تميز القرن الثاني الهجري بأنه العصر الذي تأسست فيه العلوم الإسلامية بمناهج نظمّت الطرح العلمي ،وتم فيه تأطير الدرس العلمي ببرامج مدونة نتج عنها الكتب التأسيسية في كل فن من الفنون، وهي الكتب التي يطلق عليها أمهات /أمّات الكتب، وهي أصول كل علم ، وكانت مدينة بغداد إحدى أظهر الحواضر العلمية الزاهرة المشتهرة بالعلم والمعرفة لا سيما أنها كانت عاصمة الخلافة العباسية.

وبرز في القرن الثاني الهجري/الثامن الميلادي أئمة أعلام في شتى العلوم الإسلامية في مدينة بغداد من أبرزهم محمد بن الحسن الشيباني، وأبو يوسف القاضي،والإمام أحمد بن حنبل،والفقيه الكبير أبي ثور، والإمام اللغوي المحدث أبو عبيد القاسم بن سلام ،ومؤسس المذهب الظاهري في الفقه داود بن علي بن خلف الأصبهاني، والإمام الكسائي أحد القراء السبعة، وغيرهم من العلماء الكبار.

   تأسست بغداد في منتصف القرن الثاني الهجري تقريبًا ،فقد ذكر الخطيب البغدادي في تاريخه أنها تأسست عام 146هـ، قال الخطيب البغدادي:” أخبرني محمد بن جرير إجازة أن أبا جعفر المنصور بويع له سنة ست وثلاثين ومئة، وأنه ابتدأ أساس المدينة سنة خمس وأربعين، واستتم البناء سنة ست وأربعين ومئة، وسماها مدينة السلام..

وكذلك ذكر المؤرخ الطبري أنه استتم بناء بغداد سنة ست وأربعين ومائة.

وقد تميزت بغداد منذ تأسيسها بالحركة العلمية النشطة، وقد ساعد على ذلك توافد أهل العلم والفضل عليها ، بالإضافة لقربها من المراكز العلمية وخاصة البصرة والكوفة.

” وكان مركز الحركة الثقافية قبل تأسيس بغداد في البصرة والكوفة ثم شيدت بغداد، فغلبت على المدينتين.

ويقول اليعقوبي : ليس لها نظير في مشارق الأرض ومغاربها سعةً وكِبرًا وعمارة وكثرة مياه، وصحة هواء، ولأنه سكنها من أصناف الناس وأهل الأمصار والكور، وانتقل إليها من جميع البلدان القاصية والدانية وآثرها جميع أهل الآفاق على أوطانهم”.

وقد كانت الصلات العلمية بين علماء الأمصار من ناحية وعلماء بغداد وطلبة العلم فيها عبر الرحلات بينهم وخاصة الرحلات إلى بغداد من أبرز الوسائل التي ساهمت في نشر العلم ببغداد في القرن الثاني الهجري الذي عاش فيه أئمة أعلام مبرزون في شتى العلوم الإسلامية.

ومما ينبغي أن يذكر أن ” القرن الثاني شهد حركة عقلية ضخمة أمدتها روافد كثيرة، أولها الثقافة العربية الأصيلة التي تتمثل في الشعر والقرآن والحديث وفقههما، وعلوم اللغة العربية.

وقد أحرزت هذه الفروع جميعها تقدمًا كثيرًا في هذا القرن، بل إن بعضها خلق فيه خلقًا جديدًا كالنحو والعروض مثلًا”.

وتذكر المصادر التاريخية أن مؤسس بغداد الخليفة العباسي أبا جعفر المنصور كان مهتمًا بأن تكون هذه المدينة الجديدة من الحواضر العلمية مركزًا من مراكز الإشعاع الحضاري في العهد الذي كان من عصور الحضارة الإسلامية الزاهية وخاصة في الجانب العلمي.

  وقد رغب أبو جعفر المنصور أن يستكمل بناء مدينته من جميع الوجوه، وأراد أن يمكّن لها في الحياة العلمية، فدعا إليها العلماء من الأمصار من قراء القرآن ومفسريه والنحويين ورجال الحديث وأهل الرواية، دعاهم إليها من الكوفة والبصرة اللتين كانتا من المراكز المهمة للثقافة الإسلامية في ذلك الحين.

