إن جئت تتأمل قوله تعالى (وَالسَّمَاءَ بَنَيْنَاهَا بِأَيْدٍ وَإِنَّا لَمُوسِعُونَ) ستشعر من فورك بأن السماء أو كل ما هو فوقنا، إنما هو – بحسب كتب التفسير – عبارة عن بناء محكم تم بناؤه وفق قدرة وقوة مطلقة. وبالطبع لا يملك أحد تلك القوة المطلقة والقدرة على بناء مثل السماوات والأرض والكون كله وما فيه، إلا الله الخالق، بديع السماوات والأرض. ولا يقول بغير ذلك إلا من ليس في قلبه مثقال ذرة من إيمان.
منذ أن بدأ الإنسان يرفع بصره نحو السماء الدنيا، ويرى النجوم والكواكب والأجرام الأخرى، لاسيما بالليل، وإلى وقت قريب، كان يظن أن سواد السماء ليلاً، إنما دليل على فراغ هائل في السماء أو في الكون بشكل عام، ما جعله يصف ما فوقنا بأنه فضاء، وما هو بفضاء.
إن تأمّلاً عميقاً في الآية السابقة، سيجعلك تدرك تمام الإدراك أن هذه السماء ما هي إلا بناءً محكم البنيان، بدليل قوله تعالى (بنيناها). فكيف يُقال عن بناء أنه فضاء أو فراغ؟ هذه نقطة أولى. وأما الثانية، فنجد أن كلمة (لموسعون) إشارة إلى أن عملية البناء مستمرة. والاستمرارية في أي بناء، تعني الزيادة والتوسع والتمدد.
السماء بناء وليس فضاء
بحسب العلماء المشتغلين في علوم الفلك، يولد 275 مليون نجم بشكل يومي في هذا الفضاء، وهذا التكاثر السريع للنجوم دفع بالعلماء من الغرب والشرق لإعادة النظر في مصطلح الفضاء، الذي يُطلق على السماء الدنيا، من بعد أن تبين لهم وبالأدوات العلمية والوسائل الحديثة، أن هذه السماء هي فعلياً ليست فضاءً أو فراغاً كما كانوا يعتقدون سابقاً، بل هي مساحة هائلة مليئة بالمخلوقات، وفي الوقت ذاته مُحكمة البنيان ولا مجال لفراغ فيها!
إن ذاك الرقم الرهيب لعدد النجوم التي تولد باستمرار، صار دليلاً علمياً لا يمكن التشكيك فيه عند العلماء، أن هذا الكون يتمدد ويتوسع كما ذكر ذلك القرآن في الآية آنفة الذكر. لقد وجدوا أن المجرات في هذا الكون ليست عشوائية لا رابط بينها، بل هو أشبه بنسيج كوني cosmic web محكم البناء، ومترابط بشكل مذهل، الأمر الذي دفعهم إلى تعديل المصطلح من فضاء إلى بناء أو building ووجدوا كذلك أن المادة السوداء في السماء ليست فراغاً، إنما هي بناء دقيق مُحكم، يتكون من جسور وروابط، تجعل المجرات مرتبطة ببعضها البعض على هيئة بناء كوني هائل ومذهل.
