الكلية الثالثة: التصورات التي تتضمنها السورة
ومجال هذه التصورات هي ( الله، والإنسان، والمجتمع)، القرآن هو المرتكز الأساس في بناء الشخصية المسلمة، وهو الذي يمنحها رؤية الخالق والعالم والكون، وتتضمن هذه الرؤية نظام القيم الذي ينبغي أن يعتقد الإنسان، فيما يسمى برؤية العالم أو النموذج المعرفي، أو الرؤية الكلية، بمعنى امتلاك التصور والقدرة على تفسير الظواهر الكونية والإنسانية في ضوء مرجعية الوحي، وهذا لن يتأتى إلا بنظرة تدبرية راشدة للقرآن.
ويمكن أن نشير إلى نماذج من التصورات الأساسية التي يمكن استخراجها من القرآن كما يلي:
1- مجال التصور : ( الله) “لا إله إلا الله” هي نواة العقيدة لدى المسلم، ويدور القرآن حول فكرة “التوحيد” في مجال التصور الإلهي وهي الفكرة القائمة على التنزيه الكامل لله تعالى، تنزيهه عن التشبه، والترمز والتجسيد والتمثل أو الشرك. فالله تعالى واحد لا شريك له في الرؤية القرآنية وهو ما تجمله سورة الإخلاص {قُلْ هُوَ اللَّهُ، أَحَدٌ اللَّهُ الصَّمَدُ، لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ ، وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ } [الإخلاص: 1-4] فهذه السورة هي خلاصة وكمال فكرة التوحيد من الناحية المعرفية والإيمانية في القرآن.
إن كلية التدبر في مجال التصور الإلهي هنا تعتمد على مركزية فكرة “التوحيد” وأبعادها وتمايزها عن مجال التصور الإلهي في المسيحية واليهودية وعن التصورات الوضعية التي أشار إليها القرآن أيضًا {وَقَالُوا مَا هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا يُهْلِكُنَا إِلَّا الدَّهْرُ}[ الجاثية:24].
كذلك يقدم القرآن الاستدلال العقلي على الاستدلال النقلي في مسألة التصور الإلهي فيشير القرآن دائمًا إلى استخدام العقل والاستدلال في التعرف على الله تعالى {الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَوَاتٍ طِبَاقاً مَا تَرَى فِي خَلْقِ الرَّحْمَنِ مِنْ تَفَاوُتٍ فَارْجِعِ الْبَصَرَ هَلْ تَرَى مِنْ فُطُورٍ ثُمَّ ارْجِعِ الْبَصَرَ كَرَّتَيْنِ يَنْقَلِبْ إِلَيْكَ الْبَصَرُ خَاسِئاً وَهُوَ حَسِيرٌ} [الملك 3-4]. ويرجح القرآن العقل على النقل في الاستدلال على الله تعالى ويدعو الكافرين إلى الإتيان بحججهم ودلائلهم على هذا الكفر وعدم الإيمان.{ أَإِلَٰهٌ مَّعَ اللَّهِ قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ} [ النمل: 64].
ويعبر التوحيد- كما يقول إسماعيل الفاروقي ( ت 1986) بعبارته البالغة الإيجاز: “لا إله إلا الله”-، عن معان ثلاثة، على المستوى القيمي، أولها: أن الخليقة هي المادة التي ينبغي تجسيد الإرادة الإلهية المطلقة فيها. وكل مقومات الخليقة في الوضع الذي فطرها الله تعالى عليه خيره. والخليقة ليست هي أفضل العوالم الممكنة فحسب، بل إنها كاملة ولا عيب فيها. ويكفينا هنا التدبر في هذين الشاهدين القرآنيين: {الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ وَبَدَأَ خَلْقَ الْإِنسَانِ مِن طِينٍ} [السجدة : 7]، و[الملك : 3 – 4].
إن التدبر في مجال التصور الإلهي يقود ضمن ما يقود إلى أولوية الدرس العقل في مسألة الإيمان وهو من الأهمية بمكان في كل العصور والأزمنة، لاسيما العصر الحالي وقد انتشرت فيه موجات الإلحاد حتى في البلاد الإسلامية وبدأت تتغلغل الدعوات إليها، وما كان لهذه الدعوات أن تجد قبولًا لها لو انبنى التعامل مع القرآن على أساس من التدبر، وانبنى الإيمان على الدرس العقلي الذي أرساه القرآن ذاته.