وكانت المدينة النبوية هي أبرز مركز علمي بين المدن الإسلامية في القرن الثاني الهجري، فقد كان بها كبار التابعين من تلاميذ الصحابة، وبها أبرز العلماء من تابعي التابعين من جيل الإمام أنس بن مالك، وقد رحل عدد من أعلام علماء المدينة إلى بغداد  بعد بنائها،” وقد رحل إليها من المدنيين عدد كبير من علماء وقادة وغيرهم.ِ

ولم يذكر عن أحد من علماء بغداد أنه رحل إلى المدينة سوى عدد قليل منهم محمد بن الحسن الشيباني صاحب أبي حنيفة، وهو كوفي سكن بغداد.

وقد قدم من المدينة إلى بغداد عدد من العلماء بعضهم من خلفاء بني العباس وخاصة أبو جعفر المنصور، ولحداثة مدينة بغداد فإن جميع علمائها من أهل الأمصار الأخرى من مدن العراق والشام وخراسان وغيرها.

ومن المدنيين الذين قدموا بغداد:

*جعفر بن محمد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب (ت 148هـ) الملقب بالإمام الصادق، وقد قدم بغداد وعاش بها، وقابل الإمام أبا حنيفة، وسأله أبو حنيفة أربعين مسألة، فأجاب عنها بما أعجب أبا حنيفة.

*وممن قدم بغداد محمد بن عبدالرحمن بن أبي ذئب (ت159هـ)، وهو إمام فقيه لقب بشيخ الإسلام، أقدمه المهدي بغداد، وحدّث بها ثم عاد إلى المدينة، فمات بالكوفة قبل أن يصل إلى المدينة.

سمع منه عدد من العلماء في بغداد، قال الحجاج الأعور: “كنت أجيء إلى ابن أبي ذئب ببغداد أعرض عليه ما سمعت منه لأصححه”.

وقد سمع ابن أبي ذئب من عدد من أهل العراق منهم يحي بن القطان ، وشبابة بن سوار، وأبي نعيم، وآدم بن إياس، وأسد بن موسى، وعلي بن الجعد.

*عبدالعزيز بن عبدالله بن أبي سلمة الماجشون (ت164هـ)، إمام مفتٍ، كان المفتي في موسم الحج هو والإمام مالك حيث كان الصائح يصيح عام ثمان وأربعين ومائة: “لا يفتي إلا مالك وعبدالعزيز بن أبي سلمة”، وعندما قدم المنصور المدينة طلب من ولي عهده أن يبحث له عن شخص يكون في صحابته المقربين منه، فوقع اختيار المهدي على عبدالعزيز بن عبدالله بن أبي سلمة الماجشون.

وأكثر أهل بغداد تلقى الحديث عنه حتى أخذوا عنه أكثر مما أخذ عنه أهل المدينة.

وقد روى عنه في بغداد عدد كبير من العلماء منهم وكيع بن الجراح، وابن مهدي، وشبابة، وأسد بن موسى، وحجاج بن منهال، وأبو الوليد الطيالسي، وغيرهم.

*إسماعيل بن جعفر بن أبي كثير (ت180هـ)، من أئمة المدينة الحفاظ الثقات، كان قارئ أهل المدينة بعد نافع بن أبي نعيم، وكان محدث المدينة بعد مالك بن أنس، اشتهر بخمسمائة حديث سمعها منه الناس.

انتقل في آخر عمره إلى بغداد، ونشر بها العلوم التي أتقنها كالقراءات والحديث.

وممن أخذ عنه علم القراءات: الإمام أبو الحسن الكسائي، وأبو عبيد، وأبو عمرو الدوري، وآخرون.

وممن روى عنه الحديث قتيبة بن سعيد، وعلي بن حجر، ومحمد بن سلام البيكندي، وداود بن عمر الضبّي، ومحمد بن الصباح الدولابي، ويحيى بن يحيى النيسابوري.

*محمد بن عمر الواقدي (ت207هـ)، الإمام العلامة صاحب الكتب والمصنفات العديدة في التاريخ والمغازي، انتقل من المدينة إلى بغداد في محاولة لإصلاح وتحسين أوضاعه الاقتصادية، وكوّن ببغداد مكتبة كبيرة من طول مكثه بها، وقد نقل هذه المكتبة من الجانب الغربي إلى الجانب الشرقي ببغداد.

وقد تولى القضاء لهارون الرشيد ببغداد في عسكر المهدي، وبقي في عمله أربع سنوات، وقد تتلمذ عليه ببغداد عدد كبير منهم كاتبه محمد بن سعد صاحب الطبقات الكبرى، وأبو بكر بن أبي شيبة، وغيرهم.

*وممن قدم بغداد من أهل المدينة وحدّث بها عبدالرحمن بن أبي الزناد (ت174هـ).

