الكلية الرابعة : منهجية “الإصلاح” وقضاياه

الدعوة الأساسية لمبلغي الوحي / الرسالة وأهل النبوة هي الدعوة إلى الإصلاح، {إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الْإِصْلَاحَ مَا اسْتَطَعْتُ  وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ  عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ} [هود: 88]، والقرآن بالأساس هو كتاب هداية للبشر جميعًا ليخرجهم من الظلمات إلى النور، ومن ثم فالتعرض للقرآن وتدبره، هو تعرض لتجارب في الإصلاح والهداية، أبطالها – لو جاز القول- هم الأنبياء والرسل، وأولياء الله، والبشر الصالحين، والبحث في هذا المجال ( مجال الإصلاح وقضاياه) يجعلنا نتوقف أمام عدة قضايا أهمها: منهجية الإصلاح، وموضوع الإصلاح، وخصائص القائم بالإصلاح وصفاته، وخصائص عملية الإصلاح ذاتها. ونشير فيما يلي إلى بعض الأفكار التي يمكن أن يتأملها المتدبر في هذه الكلية الخامسة.

1 – منهجية الإصلاح : تتعدد منهجية الإصلاح في القرآن ويمكن أن نرصد مسارين أساسيين هما: مسار الإصلاح الفردي والذي يتمحور حول إصلاح الفرد وتهيئته لأداء وظيفته الكبرى التي أعد من أجلها في الكون وهي العبادة بمفهومها الكوني العام {وَمَا خَلَقْتُالْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} [ الذاريات: 56 ] والتغير المطلوب هنا هو التغير الذاتي الذي يؤكده الوحي كسبيل لبناء الشخصية الإنسانية من أجل صلاحيتها لأداء هذه المهمة الكونية الإصلاحية { إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّىٰ يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ} [ الرعد: 11].

 والمنهجية الثانية: هي منهجية الإصلاح الجماعي، وهي منهجية الأنبياء والرسل والصالحين في أقوامهم كما في حالة شعيب عليه السلام {وَإِلَىٰ مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْبًا  قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُم مِّنْ إِلَٰهٍ غَيْرُهُ  وَلَا تَنقُصُوا الْمِكْيَالَ وَالْمِيزَانَ  إِنِّي أَرَاكُم بِخَيْرٍ وَإِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ مُّحِيطٍ (84) وَيَا قَوْمِ أَوْفُوا الْمِكْيَالَ وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ  وَلَا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ وَلَا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ (85)بَقِيَّتُ اللَّهِ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ  وَمَا أَنَا عَلَيْكُم بِحَفِيظٍ (86) قَالُوا يَا شُعَيْبُ أَصَلَاتُكَ تَأْمُرُكَ أَن نَّتْرُكَ مَا يَعْبُدُ آبَاؤُنَا أَوْ أَن نَّفْعَلَ فِي أَمْوَالِنَا مَا نَشَاءُ  إِنَّكَ لَأَنتَ الْحَلِيمُ الرَّشِيدُ (87) قَالَ يَا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِن كُنتُ عَلَىٰ بَيِّنَةٍ مِّن رَّبِّي وَرَزَقَنِي مِنْهُ رِزْقًا حَسَنًا  وَمَا أُرِيدُ أَنْ أُخَالِفَكُمْ إِلَىٰ مَا أَنْهَاكُمْ عَنْهُ  إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الْإِصْلَاحَ مَا اسْتَطَعْتُ  وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ  عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ (88) } [ هود].

