استهل الإمام ابن عاشور – رحمه الله – تفسيره لقوله تعالى {ولقد علمتم الذين اعتدوا منكم في السبت فقلنا لهم كونوا قردة خاسئين} (البقرة: 65) ببيان السر البديع لاختلاف أسلوب حكاية هذا الخبر عن حكاية “جملة الأخبار التي ذكرها الله تعالى تذكيراً لليهود بما أتاه سلفهم من الاستخفاف بأوامر الله تعالى وبما عرض في خلال ذلك من الزواجر والرحمة والتوبة”، فقال:
وإنما خالف في حكاية هاته القصة أسلوب حكاية ما تقدمها وما تلاها من ذِكر { إذ } المؤذنة بزمن القصة والمشعرة بتحقق وقوعها إلى قوله هنا: { ولقد علمتم } لمعنى بديع هو من وجوه إعجاز القرآن، وذلك أن هذه القصة المشار إليها بهذه الآية ليست من القصص التي تضمنتها كتب التوراة مثل القصص الأخرى المأتي في حكايتها بكلمة ( إذ ) لأنها متواترة عندهم، بل هذه القصة وقعت في زمن داود عليه السلام، فكانت غير مسطورة في الأسفار القديمة، وكانت معروفة لعلمائهم وأحبارهم فأطلع الله تعالى نبيه ﷺ عليها، وتلك معجزة غيبية، وأوحى إليه في لفظها ما يؤذن بأن العلم بها أخفى من العلم بالقصص الأخرى فأسند الأمر فيها لعلمهم، إذ قال : { ولقد علمتم}.
وبين بعد ذلك أن المراد من الاعتداء في الآية “هو اعتداء أمر الله تعالى إياهم من عهد موسى بأن يحافظوا على حكم السبت وعدم الاكتساب فيه ليتفرغوا فيه للعبادة بقلب خالص من الشغل بالدنيا، فكانت طائفة من سكان أَيلة على البحر رأوا تكاثر الحيتان يوم السبت بالشاطىء لأنها إذا لم تر سفن الصيادين وشباكهم أمنت فتقدمت إلى الشاطىء تفتح أفواهها في الماء لابتلاع ما يكون على الشواطىء من آثار الطعام ومن صغير الحيتان وغيرها، فقالوا لو حفرنا لها حياضاً وشرعنا إليها جداول يوم الجمعة فتمسك الحياض الحوت إلى يوم الأحد فنصطادها، وفعلوا ذلك فغضب الله تعالى عليهم لهذا الحرص على الرزق، أو لأنهم يشغلون بالهم يوم السبت بالفكر فيما تحصّل لهم، أو لأنهم تحيلوا على اعتياض العمل في السبت، وهذا الذي أحسبه لما اقترن به من الاستخفاف واعتقادهم أنهم علموا ما لم تهتد إليه شريعتهم فعاقبهم الله تعالى بما ذكره هنا….
ولما بين أن الأمر { كونوا } في قوله تعالى: { فقلنا لهم كونوا قردة خاسئين} أمر تكوين، ذكر أن “تكوينهم قردة يحتمل أن يكون بتصيير أجسامهم أجسام قردة مع بقاء الإدراك الإنساني، وهذا قول جمهور العلماء والمفسرين، ويحتمل أن يكون بتصيير عقولهم كعقول القردة مع بقاء الهيكل الإنساني، وهذا قول مجاهد، والعبرة حاصلة على كلا الاعتبارين، والأول أظهر في العبرة لأن فيه اعتبارهم بأنفسهم واعتبار الناس بهم بخلاف الثاني، والثاني أقرب للتاريخ إذ لم ينقل مسخ في كتب تاريخ العبرانيين، والقدرة صالحة للأمرين، والكل معجزة للشريعة أو لداود…”.
ثم وجّه قول مجاهد توجيهاً لطيفاً بقوله: “معنى كونهم قردة أنهم لما لم يتلقوا الشريعة بفهم مقاصدها ومعانيها وأخذوا بصورة الألفاظ فقد أشبهوا العجماوات في وقوفها عند المحسوسات فلم يتميزوا عن العجماوات إلا بالشكل الإنساني وهذه القردة تشاركهم في هذا الشبه وهذا معنى قول مجاهد هو مسخ قلوب لا مسخ ذوات…”.
وبعد أن بين أن “هذا الأمر التكويني كان لأجل العقوبة على ما اجترأوا من الاستخفاف بالأمر الإلهي حتى تحيلوا عليه”؛ استدل بالآية “على أن الله تعالى لا يرضى بالحيل على تجاوز أوامره ونواهيه، فإن شرائع الله تعالى مشروعة لمصالح وحكم فالتحيل على خرق تلك الحكم بإجراء الأفعال على صور مشروعة مع تحقق تعطيل الحكمة منها جراءة على الله تعالى…”.