إن من دوافع تجديد الدين بشكل عام، وتجديد العلوم الإسلامية بشكل خاص، وتجديد علم أصول الفقه بشكل أدق خصوصية، الانطلاقَ من منطق أزمة، يراد كشفها من جهة أولى، وتحليل أسبابها من جهة ثانية، بغية الوصول إلى اقتراح الحلول الكفيلة لتجاوز هذه الأزمة من جهة ثالثة.

تبعا لذلك، فإن هذا الحدث التجديدي الإسلامي بجميع مستوياته السابقة، لا ينبغي أن يخرج عن اهتمامات الأمة الإسلامية وهمومها، لما صار من المعلوم بالشرع، والعقل، والواقع، ضرورةً أنها تعيش أزمة حضارية خطيرة تتمثل تجلياتها في مستويين اثنين بارزين:

– فأما الأول منهما، فهو بعد المسلمين أفرادٍ، وجماعات، ومؤسسات، وأمة ككل، عن منهج الوحي تصورا سليما، وتطبيقا صحيحا؛

– وأما المستوى الثاني منهما، فهو نتيجة للعامل الأول حتمية، ويتجلى في وضع أمتنا المتردي مقارنة مع غيرها من دول الأرض على كافة المجالات، خاصة ما يتعلق بالحياة العامة منها: سياسيا، واقتصاديا، واجتماعيا، وحضاريا بشكل عام.

وفي الإطار ذاته، توجهت سهام النقد إلى التراث العلمي الإسلامي عموما، وإلى الميراث الأصولي تنظيرا، وإلى الإرث الفقهي تطبيقا، بسبب الاهتمام المقصور على فقه الأفراد (كفقه العبادات المحضة، والمعاملات الفردية، وقضايا الأحوال الشخصية…)، على حساب فقه الحياة العامة للأمة (بإبعاده السياسية، والاقتصادية، والاجتماعية )[1]، مما لم يأخذ نصيبه الكافي من البحث والدراسة.

 وإذا كان مقصد تجاوز هذه الأزمة الحضارية الحادة للأمة، يشكل دافعا رئيسيا للحدث التجديدي الإسلامي، فإن مجالات التجديد المطلوب، سواء في بعده الديني منه، أو في أفقه العلمي والأصولي كذلك، تظل صعبة المنال بعيدة التحقيق في الواقع الفردي والجماعي للأمة، ما لم يصاحب ذلك تجديد مرافق، في ارتباطه بالعقل الإسلامي نفسه، من حيث تأهيل قدراته الاستيعابية وتطوير إمكانياته الفكرية، لمبرر واضح يتجلى في أن التجديد المطلوب إنما أداته ووسيلته العقل الإسلامي ذاته.

تبعا لذلك، يمكن رصد مكامن انخرط العقل الإسلامي في سلسلة التجديد المطلوب لجميع المجالات التي هي محل للحدث التجديدي عينه، من خلال تبيان ملامح تأثير التجديد الأصولي في الاجتهاد العقلي، وتأثير ذلك على الانبعاث الحقيقي لهذه الأمة من جديد، وذلك بالتأكيد على أن التجديد الأصولي يدفع العقل الإسلامي نحو الاجتهاد المكثف والعمل المتواصل.

وبيان ذلك يظهر من خلال ما صار معلوما من تاريخ التشريع الإسلامي ضرورةً، من أن العقل الأصولي قد مرّ بحقب مختلفة، تأتي مرحلة منتصف القرن الرابع الهجري من أهمها، من حيث كونها  محطة شهدت دعوات متكررة من علماء المذاهب الفقهية آنذاك، من أجل إغلاق باب الاجتهاد الفقهي، معتبرين أنه لا يجوز لأحد – بعد هذا القرن- الاستقلال بالاستنباط المباشر من نصوص القرآن والسنة، ليصير الطريق الوحيد لمعرفة مراد الله تعالى في أفعال المكلفين، هو اتباع أحد أئمة المذاهب المعتبرة، وتقليد آراء أبي حنيفة، أو مالك، أو الشافعي، أو أحمد، رحم الله الجميع.

ومنذ ذلك التاريخ، وحتى نهاية القرن التاسع عشر الميلادي، عاش المسلمون في ظلمات الجمود والتقليد. فكان لهذه الدعوات آثار خطيرة مست الكيان الحضاري لهذه الأمة بالشلل والانحصار، كما تأثر الجسد العلمي الإسلامي بالتوقف والانحباس، نظرا لأن علماء عصرئذ حصروا أنفسهم في دوائر التقليد الضيقة، لا يتجاوزون محيطها إلى سعة الاستنباط الواسع من الكتاب والسنة.

ومن آثار التقليد والجمود التي مست الجانب الفقهي والأصولي كذلك، ما له ارتباط بقلب الترتيب الأصولي الطبيعي لأدلة الفقه رأسا على عقب، بحيث يتم الرجوع أولا إلى كتب الفقه المتأخرة (من شروح المختصرات الفقهية، وآراء الحواشي عليها)، ولا يتم يتجاوز ذلك إلا إلى آراء أئمة المذاهب الأربعة، في بعد تام عن الرجوع إلى نصوص الوحي، إلا في مواطن الخلاف والانتصار للمذهب.

