تلقى الغربُ صنوف العلوم المختلفة من العالم الإسلامي، ثم قنّنوا للعلم ومناهجه، وصدّروه في ثوبه الجديد إلى الشرق. حرّم علماء المسلمين هذا النظام التعليمي لارتباطه بالاستعمار ورجالاته، ولمخالفته النظام التعليمي القائم في المساجد والحلقات وطرق الإجازات المعهودة.
لكنهم في النهاية أجازوها بشروط، ثم ما لبثت تلك الشروط أن اضمحلت بمرور الأيام، وصار العلم لا يرى إلا في النظام الغربي الحديث، بل دعا محمد عبده وطـــه حسين وغيرهما إلى ضرورة إصلاح التعليم، لما رأوا المنجزات الغربية، “وليس من رأى كمن سمع”؛ وراحوا يصِفون الأزهر والزيتونة وكبريات المعاهد بوصف لا يرضى به الغيور. تلك خلفية تحوّل العلم الشرعي من الجامع إلى الجامعة، ويبقى سجال المنهج المناسب للدراسات الإسلامية مفتوحاً.
كيف تكتب جديدا في علوم معارف الوحي وقد اكتملت الشريعة؟!
تفرض طبيعة الفن منهج الكتابة، بجانب عامل المجال والميول. وعمدة العلوم الإسلامية الوحي فالاتباع: “إِنْ أَتَّبِعُ إِلاَّ مَا يُوحَى إِلَيَّ” وهدفها البيان والإرشاد “لتبين للناس” “لتخرج الناس من الظلمات إلى النور”. وقد ألّف علماء المسلمين على مرّ العصور ما يخدم الوحيَيْن، بما يلبي دافع الإقدام على التأليف ويشبع العامل الجديد، وسميت هذه العلوم بالعلوم الإسلامية، أو النقلية، أو الشرعية، أو معارف الوحي، فامتاز بــأنه “رباني” الأصل و”إنساني” الخدمة.
العلوم الإسلامية مكتملة، “اليوم أكملت لكم دينكم” “ألا هل بلغت؟!” “عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين” “تركت فيكم ما إن تمسكتم به لن تضلوا” فالفلاح بقدر التمسك بالتراث؛ ويؤيده: “قل ما كنت بدعا من الرسل” “ومصدقا لما بين يديه. فلم يُطلب كتابة جديد من متخصص في هذا الفن لتلبية متطلبات التخرج، وما المقصود بالجديد؟! علما أن “كل بدعة ضلالة” وقد يُتّهم هذا الفن وأهله بــ “الرجعية” والمحافظة” وأنه أقل التخصصات نموّا وإضافة جديد. ولعل هذه النتيجة غير سليمة كما سنرى!
ما الجديد الذي يتصدى له الدراسات الإسلامية؟
لا يحمل إنسان القلم للكتابة إلا لمعالجة قضية جديدة، وجديد الدراسات الإسلامية مرتبط بالزمان والمكان وتطورهما. قد يظنّ أنه (ليس بالإمكان أحسن مما كان) و(ما ترك الأولون للآخرين شيئاً) لكن تبقى حقيقة “كم ترك الأولون للآخرين”. وهذا سر “ثم أرسلنا رسلنا تترا” لتأكيد المبادئ العامة القديمة ومعالجة الخلل المتسرب إليها بتمدد الزمن، والتصدي لما استجدّ (ولأحلّ لكم بعض الذي حرّم عليكم). فالتجديد في الدراسات الإسلامية منوط بإشكالية المجتمع؛ لإصلاحها:
– إشكالية المجتمع في عصر موسى عليه السلام هي الاستعباد والاستبداد والاستغلال، فانصبّ الإصلاح لمعالجتها فأصبح موضوعا جديدا رغم قدمه!
– إشكالية المجتمع في عصر إبراهيم عليه السلام هي تقديس التراث والتقليد، فاقتضى الإصلاح تنوير العقول!
– إشكالية المجتمع في عصر نوح عليه السلام هي الطبقية والكبرياء، فركز الإصلاح على الإيمان والمساواة.