وأما من قدم المدينة من علماء بغداد:

*محمد بن الحسن الشيباني (ت189هـ)، قاضي القضاة، فقيه العراق، صاحب الإمام أبي حنيفة، تفقّه على الإمام مالك، وأقام عنده ثلاث سنين وزيادة، وسمع منه أكثر من سبعمائة حديث، وعندما عاد إلى بغداد صار يحدث الناس عن مالك فيكثر الناس في حلقته.

فهؤلاء كوكبة من الأئمة  الكبار الذين زاروا بغداد، ونقلوا إليها قدرًا وافرًا من العلم من المدينة النبوية التي كانت معقلًا أصيلًا  للميراث النبوي من العلوم والمعارف.

“وأما الذين قدموا من مكة، فعبدالملك بن عبدالعزيز بن جريج، (ت151هـ/768م) يقال إنه أول من صنف الكتب، قدم بغداد على أبي جعفر المنصور، سمع من مجاهد

حرفين في القراءات، وروى القراءة عن عبدالله بن كثير، وروى عنه القراءة مجموعة من أهل بغداد منهم يحيى بن سعيد الأنصاري”.

هذا في أبرز من قدم بغداد من علماء مكة، ولا شك أن العلماء وطلاب العلم من أهل بغداد قد أفادوا كثيرًا وأكثروا من الأخذ عن علماء مكة عند قدومهم لمكة للحج والعمرة.

وكانت المدن القريبة من بغداد حواضر علمية تأصل فيها العلم وازدهر منذ قدوم الصحابة رضي الله عنهم ونشرهم للعلم هناك، فقد كانت البصرة والكوفة من أبرز المراكز العلمية منذ أن مصّرها الفاروق عمر رضي الله عنه وانتدب من علماء الصحابة  عددًا أرسلهم إليها، فجلسوا لتعليم الناس القرآن الكريم، وأحاديث النبي صلى الله عليه وسلم، وخلفهم عدد من علماء التابعين من تلاميذهم.

وبسبب قرب البصرة والكوفة من بغداد واشتمالهما على نخبة من كبار العلماء في شتى العلوم ازدهر العلم ببغداد عبر الرحلات بين العلماء وطلبة العلم بين المدن الثلاثة الكبرى في العراق.

وكانت البصرة مدينة علم وبها نشاط علمي وثقافي في شتى صنوف العلم.

“أنشئت مدينة بغداد عام 145هـ حين كان نشاط المحدثين في جمع الحديث وروايته على أشده، وما إن مرت بضع سنوات على إنشائها حتى أصبحت حاضرة العالم الإسلامي، ومن أكبر مدنه وأشهرها، فقصدها المحدثون من شتى الأقطار والأمصار، فمنهم من زارها وحدّث فيها، ومنهم من سكنها واستوطنها، وأصبحوا أساتذة لكثير من طلابها الذين أصبحوا فيما بعد من أشهر علماء الإسلام في شتى العلوم والمعارف.

وقد كانت مجالس بعض البصريين في بغداد عامرة بالمحدثين وطلاب الحديث الذين يقدر عددهم بعشرات الآلاف، فسليمان بن حرب الواشجي البصري المتوفى حوالي عام 224هـ كان يحدّث ببغداد فيحضر مجلسه أربعون ألف إنسان، بل بلغ من شهرته أن المأمون قد سمع منه وكتب عنه.

وعلماء البصرة كان لهم الأثر الواضح البيّن في نشر الحديث وعلومه ببغداد ،فعلى يد علماء البصرة تتلمذ نفر من علماء بغداد المشهورين كالإمام أحمد بن حنبل، ويحيى بن معين إمام الجرح والتعديل.

قال عمرو الناقد: قدم الشاذكوني بغداد فقال لي أحمد بن حنبل: اذهب بنا إليه نتعلم منه نقد الرجال.

وقد ذكر الخطيب البغدادي في تاريخه عددًا كبيرًا من البصريين الذين رحلوا إلى بغداد ومن هؤلاء: سليمان بن أرقم البصري قدم بغداد وحدّث بها عن الحسن البصري، وابن شهاب الزهري، ويحيى بن أبي كثير، وسعيد بن أوس،و أبو زيد اللغوي البصري (ت215هـ)، وعبدالله بن عمرو المنقري البصري (ت224هـ)، وهو من حفاظ البصرة، قال الخطيب: قدم أبو معمر بغداد وحدّث بها، قال عبدالرحمن بن أبي حاتم: سمعت أبي يقول: كتبنا عنه ببغداد.