وتجاوزا لمظاهر الجمود والتقليد هذه، تعالت دعوات الفكر الإسلامي المعاصر إلى تجديد علم أصول الفقه، مستلهمين المنهج من سلف الأمة من الخلفاء الراشدين، وفقهاء الصحابة، وعلماء التابعين، وصولا إلى أئمة المذاهب المعتبرين، ممن اجتمعت كلمتهم على تقديم كتاب الله تبارك وتعالى، ثم سنة المصطفى ، ثم إجماع العلماء، ثم القياس، وكذا باقي الأدلة التبعية.

وإذا كان القول بإغلاق باب الاجتهاد لم يؤيده نص من كتاب، ولا من سنة، ولا من نظر معقول، إلا ما قيل من سد الذرائع أمام فقهاء السلاطين المتكسبين باجتهاداتهم الفقهية، موافقة لأهواء السلطة السياسية وقتئذ، فإن هذا المسلك لم يعد له مصوغ علمي سليم، ولا معرفي صحيح، ولا تاريخي مستقرأ[2].

وهذا ما يؤكد عدم جدوى الدعوة إلى إغلاق باب الاجتهاد، لانتهاء صلاحيتها، خاصة إذا انضافت إليها تأثيراتها الخطيرة التي مست الحياة العلمية والحضارية للأمة بشكل مباشر، متجلية تأثيراتها في مستويين اثنين متكاملين؛ يتجلى أحدهما من خلال ضعف ثقة علماء الإسلام في أنفسهم، وانحباس علمهم في زاوية حادة متعلقة بفقه الأشخاص؛ كالعبادات المحضة، والأحوال الشخصية، والمعاملات الفردية… .

وأما المستوى الثاني منهما، فإنه نتيجة حتمية للسبب الأول، من حيث ما أصاب الكيان الحضاري والثقافي لهذه الأمة بشكل أعم؛ وبيان ذلك يظهر من خلال اعتبار قضية الانحباس الفقهي الإسلامي في الزوايا الفردية الضيقة الناتجة عن الدعوة إلى إغلاق باب الاجتهاد، قد تحولت إلى ظاهرة خطيرة، بحكم عدم قدرتها تأهيل الاجتهاد الفقهي الإسلامي، لمواجهة القضايا الكثيرة والمتنوعة التي تلفظها الحياة الإسلامية العامة: سياسيا، واقتصاديا، واجتماعيا، وحضاريا بشكل أعم.

وستظهر خطورة هذه الظاهرة في أنه -لسد الحاجات التشريعية والقانونية المتجددة للحياة الإسلامية العامة، وأمام هذا الفقه المشلول عن الحركة الاجتهادية، بفعل غلبة التقليد الفقهي وفشو الجمود المذهبي- فقد تم استيراد المنظومات القانونية والتشريعية، والمدونات التنظيمية (في المجال السياسي، والاقتصادي، والمالي، والاجتماعي، والثقافي، والتربوي التعليمي…) بديلة عن شرع الله، وإن اختلفت مع المسلمين فلسفةً، وأصولا، وغايات ومقاصد، وخصائص ومميزات.

كل ذلك ساهم في زعزعة ثقة المسلمين بدينهم من جهة، وفي بناء عقلية إسلامية ضعيفةٍ ثقتُها بحاكمية الشريعة الإسلامية على واقع الناس ومعاشهم من جهة ثانية.

على أن هذه الدعوات المتكررة إلى إغلاق باب الاجتهاد لم تنحصر تداعياتها في مجال الفقه الإسلامي فقط، بل لقد كانت سببا رئيسيا في سريان الجمود والتقليد في هذا العلم أصالة، وفي غيره من العلوم الإسلامية (كعلم الأصول، والحديث، والنحو، واللغة…) بالتبع.

ولم تقف الآثار السلبية الناتجة عن الدعوة إلى إغلاق باب الاجتهاد عند هذا الحد، في ارتباطها بالعلوم الإسلامية والعلوم الخادمة لها كعلوم اللغة العربية مثلا، بل لقد طالت تأثيرات هذه الدعوات -أيضا- العقل الإسلامي نفسه، والذي أُعطي إجازة طويلة الأمد – امتدت قرونا طويلة- عن العمل والنشاط، حيث «فقد القدرة على الإبداع والاجتهاد واستئناف البناء على الاجتهاد استيعابا وتجاوزا»[3].

وأمام هذه الوضعية الفكرية المتدهورة، والتي تشكل مانعا حقيقيا أمام الانبعاث الحضاري المتجدد للأمة الإسلامية، فقد أصبح من غير المقبول شرعا، وعقلا، وواقعا، أن يظل العقل الإسلامي في نوم عميق، والأدمغة غير الإسلامية تجد وتجتهد ليل نهار من أجل خدمة الحضارة والثقافة اللتين تحتضنها، وربما مس الإنسانيةَ شيءٌ من جهودها ونتائج فكرها، خاصة وأن «الأصل في العقل المسلم أن يكون سابقا لإبداع المعارف وإنتاجها وليس فقط مجرد الانفتاح والتعرف عليها»[4].

