يقول الله تعالى: (مَنْ كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الْآخِرَةِ نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ وَمَنْ كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الدُّنْيَا نُؤْتِهِ مِنْهَا وَمَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ نَصِيبٍ) سورة الشورى 20.

حرث: رزق.

نزدْ له في حرثه: أضعافًا مضاعفة.

قال الرازي: الآية دالّة على أن منافع الآخرة والدنيا ليست حاضرة، بل لا بد في البابين من الحرث، والحرث لا يتأتى إلا بتحمل المشاقّ في البذر ثم التسقية والتنمية والحصد ثم التنقية. فلما سمّى الله كلا القسمين حرثًا علمنا أن كل واحد منهما لا يحصل إلا بتحمل المتاعب والمشاقّ.

ثم بيّـن تعالى أن مصير الآخرة إلى الزيادة والكمال، وأن مصير الدنيا إلى النقصان ثم الفناء، فكأنه قيل: إذا كان لا بد في القسمين جميعًا من تحمل متاعب الحراثة والتسمية والتنمية والحصد والتنقية، فلأن تُصرف هذه المتاعب إلى ما يكون في التزايد والبقاء أولى من صرفها إلى ما يكون في النقصان والانقضاء والفناء.

وقال الرازي قبل هذا النص مباشرة:

إن الآخرة نسيئة والدنيا نقد، والنسيئة مرجوحة بالنسبة إلى النقد، لأن الناس يقولون: النقد خير من النسيئة، فبيّـن تعالى أن هذه القضية انعكست بالنسبة إلى أحوال الآخرة والدنيا، فالآخرة وإن كانت نقدًا (لعله خطأ طباعي في هذه النسخة، الصواب: نسيئة) إلا أنها متوجهة للزيادة والدوام، فكانت أفضل وأكمل، والدنيا وإن كانت نقدًا إلا أنها متوجهة إلى النقصان ثم إلى البطلان، فكانت أخسّ وأرذل، فهذا يدلّ على أن حال الآخرة لا يناسب حال الدنيا ألبتة، وأنه ليس في الدنيا من أحوال الآخرة إلا مجرد الاسم، كما هو مرويّ عن ابن عباس.

تعليق على النص الأخير للرازي

قال الرازي: الناس يقولون: “النقد خير من النسيئة”.

أقول إسهامًا مني في تصحيح التفاسير:

هذا قول الشرع، وليس قول الناس. فالنقد خير من النسيئة إذا تساويا، فلو كان لديّ سلعة للبيع، وطلبها شخصان، كل منهما يدفع الثمن نفسه، لكن أحدهما يدفع نقدًا، والآخر نسيئة، بعتُ السلعة لمن يدفع نقدًا، بافتراض بقاء الأشياء الأخرى على حالها.

لكن الشخص الذي يشتري نسيئة إذا زاد في الثمن زيادة كافية لي، فضلتُ بيع السلعة نسيئة، أي عدلت عن تفضيل الحاضر إلى تفضيل المستقبل.

والبيع الآجل مع الزيادة في الثمن جائز عند جمهور العلماء، في جميع المذاهب، وأنا أرى جوازه على سبيل اليقين لا على سبيل الظن فقط. ولهذا فإن الذي يقول بأن النقد خير من النسيئة هو الشرع نفسه، والناس هنا يقولون ما يقوله الشرع.

وإذا تكلمنا عن الدنيا والآخرة، فإن الناس يفضلون الدنيا على الآخرة لولا أن الله زاد في الآخرة كمًا ونوعًا وزمنًا. وبهذا ينقلب تفضيل المؤمن الرشيد من الدنيا إلى الآخرة.

الرازي شافعي المذهب، ولكنه لم يقرأ ما قاله إمام مذهبه!

هناك آيات ذكرتها في موضع آخر هي أصرح من هذه الآية (آية الشورى).

قال تعالى:

(بل تحبّون العاجلة وتذَرون الآخرة) القيامة 20-21. تذَرون الآخرة مع أن الله زاد فيها، في الكم والنوع والزمن، أضعافًا مضاعفة! إنما يذر الآخرةَ من لا يُؤمن بها!

(يحبّون العاجلة ويذَرون وراءهم يومًا ثقيلاً) الإنسان 27. يذَرون وراءهم يومًا ثـقّله الله في الكم والنوع والزمن.

(بل تؤثرون الحياة الدنيا والآخرةُ خيرٌ وأبقى) الأعلى 16-17. الرجل المؤمن الرشيد يؤثر الآخرة، لأنها خير في الكم والنوع، وأبقى في الزمن (خلود)!