين يصدر هذا الكتاب، لقد بدا لي أنه يمكنني أن أنحدث بمطلق الصراحة والحرية -كما لو كنت أكتب رسالة غرامية- في حال تأكد لي أن ما سأكتبع لن تقع عليه عين إلا بعد وفاتي وتحرري من قيود هذه الدنيا”.
ومن الطريف الإشارة إلى لون آخر من الكتب الموءودة، وهي الكتب التي يتفق أن تتكرر حوادث معينةٌ تعرض لمن يشتغل بها؛ فيعدها الناس مشؤومة! كحال من كتبوا عن ابن الرومي الذي كان معرومفاً بمغالاته في التشاؤم من كل شيء.. ويذكر العقاد رحمه الله قصة طريفة جرت له فيقول: “إنني لو صدقت خرافة من الخرافات لصدقت خرافة الشؤم والتشاؤم، وصدقتها في ابن الرومي هذا قبل غيره، فما حدث منه قد شهدته بنفسي وخبرته في صحبي، ولم أعتمد فيه على روايات الأقدمين ولا على مبالغات المتندرين، لأنني تعاقدت على طبع كتابي عنه مع مدير المطبعة فمات هو وسجنت أنا قبل الفراغ من ملازم الكتاب الأولى، وكان وزير المعارف أحمد حشمت قد أوصى بطبع ديوانه، وأقام على تصحيحه مفتشَ اللغة العربية في الوزارة؛ فعزل الوزير والمفتش وماتا قبل الفراغ من جزئه الثاني، وكتب المازني فصولاً عنه فكسرت رجله، ونشر صاحب الثمرات قصائد من ديوانه فكسرت رجله، وهمّ صاحب البيان بنشر مطولاته والعناية بأخباره فتعطلت مجلة البيان، فلو كانت هذه المصادفات أسباباً يؤخذ بها وترتبط بنتائجها لكان الشؤم المزعوم حقيقة من الحقائق العلمية التي لا شك فيها… فقد أنجزت كتابي عن ابن الرومي فكانت السنة التي ظهر فيها من أسعد السنوات في حياتي الخاصة وأبرزها في حياتي العامة، وسلك الكتاب سبيله بين مراجع الأدب المعدودة في هذا الجيل، فإن كان الشؤم على صولته التي يتخيلونها فقد تحديناه، ونجحنا في تحديه بحمد الله!”.
كانت هذه جولة خاطفة في مقبرة الكتب.. أرجو أن تكون مفيدة واتعة.