وفي ضوء ذلك يمكن للمتدبر أن يصل إلى قواعد متعددة في تأسيس الإيمان على أساس عقلي، وأدلة وحجج وبراهين لها قوة الثبات والمواجهة الفكرية والنفسية التي يمكن أن تواجه المسلم في ظل ثورة الاتصالات والغزو الفكري والعقدي الذي تتعرض له أمتنا خلال قرن أو يزيد. وكذلك ظلال الإيمان على واقع الحياة الفردية والجماعية بل والإنسانية أيضًا.
وبصفة عامة لا تكاد تخلو سورة من القرآن إلا وهي متضمنة لهذا المجال ( التصور الإلهي) لأن فكرة التوحيد فكرة ضاربة في جميع التصورات القرآنية: الاجتماعية والسياسية والاقتصادية والجمالية.
2 – مجال التاريخ: يشمل هذا المجال البحث عن رؤية المسلم لدوره في التاريخ، ومكانته التي حددها القرآن، ومن ثم يتشكل وعيه التاريخي وفقًا لهذا الدور، وعلى سبيل المثال، يشير القرآن إلى تلك المكانة، وهذا الدور في قوله تعالى: {هُوَ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا} [هود: 61].وهذا المعنى يجب أن يلتقطه المسلم خلال قراءته التدبرية في القرآن، باعتباره مسؤولًا عن أحداث التاريخ وحركتها، ومن ثم ينبذ السلبية التي تحكم حركة الأمة اليوم، والقدرية المذمومة في تلك الحالة.
وهذه هي المسؤولية الفردية والجماعية في التغيير التي يهدف إليها القرآن { وَكُلَّ إِنْسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَائِرَهُ فِي عُنُقِهِ}[الإسراء : 13 ] { إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ }[ الرعد:11]،
ولعل من المعاني التي يجب أن يصل إليها المتدبر وأن تشكل له تصورًا أساسيًا حول التاريخ هي أن الإسلام أعطى اعتبارًا كبيرًا للحياة – ولم يرفضها كما فعلت المسيحية على سبيل المثال -لأنها مسرح حياة المسلم التي يمارس فيها فعل الاستخلاف. ويكفي أن الله تعالى يساوى بين منع إعانة المسكين على الحياة وبين التكذيب بالدين:{ أَرَأَيْتَ الَّذِي يُكَذِّبُ بِالدِّينِ فَذَٰلِكَ الَّذِي يَدُعُّ الْيَتِيمَ وَلَا يَحُضُّ عَلَىٰ طَعَامِ الْمِسْكِينِ فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلَاتِهِمْ سَاهُونَ الَّذِينَ هُمْ يُرَاءُونَ وَيَمْنَعُونَ الْمَاعُونَ }[الماعون: 1 – 7]. كذلك من المهم في مجال الوعي التاريخي الوقوف على مفهومي التداول والتدافع القرآنيين اللذان يشكلان للإنسان المسلم طبيعة تصوره عن الصراعات الموجودة، وطبيعته مركزيته الحضارية فيها.
3 – مجال المجتمع: (نظام القيم)..مسار التدبر في هذا المجال هو البحث عن القيم التي تحكم حركة المجتمع وتطوره، لاسيما وأن المجتمع هو مجال تحقيق المشيئة الإلهية، وتحقيق رسالة الإنسان المسلم، من خلال تلك المشيئة. ومن ثم فالمتدبر هنا مطالب بالتأمل في القرآن وأبعاده الاجتماعية، وما يتصل بالنظر إلى المجتمع وطبيعة العلاقات فيه. وشبكة التواصل ومداها ومحتواها، لا سيما وأن الشطر الأعظم من أحكام الشريعة الإسلامية تتعلق بالنظام الاجتماعي. وعلاوة على ذلك، فإن الجوانب الشخصية من الشريعة الخاصة بشعائر العبادات، وبالشعائر ذاتها، تكتسب في الإسلام بعدًا اجتماعيًا من الخطورة بمكان، إلى حد أن إضعافه أو إنكاره، يمثل تعطيلًا لها بحكم طبيعتها. والبعد الاجتماعي جلي في بعض الشعائر مثل الحج والزكاة، بحكم طبيعة تلك الشعائر وأثرها. وفي حين قد يكون البعد الاجتماعي أقل وضوحًا في شعائر أخرى، مثل الصلاة والصوم، فإن المسلمين مجمعون على التسليم بأن الصلاة التي لا تؤدي بصاحبها إلى هجر الشر، صلاة غير مقبولة عند الله، والحج الذي لا يحقق منافع اجتماعية للحاج غير كامل. كما يمكن – أيضًا- أن يتأمل المتدبر مفاهيم: المساواة، والعدالة، والحرية، والشورى باعتبارها مفاهيم أساسية في بناء المجتمع الإسلامي أقرها الوحي وحفز عليها.