ولم يقتصر الأمر على رحلات البصريين إلى بغداد، فقد كانت هناك رحلة معاكسة من بغداد إلى البصرة قام بها علماء بغداد ومحدثوها ليسمعوا الحديث من علماء البصرة، فقد رحل يحيى بن معين من بغداد إلى البصرة ليجمع حديث حماد بن سلمة،

ورحل إلى البصرة أيضًا أبو عبيد القاسم بن سلّام (ت224هـ)، وهكذا نرى أن الرحلة في طلب الحديث وعلومه كانت دائبة بين البصرة وبغداد وبالعكس، وكانت الطريق بينهما عامرة بالمحدثين منذ أنشئت بغداد.”

كانت مدينة البصرة معروفة بوجود عدد من كبار علماء العربية البارزين، “وكان بعض علماء اللغة والنحو البصريين من القراء، منهم أبو عمرو بن العلاء (ت154هـ/771م)، الذي يعد أشهر قراء البصرة على الإطلاق، وهو أحد القراء السبعة المشهورين، وكان إلى جانب علمه بالقراءات عالمًا بالعربية والنحو، ومنهم يعقوب بن إسحاق الحضرمي (ت205هـ/820م) إمام أهل زمانه في القراءات والعربية، وله قراءة مشهورة، وصنف كتاب( الجامع)، ذكر فيه اختلاف وجوه القراءة ونسب كل حرف إلى من قرأ به.

ومنهم كذلك محمد بن عثمان بن القاسم أبو حاتم السجستاني (ت255هـ/868م)، الذي كان إمامًا في علوم القرآن واللغة والشعر، صمف كتابًا في (إعراب القرآن)، وكتابًا في (القراءات).

ويبنغي الإشارة إلى أن كلًا من أبي عمرو بن العلاء، ويعقوب بن إسحاق الحضرمي، وسهل بن محمد بن محمد أبي حاتم السجستاني لم تشر المصادر إلى قدومهم إلى بغداد إلا أنهم  أسهموا في تدريس طلاب أصبحوا فيما بعد قراءًا كبارًا أسهموا في القراءة ببغداد، أو نقلوا قراءتهم إلى بغداد.

ومن القراء البصريين الذي أسهموا في الإقراء ببغداد:

-هارون بن موسى القارئ البصري (ت170هـ/786م)، قدم بغداد وتصدر للإقراء فيها، حيث أخذ عنه من أهلها شبّابة بن سوار، وعلي بن الجعد، وتذكر بعض المصادر أنه أول من سمع بالبصرة وجوه القراءات وألف فيها وتتبع الشاذ منها.

– أيوب  بن المتوكل (ت 200هـ/815م)، أخذ عنه القراءة من أهل بغداد يحيى بن معين، قال عنه أبو حاتم السجستاني: أبو أيوب من المتوكل من أقرأ الناس وأرواهم للآثار في القرآن.

– يحيى بن المبارك أبو محمد اليزيدي (ت202هـ/817)، كان أحد القراء الفصحاء، عالمًا بلغات العرب، سكن بغداد وحدث بها عن أبي عمرو بن العلاء، وهو تلميذه وخلفه في القراءة، ولما اختاره الرشيد لتأديب المأمون، طلب منه أن يعلّمه قراءة أبي عمرو بن العلاء، وقد أقرأ مع المأمون ابنه محمد اليزيدي قراءة أبي عمرو بن العلاء، وروى القراءة عنه من أولاده ببغداد عبيد الله بن محمد اليزيدي راوي قراءة أبي عمرو، وكان يجلس في أيام الرشيد مع الكسائي ببغداد يقرئان الناس في مسسجد واحد.

وقد أدى اليزيدي دورًا كبيرًا في مجال الإقراء ببغداد حيث تخرج على يديه العديد من علماء بغداد الذين أصبحوا فيما بعد من مشاهير علماء القراءات فيها، ويأتي في مقدمة هؤلاء أبو عبيد القاسم بن سلّام (ت224هـ/838م)، وحفص بن عمر بن عبدالعزيز بن صهبان الدوري البغدادي (ت246هـ/861م)، هذا بالإضافة إلى جهود اليزيدي في التأليف فله كتاب في (قراءة أبي عمرو)، وكتاب (الشكل).

– عبيد بن عقيل بن صبح أبو عمرو البصري (ت207هـ/822م)، قرأ عليه ببغداد خلف بن هشام البزار.

– رويم بن يزيد أبو الحسن المقرئ (ت210هـ/825م)، كان ثقة كبير القدر، كان يقرئ بمسجده ببغداد،أخذ عنه القراءة ببغداد محمد بن سعد الواقدي، ومحمد بن شاذان الجوهري.”