2 – قضايا الإصلاح: تنوعت قضايا الإصلاح في القرآن الكريم، ولعل من أبرزها قضية إصلاح وضع المرأة، وإصلاح ما كانت تعاني منه المرأة ومن النظرة الدونية والمتدنية في الجاهلية، فجاء الإسلام مبرزًا مكانتها الإنسانية ومساواتها مع الرجل، وأقر القرآن القواعد التالية لإصلاح وضع المرأة في الجاهلية وبناء وضع إنساني جديد لها:

القاعدة الأولى : المساواة

فالمساواة من القواعد التي أقرها الإسلام للمرأة مع الرجل، وتشمل هذه المساواة مجالات الحياة الدنيا والآخرة، وهي كما يلي :

مساواة في الخلق

{يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُواْ رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاء وَاتَّقُواْ اللّهَ الَّذِي تَسَاءلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً} [النساء : 1]، {وَأَنَّهُ خَلَقَ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالْأُنثَى} [النجم : 45]، {وَمَا خَلَقَ الذَّكَرَ وَالْأُنثَى} [الليل : 3].

مساواة في الجزاء والعمل

{فَاسْتَجَابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ أَنِّي لاَ أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مِّنكُم مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى بَعْضُكُم مِّن بَعْضٍ } [آل عمران : 195].

{مَنْ عَمِلَ صَالِحاً مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُم بِأَحْسَنِ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ} [النحل : 97].

{مَنْ عَمِلَ سَيِّئَةً فَلَا يُجْزَى إِلَّا مِثْلَهَا وَمَنْ عَمِلَ صَالِحاً مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُوْلَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ يُرْزَقُونَ فِيهَا بِغَيْرِ حِسَابٍ} [غافر : 40]

مساواة في العبادات

{ِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ وَالْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَالْقَانِتِينَ وَالْقَانِتَاتِ وَالصَّادِقِينَ وَالصَّادِقَاتِ وَالصَّابِرِينَ وَالصَّابِرَاتِ وَالْخَاشِعِينَ وَالْخَاشِعَاتِ وَالْمُتَصَدِّقِينَ وَالْمُتَصَدِّقَاتِ وَالصَّائِمِينَ وَالصَّائِمَاتِ وَالْحَافِظِينَ فُرُوجَهُمْ وَالْحَافِظَاتِ وَالذَّاكِرِينَ اللَّهَ كَثِيراً وَالذَّاكِرَاتِ أَعَدَّ اللَّهُ لَهُم مَّغْفِرَةً وَأَجْراً عَظِيماً} [الأحزاب : 35].

مساواة في التكاليف الاجتماعية

{وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاَةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَيُطِيعُونَ اللّهَ وَرَسُولَهُ أُوْلَـئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللّهُ إِنَّ اللّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} [التوبة : 71].

 القاعدة الثانية – التمايز والتكامل بين دور المرأة والرجل

يرى الإسلام أن المرأة والرجل خلقا لتحقيق وظيفتين مختلفتين ولكنهما متكاملتان. يقول الله تعالى : (وَلَا تَتَمَنَّوْا مَا فَضَّلَ اللَّهُ بِهِ بَعْضَكُمْ عَلَىٰ بَعْضٍ لِّلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِّمَّا اكْتَسَبُوا ۖ وَلِلنِّسَاءِ نَصِيبٌ مِّمَّا اكْتَسَبْنَ ۚ وَاسْأَلُوا اللَّهَ مِن فَضْلِهِ ۗ)  [النساء : 32].

فوظائف الأمومة المتمثلة في الرعاية المنزلية وتربية الأطفال، ووظائف الأبوة المتمثلة في حماية البيت وتزويده بمتطلبات المعيشة والقوامة العامة، استدعت اختلاف الرجل عن المرأة في البنية الجسدية والنفسية والعاطفية. كما اهتم بتشريعاتها وأحوالها حال كونها كزوجة أو مطلقة أو أم وهكذا..وهو ما يمكن للمتدبر تأمله والنظر فيه عبر آيات القرآن .

كما أشار القرآن إلى قضايا الإصلاح الاجتماعي بصفة عامة والسياسي بصفة خاصة  بدعم مبدأ الشورى { وَأَمْرُهُمْ شُورَىٰ بَيْنَهُمْ } [ الشورى: 38] وتخصيص سورة كاملة تحمل اسم هذا المبدأ.