– إشكالية المجتمع في عصر هود وصالح عليهما السلام هي الاغترار بالحضارة المادية، والجبروتية، فلزم الإصلاح التذكير بنعم الله وضعف الإنسان -إشكالية المجتمع في عصر لوط عليه السلام هي الانحراف الفطري، فاقتضى الإصلاح قلع ذلك!
– إشكالية المجتمع في عصر شعيب عليه السلام هي الغش والخداع وتطفيف الكيل، فلزم الدعوة إلى العدالة، وإحياء الضمير!
– إشكالية المجتمع في عصر عيسى عليه السلام هي العنصرية والعرقية، فلزم الإصلاح بأن النجاة في قبول الحق والإيمان لا العرق والنسب.
ووجود الإشكالية هو سرّ التأليف في الفكر الإسلامي، فجمع القرآن زمن أبي بكر نابعٌ من إشكالية كثرة وفاة الحفاظ، وإشكالية الجمع الثاني منبثق من فتنة اختلاف الناس في القراءة عصر عثمان، وتدوين الحديث والسؤال عن الرجال ناشئ من شيوع الافتراء على الرسول ﷺ لإثبات الذات وتضليل الغير، وتدوين أصول الفقه نابع من فساد ملكة الاستدلال، وتدوين علوم اللغة نابع من توسع دائرة الإسلام، وكتابة المقاصد منبثقة من العكوف الحرفي على النص وتجاهل ما يسعى النص إلى تحقيقه، إوشكالية الترويج لفكر ديني معين عامل انبثاق “نظرية الدين والتدين” وهكذا دواليك!
فالتجديد في الدراسات الإسلامية منوط بالإشكالية القائمة في المجتمع، دون تجاهل طبيعة الفن وما يهدف إليه، وإلا فأنت تكتب في مجال آخر، أو تنفخ في رماد.
ما مناهج البحث في العلوم الإسلامية ؟
لقد حصر القرآن الكريم مهمة الأنبياء في التبليغ، واعتبر إرسالهم رحمة ونعمة، لئلا يتشتت الإنسان ويضيع، كما حدّد القرآن منهج الأنبياء وورثتهم من العلماء. يكمن المنهج فيما يعرف اليوم بالمنهج الوصفي، والتحليلي، والمقارن، والاستقرائي، والنقدي، وكل ما يسهم في البيان الإقناع وإعمال الفكر؛ لأن الفنّ من العلوم العقلية، يذكر الآتي على سبيل المثال لا الحصر:
– المنهج الوصفي: “لتبين للناس” “بلغ ما أنزل إليك من ربك”
– المقارن: “أفمن يخلق كمن لا يخلق”. “إن مثل عيسى عند الله كمثل آدم”
– الجدلي: “وجادلهم بالتي هي أحسن، “ألم تر إلى الذي حاج إبراهيم في ربه”.
– الاستدلالي: “أم خلقوا من غير شيء أم هم الخالقون” “أفلا ينظرون إلى الإبل كيف خلقت.” وغيرها..!
أخيرا، لعله من التغريب أو الإجحاف فرض مناهج علوم أخرى: كالمنهج التجريبي أو منهج علم الاجتماع: المسحي الميداني، أو التربية أو علم النفس في دراسته للعينات، أو العلوم المالية النفعية؛ على العلوم الإسلامية، بحجة الرقي والتجديد ومواكبة الواقع، وتقديم جديد، فالدراسات الإسلامية من العلوم العقلية والنظرية التي تتبنّى منهج: “إن كنت ناقلا فالصحة، أو مدّعيا فالدليل” وإن خريجي العلوم الإسلامية يتأسون بالنبي عليه السلام في الهدف والمنهج، ومثلهم أبو حنفية، ومالك، والشافعي وأحمد والغزالي وابن تيمية والشاطبي وغيرهم من أعلام الدراسات الإسلامية، ويتصدون للمصطلحات والمفاهيم الجديدة، ويقابلون الفكر بالفكر، ويقدمون حلولا للقضايا المستجدة ويحلّون أزمة الأمة، مستفيدين من نتائج الدراسات التربوية والنفسية والتجريبية وغيرها.