وأما المدينة الثانية القريبة من بغداد والتي كانت رافدًا علميًا لها ساعد على ازدهارها فهي مدينة الكوفة، وقد كانت حاضرة علمية ينتشر فيها العلم بشتى صنوفه.

” وما إن بنى العباسيون مدينة بغداد حتى أصبحت مدينة بغداد مهوى العلماء من شتى الأقطار والأمصار، فأَمّها العلماء والأدباء، ووجدوا في رحابها من الخلفاء مالم يجدوه في غيرهم من ترحاب وتقدير، فازدهر العلم والأدب في ربوعها وانتشرت في أنحائها حلقات الفكر يساجلون فيها ويتناقشون ، فكانت بذلك منارة شامخة لكل علم وفنّ وفكر.

وكان ممن قصدها وكان له فيها مجال بزّ به الآخرين وفاقهم في ميدانه علماءُ الكوفة ونُها حيث قصدوها ورحب بهم خلفاؤها، وبخاصة أن للكوفة يدًا طولى في تأسيس دولتهم وتكوينها”.

كانت الكوفة عامرة بكبار بأئمة القراءة والإقراء وعلم القراءات، وكان لقراء الكوفة أثر كبير في علم القراءات ببغداد، من أبرزهم:

“-المفضل بن محمد الضبي الكوفي، المقرئ العلامة والراوية الأديب الإخباري (ت178هـ/794م)، روى القراءة عن عاصم بن أبي النجود أحد القراءة السبعة المشهورين، وأقرأ بها ببغداد وأخذها عنه كل من الكسائي ويحيى بن زياد الفراء.

– حفص بن سليمان الأسدي مولاهم الكوفي، توفي سنة (180هـ/796م)، وهو ابن امرأة عاصم ابن أبي النجود، كان ينزل معه في داره، فقرأ القرآن عليه مرارًا، وروى عن عاصم عامة القراءات مسندة، وكانت القراءة التي أخذها عن عاصم مرتفعة إلى الخليفة علي بن أبي طالب رضي الله عنه برواية أبي عبدالرحمن السلمي، وكان حفص قد نزل بغداد في الجانب الشرقي منها في سويقة نصر، وقرأ عليه من أهلها هبيرة التمار.

– سليم بن عيسى بن سليم بن عامر الحنفي الكوفي، (ت188هـ/803م) شيخ القراء، تلا على حمزة بن حبيب -أحد القراء المشهورين- عشر ختمات، وقرأ عليه ببغداد المقرئ رويم بن يزيد أبو الحسن البصري، (ت211هـ/826م)، كان ثقة كبير القدر يقرئ بمسجده في بغداد، وقرأ عليه من أهل بغداد خلف بن هشام البزار،(ت 229هـ/843م) إذ أخذ عنه قراءة حمزة، وأقرأ بها ببغداد، وقرأ على خلف بها المقرئ البغدادي إدريس بن عبدالكريم (ت229هـ/904م)، ومن الذين قرأوا على سليم المقرئ إسماعيل بن شداد البغدادي ، كان من أضبط الناس بقراءة حمزة، وأقرأ بها دهرًا طويلًا ببغداد.

– علي بن حمزة الكسائي (ت198هـ/804م)، قرأ القرآن على حمزة بن حبيب الزيات وجوّده أربع مرات، وأقرأ بها ببغداد زمانًا ثم اختار لنفسه قراءة أقرأ الناس بها، ومن الذين أقرأهم الكسائي ببغداد بحرف حمزة محمد (الأمين) ابن الخليفة هارون الرشيد، فقد كان الكسائي مؤدبًا له، وقرأ على الكسائي أيضًأ من أهل بغداد المقرئ خلف بن هشام البزار، وأبو عبيد القاسم بن سلّام البغدادي الذي أخذ عن الكسائي عرضًا وسماعًا، وأبو عمر الدوري إمام القراءة في زمانه درس على سليم بن عيسى الكوفي والكسائي إلا أنه مال إلى قراءة الكسائي فصار ثقة فيها ضابطًا لها فاشتهر بها وأخذ يقرئ بها ، وقرأ عليه كذلك إسحاق بن إبراهيم الموصلي.

-عبيدة بن حميد بن صهيب أبو عبدالرحمن التيمي الكوفي،(ت190هـ/805م)

قدم إلى بغداد أيام الخليفة هارون الرشيد، فصيّره مع ابنه محمد (الأمين)، وقد أقرأه القرآن حتى بلغ معه سورة الحديد.

– أبو بكر بن عياش بن سالم الحناط الكوفي، (ت193هـ/808م)، قدم بغداد وأقرأ بها، وأقرأ بقراءته المقرئ محمد بن الحسن النقاش، وروى القراء عنه ببغداد .