هل نحن الوحيدون في الكون؟
هذا التوسع الهائل المستمر للكون، وعدم قدرة الإنسان إلى يوم الناس هذا لاكتشاف مخلوقات ذكية حوله، دفعه للتساؤل إن كان هناك غيرنا موجود في هذا الكون، سواء يعيش بالكيفية التي نحن عليها أم بكيفيات أخرى؟ ذلك أن بالمنطق العقلي، لا يمكن أن يكون كل هذا البناء الهائل الضخم الذي يتمدد ويتوسع فوقنا، مخلوق لبني الإنس ومعهم الجن والطير وبقية دواب الأرض فقط.. لابد أن الأمر أكبر وأعقد مما وصل الإنسان إليه بعلومه وإمكانياته وأدواته العلمية. ومثل هذا التساؤل قام به القدماء ومن جاء بعدهم إلى يومنا هذا. فهل من المنطق والعقل أن يكون هذا الكون وبهذه السعة الهائلة والمسافات الشاسعة بين نجومه ومجراته، ليس به أحياء أو دواب غير التي في كوكبنا، الذي هو مقارنة بأجرام كونية أخرى، كحبة رمل أو أصغر في صحراء شاسعة ممتدة؟
الإجابة موجودة في القرآن
دعونا نقرأ معاً آية عظيمة في سورة الشورى، التي أحسبُ أنه بشيء من التفكر فيها، سنجدها تجيب عن التساؤل البشري القديم المتجدد. يقول الله عز وجل (وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَثَّ فِيهِمَا مِنْ دَابَّةٍ وَهُوَ عَلَى جَمْعِهِمْ إِذَا يَشَاءُ قَدِيرٌ). لاحظ أن كلمة السر ها هنا هي كلمة (دابة) وقد قال المفسرون بأنها كل ما يدُبّ على الأرض، أي يمشي. وبذلك تشمل الدابة أيضاً الطير، لأن الطير يمشي إذا نزل. ويجوز أن تكون في بعض السماوات موجودات تدبّ فيها وعليها بكيفية لا نعلمها حتى الآن.
الآية تشير بوضوح إلى أن هناك دواب أو كائنات تدب وتمشي على الأجرام المنتشرة ما بين السماوات والأرض. لكن ما نوعها، وجنسها، وطبيعتها. هذا ما لم يعرفه الإنسان بعد. إننا نعرف إلى اللحظة هذه أن كوكبنا الأزرق، يعيش عليه إنس وجن، مع حيوانات مختلفة الأنواع، بالإضافة إلى أحياء ومخلوقات ميكروسكوبية عديدة. أما خارج هذا الكوكب فالبحث مستمر.
أما الزعم بأنه لا حياة خارج الأرض لأنه لا وجود للماء، فهذا ليس بالدليل الكافي لجعلها حقيقة نؤمن بها، فإن عدم وجود الماء لا ينفي وجود دواب وكائنات أخرى في كواكب المجموعة الشمسية أو في المجرة أو في أي موقع داخل هذا الكون الفسيح، تكون من النوعية التي لا تعتمد على الماء في معيشتها كما الأحياء الأرضية، فربما تعيش على مواد أخرى غير الماء أو أكسجين الهواء.
خلاصة الحديث
الموضوع أكبر مما نتصور، إنه من غير المنطق أن يكون هذا الكون بضخامته واتساعه المستمر، لجنس البشر الذي يحيا على كوكب، هو حبة رمل أو أحقر، مقارنة بأجرام كونية هائلة الضخامة، لا يمكن تصورها. ولا يجب اعتبار الكواكب السيارة أجراماً تدور هكذا في الفضاء حول شمسنا، ليستمتع الناظر إليها في الليالي الظلماء. لا، الأمر لا يجب أن يكون بهذا الشكل من التفكير السطحي، إنما بدلاً من ذلك، سيكون من الأحكم والأجدر، هو التفكر في هذا الاتساع المستمر للكون، والنجوم العملاقة التي تولد وأخريات تنفجر وتموت، والمعلومات الهائلة المتدفقة من علماء الفلك عن اكتشاف كواكب في مجرات بعيدة يُعتقد بوجود حياة فيها.
إن مثل تلك الاكتشافات ليست ترفاً فكرياً أو معلوماتيا، إنها دعوة للتأمل ملياً وعميقاً، خاصة أن القرآن يحتوي على آيات كثيرة تدعو قارئه للتأمل والتفكر في خلق السماوات والأرض، وعدم التهوين منها والمرور عليها دون توقف وتفكر، وإدراك أهمية متابعة العلماء والباحثين في هذا المجال، وصناعة نوع من الحرص في نفوسنا على أن نكون من أولي الألباب (ٱلَّذِينَ يَذْكُرُونَ ٱللَّهَ قِيَٰمًا وَقُعُودًا وَعَلَىٰ جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِى خَلْقِ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلْأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَٰذَا بَٰطِلًا سُبْحَٰنَكَ فَقِنَا عَذَابَ ٱلنَّارِ).