لذلك، ف«لابد للأجيال المتعاقبة أن تحقق كسبها الذاتي من الوحي[5]، لا أن تبقى عالة على كسب غيرها»[6]، تحقيقا لراهنية أمتنا أفضل، ولواقعية أحسن، ولمستقبل أجود.

ولبلوغ هذا الهدف، فإن تجديد علم أصول الفقه مضطر إلى تحمل مسؤوليته العلمية وأمانته الحضارية، المتمثلة في حض العقل الإسلامي على الاجتهاد المثمر، انطلاقا من دافعين اثنين:

– أما الأول، فيتجلى في ربط الأسباب بمسبباتها؛ فإذا كان إغلاق باب الاجتهاد من أسباب جمود العقل الإسلامي وتكاسله، فإن مطلب التجديد الأصولي يشكل سببا مباشرا في إعادة هذا العقل إلى وضعيته الاجتهادية والإنتاجية الطبيعية واللائقة به؛

– وأما الثاني، فمرتبط ببنية علم أصول الفقه الذاتية، والتي تشكل بابا لرياضة عقلية فقهية[7] بامتياز، وذلك من خلال أمرين اثنين: أما أحدهما، فيتجلى في المكانة المتميزة التي بوأها هذا العلم للعقل الإنساني، باعتباره أداة «لتفسير النصوص، والبحث في سبل تطبيقها وربط الجزئيات، بالكليات، واستنباط العلل لما لم يعلل، والحكم فيما لم ينص الشارع على حكمه، ونحو ذلك مما يمكن تحديده وتفصيله»[8].

وأما ثانيهما، فيتجلى من خلال المعجم المصطلحي الذي يضطر طالب هذا العلم للتمكن من معرفته بغية استيعاب مسائل هذا الفن؛ و«يمكن أن نحصي أكثر من ثلاثمائة مصطلح علمي مثل: الخاص، والعام، والمطلق، والمقيد، والناسخ والمنسوخ، والكتاب والسنة، والإجماع، والقياس… وهكذا.

ولكي نصل إلى الفهم العميق لهذه الثلاثمائة كلمة فإننا نحتاج إلى نحو خمسمائة مصطلح آخر من علوم أخرى خادمة، كعلم التوحيد وعلم المنطق، وعلم الحكمة العالي التي يقال عنها الفلسفة، وعلم الفقه وعلم اللغة. فالأصولي المتمكن يكون ملما بالمصطلحات الثمانمائة الأصولية الأساسية والخادمة لها»[9].

فيا عجبا، كيف استطاع العقل الإسلامي فهم هذا العدد الكبير من المصطلحات واستيعابها، في الوقت الذي ظل فيه عالة على الكسب الزماني (بإغلاق باب الاجتهاد، واتكاله على جهود الأجداد والأسلاف)، والمكاني لغيره (باستهلاك الوافد الغربي، ودون تفكير في محاولة الاستقلال الذاتي عنه)؟!


[1] الترابي، حسن، تجديد أصول الفقه الإسلامي، دار الجيل (بيروت) ومكتبة الفكر (الخرطوم)، ط 1، 1400 هـ – 1980 م، ص 14 – 15، بتصرف.

[2] انظر لهذا الغرض: الخال، سمير، إشكال تجديد علم أصول الفقه: طه جابر العلواني نموذجا، دار اليمامة (دمشق/ بيروت) والدار العالمية للكتاب (الدار البيضاء)، ط1، 2017 م، ص 164 – 166.

[3] شبار، سعيد، «العقل المسلم فقد قدرة الإبداع والاجتهاد»، حاوره يوسف محمد بناصر، جريدة العرب القطرية، ليوم 15-06-2008م.

[4] المرجع السابق نفسه.

[5] بداءة، وإلا فهذه الأجيال مطالبة كذلك بتحقيق كسبها أيضا من العلوم الكونية، والمعارف الإنسانية والاجتماعية كذلك.

[6] شبار، سعيد، «لابد للأجيال المتعاقبة أن تحقق كسبها الذاتي من الوحي»، حاوره عبدلاوي لخلافة، جريدة التجديد المغربية، ليوم 22-11-2004م.

[7] أبو زهرة، محمد، أصول الفقه، دار الفكر العربي، مصر، ص 18.

[8] العلواني، طه جابر، أصول الفقه: منهج بحث ومعرفة، سلسلة «أبحاث علمية»، العدد1، منشورات المعهد العالمي للفكر الإسلامي، فيرجينيا، الولايات المتحدة الأمريكية، ط 2، 1415 هـ – 1995 م، ص 78.

[9] جمعة، علي، تجديد أصول الفقه، منشورات المؤتمر العام الواحد والعشرين للمجلس الأعلى للشؤون الإسلامية، ص13.