-أبو يوسف الأعمش يعقوب بن محمد بن خليفة التميمي الكوفي، (توفي في حدود 200هـ/815م)، أخذ القراءة عن أبي بكر بن عياش، وروى عنه القراءة من أهل بغداد المقرئ المشهور أبو محمد خلف بن هشام البزار، (ت 229هـ/843م).

– أبو زكريا يحيى بن آدم (ت 203هـ/808م)، أخذ القراءة عن أبي بكر بن عياش، وروى عنه القراءة مجموعة من علماء بغداد منهم المقرئ خلف بن هشام البزار (ت229هـ/843م) الذي يعد أحد القراء العشرة، وأبو حمدون الطيب بن إسماعيل (ت 204هـ/819م)، والإمام أحمد بن حنبل الشيباني البغدادي (ت241هـ/855م)، والفقيه محمد بن شجاع الحنفي، فقد أخذ عن يحيى الحروف.”

وبالإضافة إلى المدينة والكوفة والبصرة فقد وفد إلى بغداد جماعة من أهل العلم من شتى الأمصار، وساهموا في تطور العلم بعاصمة الدولة العباسبة.

ومن أبرز علماء بغداد الذين قدموا من خراسان :

“أبو عبيد القاسم بن سلام الخراساني أحد الذين قدموا بغداد، وأدى دورًا واضحًا في علم القراءات وغيرها من العلوم.

قدم بغداد مدة، ثم ولي القضاء بطرسوس، وخرج بعد ذلك إلى مكة، فسكنها حتى مات بها، قال ابن النديم: وكان قد قدم بغداد حاجًا بعد أن صنف بها ما صنف من الكتب، (توفي سنة 224هـ/838) بمكة، وقال الخطيب البغدادي: له كتاب جيد، أخذ القراءة عرضًا وسماعًا على يحيى بن حمزة الكسائي، وسليم بن عيسى الكوفي، ويحيى بن آدم، وغيره.

وفيما يتعلق بعلم الفقه فقد شهدت بغداد في القرن الثاني الهجري فقهاء كبار من الطبقة الأولى، من مؤسسي المذاهب الفقهية الأربعة المتبعة، ومن أعلام الفقهاء في تاريخ التشريع الإسلامي، ومن أشهرهم محمد بن الحسن الشيباني والقاضي أبو يوسف  أبرز تلميذين للإمام أبي حنيفة النعمان، وأحمد بن حنبل مؤسس المذهب الحنبلي، وداود بن علي الظاهري مؤسس مذهب أهل الظاهر،والفقيه المعروف أبو ثور ، بالإضافة إلى زيارة الإمام محمد بن إدريس الشافعي، شيخ الإمام أحمد ومؤسس المذهب الشافعي.

ومن اللافت للنظر أن بغداد احتوت التلاقي العلمي والتتلمذ بين أصحاب المذاهب الفقهية الأربعة ، فمحمد بن الحسن الشيباني قرأ على مالك إمام المذهب المالكي وإمام المدينة دار الهجرة، وقرأ على الإمام الأوزاعي فقيه أهل الشام، والشافعي قرأ على الإمام مالك وقرأعلى محمد بن الحسن، وأحمد قرأ على الشافعي.

 ” و الشافعي قدم بغداد مرتين وخرج إلى مصر فنزلها إلى حين وفاته، وكتاب الشافعي الذي يسمى القديم هو الذي عند البغداديين خاصة عنه”.

وحين ذكر أبو إسحاق الشاطبي فقهاء بغداد قال:

“منهم أبو عبدالله أحمد بن محمد بن حنبل بن هلال الشيباني، مات سنة إحدى وأربعين ومائتين.

ومنهم أبو ثور إبراهيم بن خالد بن أبي اليمان الكلبي البغدادي، أخذ الفقه عن الشافعي، مات سنة أربعة ومائتين.

ومنهم أبو عبيد القاسم بن سلّام البغدادي، مات سنة أربع وعشرين ومائتين بمكة، وهو ابن سبع وستين سنة.

ومنهم أبو سليمان داود بن علي بن خلف الأصبهاني، ولد سنة اثنين مائتين، ومات سنة سبعين ومائتين.

وأخذ العلم عن إسحاق بن راهويه، وأبي ثور، وكان زاهدًا متقللًا، ومولده بالكوفة ومنشؤه ببغداد.”