وكذلك الإصلاح الاقتصادي بتحريم الربا، وتحريم التطفيف في الميزان، وإقرار الزكاة والصدقات والتكافل وجدارة العمل وكلها عناصر أساسية لبناء اقتصاد المجتمعات.

3- خصائص المصلح وصفاته:

أهم هذه الصفات التي أشار إليها القرآن والتي ينبغي تتبعها في القرآن هي ” القدوة”، قدوة المصلح ذاته {وَمَا أُرِيدُ أَنْ أُخَالِفَكُمْ إِلَىٰ مَا أَنْهَاكُمْ عَنْهُ } [ هود: 88].

والصبر والجلد على أمر الدعوة وتحمل مشاقتها { وَجَاءَ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ رَجُلٌ يَسْعَىٰ قَالَ يَا قَوْمِ اتَّبِعُوا الْمُرْسَلِينَ} [ يس:20].

وقول الحق والتضحية في سبيله { وَقَالَ رَجُلٌ مُّؤْمِنٌ مِّنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَكْتُمُ إِيمَانَهُ أَتَقْتُلُونَ رَجُلًا أَن يَقُولَ رَبِّيَ اللَّهُ} [ غافر:28].

كذلك الاحتكام إلى الدليل العقلي والمشاهدات والتجربة، وقصة سيدنا إبراهيم زاخرة بهذه المعاني الشاملة للأدوات العلمية التي يجب على المصلح أن يتسلح بها في دعوته.

ما نود التأكيد عليه أن ما أوردناه في مقدمات هذه المنهجية يحمل معنى المقدمات، معنى ومبنى، وأن على القارئ المتأمل المتدبر للقرآن أن يستنطق القرآن بقدر ما يستطيع استنطاقه بكل شؤون الحياة الدنيا، ليستقيم بها حال الفرد والأمة، والمسلم في ذلك بحاجة إلى أدوات علمية معاونة له في هذا التدبر منها ما نشير إليه من مصادر على سبيل المثال:

1 – طه العلواني: أفلا يتدبرون القرآن، القاهرة، دار السلام، 2010.

2 – طه العلواني: الوحدة البنائية للقرآن المجيد، القاهرة، مكتبة الشروق الدولية، 2008.

3 – إسماعيل الفاروقي: التوحيد ومضامينه في الفكر والحياة،ترجمة: السيد عمر، عمان، المعهد العالمي للفكر الإسلامي، 2016.

4 – البقاعي الشافعي: مصاعد النظر للإشراف على مقاصد السور، الرياض مكتبة المعارف.

5 – عبدالله دراز : النبأ العظيم نظرات جديدة في القرآن الكريم، القاهرة، دار القلم،ط10، 2008.

6 – عبدالله دراز: مدخل إلى القرآن الكريم، القاهرة، دار القلم، ط5، 2003.

7 – السيد عمر: خارطة المفاهيم القرآنية، دمشق ، دار الفكر، 2009.

8 – السيد عمر: بناء المفاهيم ودورها في نهضة الأمة، الرياض، دار الهدى، 2014.

9 – طه العلواني: الجمع بين القراءتين قراءة الوحي وقراءة الكون، القاهرة، مكتبة الشروق الدولية، ط2، 2008.

10 – وليد منير: النص القرآني من الجملة إلى العالم، المعهد العالمي للفكر الإسلامي،1997.

11 – الطبرسي: مجمع البيان لعلوم القرآن، القاهرة، 1958.

12 – وهبة الزحيلي: التفسير الوجيز، دمشق، دار الفكر، 1994.

13 – جلال الدين السيوطي: ترتيب سور القرآن، القاهرة، مكتبة الهلال، 1986.

14 – فريد الأنصاري: سلسلة مجالس القرآن، القاهرة، دار السلام.