­­­­­­­­­وكانت بغداد مركزًا علميًا لتأسس مدرسة الفقه الحنفي وانتشاره، خاصة أن كبار فقهاء المدرسة الحنفية تولوا القضاء في الدولة العباسية الأمر الذي أدى إلى تطبيق اجتهادات المذهب الحنفي عمليًا، وبالتالي الإقبال على دراسة المذهب الحنفي لتولي القضاء بين طلبة العلم.

” و أبو حنيفة النعمان، وهو وإن كان كوفيّ المنبت فإنه اتخذ بغداد دار إقامته الآخرة، فكان عنوان مفاخرها وغرة مآثرها، وكان في جملة حسناته تلميذاه العظيمان قاضي القضاة أبو يوسف يعقوب بن إبراهيم الأنصاري المتوفى سنة 182هـ صاحب كتاب (الخراج)، ومحمد بن الحسن الشيباني المتوفى سنة 189هـ، وإليهما يرجع الفضل الأول إلى تدوين الفقه الحنفي وترصين وقواعده.

وزار الإمام محمد بن إدريس الشافعي بغداد مرتين إحداهما سنة 195هـ والثانية 198هـ، واجتمع بعظماء فقهائها، وفيها أملى مذهبه القديم، ولما فارقها تطور مذهبه بعض الشيء بسبب ما اطلع عليه في بغداد من الآراء، ويقال لمذهبه بعد رجوعه من بغداد “الجديد”، وممن لقي الشافعي في بغداد من عظماء الفقهاء الإمام أحمد بن حنبل وقد تلقحت آراؤه بآرائه، فتطور مذهب ابن حنبل يعض التطور، وكان معظم البغداديين على مذهبه ثم كثر بينهم الشافعية والحنفية.”

وقد كان أثر الشافعي ببغداد كبيرًا، ويكفي للدلالة على ذلك ما خلفه من التلاميذ الذين أخذوا عنه ومن أبرزهم الإمام أحمد بن حنبل إمام المذهب الحنبلي، وداود بن علي إمام المذهب الظاهري.

وعن المدة التي أقامها الشافعي ببغداد “فإنه لم يذكر أحد من الرواة كم لبث الشافعي في بغداد المرة الأولى، والمظنون أن إقامته كانت طويلة، ربما جاوزت السنوات، فكتابة كتب محمد بن الحسن وسماعها عليه، واشتغاله بمناظرة العلماء والفقهاء والمحدثين، وأخذه العلم عن الشيوخ، كل هذا يحتاج إلى زمن طويل، وقد تكون إقامته طالت إلى حين وفاة محمد بن الحسن سنة 189هـ أو قبلها بقليل، ثم قفل عائدًا إلى مكة.

لقد غادر الشافعي العراق وترك أثرًا لا يمحى في نفوس الموافقين والمخالفين حتى أجمعوا على الشهادة بعقله وفهمه وسرعة بديهته.

” وترك الشافعي في بغداد تلاميذ نشروا فقهه وشرحوه، نخص بالذكر منهم سليمان بن داود بن علي بن خلف، وينتسب إلى قاشان قرب أصفهان، وقد درس ببغداد فقه الشافعي، وهو أول من ألف في مناقب الشافعي، وأقام في بغداد يعلم التلاميذ فقه الشافعي.

على أن أحمد بن حنبل يعتبر بحق أبرز تلاميذ الشافعي، وقد ولد ابن حنبل في بغداد في سنة 164هـ، ورحل في طلب العلم، ورجع إلى بغداد حيث تتلمذ على الشافعي من سنة 195هـ حتى سنة 197هـ، ويعتبر إمام المحدثين.”

وفي ذات السياق نرى أحد أعلام المذهب المالكي أسد بن الفرات والذي أصله من أفريقية (تونس حاليًا) الذي درس أولًا ببغداد عند فقيهي الحنفية أبي يوسف ومحمد الحسن ثم أراد أن يعرض آراء مدرسة الرأي على إمام مدرسة الآثار مالك بن أنس ولكن لم يدركه فرحل إلى أكبر تلاميذه عبدالرحمن ابن القاسم بمصر في سعي منه للجمع بين فقه المدرستين البارزتين في ذلك الوقت، وألف كتابه الأسدية نسبة إلى اسمه.

” وكتاب الأسدية نسبة إلى مؤلفها أسد بن الفرات، أبي عبدالله الحراني ثم المغربي أحد المؤسسين للمذهب المالكي في المغرب.

ولد بحران سنة 144هـ، ورحل إلى العراق فلازم محمد بن الحسن الشيباني تلميذ أبي حنيفة، ومات سنة 213هـ، وكان جلوسه في بغداد إلى أبي يوسف ومحمد بن الحسن الشيباني، ولازم محمد بن الحسن، وأخذ عنه كتبه، وتعلم الفقه الحنفي حتى برع فيه، ثم إنه أتى بالمسائل الحنفية وأراد أن يعرف آراء الإمام مالك فيها، فيجتمع له الفقهان،

فلما أراد الرجوع إلى مالك وجده قد مات، فلجأ إلى تلاميذه الذين عرفوا بطول ملازمته وصحة الرواية عنه وحسن التخريج على أصوله، فرحل إلى مصر وبها جلس إلى عبدالرحمن بن القاسم(ت191هـ)تلميذ الإمام مالك،وله بها صحبة طويلة.

ونرى أيضًا الإسهام العلمي لمدينة بغداد ونشرها للعلوم الإسلامية في شتى أرجاء العالم الإسلامي في نشر علم الحديث والرواية حيث كانت بغداد من الأماكن المقصودة لتلقي علم الحديث النبوي الشريف، ومنها انتقلت الآثار إلى بلاد الأندلس في أقصى غرب العالم الإسلامي.

” ومن بغداد (ومراكز علمية أخرى) انتقل علم الحديث بقواعده وفنونه وكثير من دواوينه إلى قرطبة، فتأسست هناك حركة علمية نشطة في هذا المجال العلمي اعتمادًا على رحلات الأندلسيين إلى عاصمة الخلافة العباسية وتلمذتهم على علمائها.

كانت الحركة العلمية نشطة ببغداد إقراءًا وتعليمًا وتأليفًا واقتناء للكتب، وكان من أبرز مراكز العلم المساجد، حيث وجدت بها الكتاتيب التي يدرس فيها الصغار القرآن الكريم وأصول العلوم الإسلامية ومبادئها.

” كانت المساجد -والمساجد الجامعة على الأخص- مباءة لأشياخ العلم، ومرادًا لتلاميذهم، فكان الشيخ يجلس إلى سارية من سواري المسجد، ويحلق أمامه الطلبة، فيقول وهم يسمعون، أو يقرأ أحدهم وهو يسمع ويشرح ويوضح، فكان كل مسجد بمثابة جامعة تتألف من عدة كليات، فإن المسجد الجامع الواحد قد يضم من حلقات العلم العدد العديد”.

وكان جامع المنصور ساحة علمية تنتشر فيه حلقات تعليم القرآن الكريم.

“ومن حلقات القرآن الكريم التي كانت تعقد في جامع المنصور الذي شيده الخليفة بجانب قصره حلقة لعلي بن حمزة الكسائي المقرئ الكوفي”.

لقد كانت هناك عناية ملحوظة بالعلم والعلماء من قبل الخلفاء العباسيين في مدينة بغداد، وذلك في زمن انتشر فيه العلم ،وقد حرص الخلفاء على استقدام معلمين مؤدبين لأبنائهم على درجة عالية من الكفاءة العلمية.

” ومن العلماء القراء الذين جاء بهم الخلفاء ليتخذوا منهم مؤدبين لأبنائهم أبو العباس المفضل بن محمد الضبّي الكوفي (ت178هـ/794م) جاء به أبو جعفر المنصور لتأديب ولده المهدي.

وكذلك الكسائي علي بن حمزة الكوفي (ت189هـ/804م) أحد القراء السبعة جاء به المهدي لتأديب ولده الرشيد.

ومن الذين أقدمهم الرشيد من الكوفة إلى بغداد المقرئ أبو بكر بن عياش بن سالم الحناط (ت193هـ/808م) أقدمه الرشيد ليسأله عن أيام بني أمية”.

ومن معالم الحياة العلمية في مدينة بغداد المجالس العلمية التي كانت تعقد بقصور الخلفاء العباسيين والأمراء، وكانت هذه المجالس تعقد فيها مناظرات في مسائل لغوية وأدبية وفقهية.

” فقد فتح الخلفاء والأمور قصورهم للعلم والعلماء، وكان التنافس بينهم في رعايتهم والإنفاق عليهم بسخاء، وكانت مجالسهم حافلة بالأدباء والمفكرين والشعراء، مما جعل مجالسهم منتديات أدبية وعلمية تشع منها الثقافة والمعرفة”.

“وجرت مناطرات في العلوم اللغوية في قصور الخلفاء، وكان أقطابها كوفيون وبصريون، مثال ذلك ما جرى بين الكسائي الكوفي واليزيدي البصري (ت202هـ/817م) بين يدي المهدي قبل أن يتولى الخلافة في جملة من المسائل اللغوية.

ومن المناظرات التي جرت بين الكوفيين والبصريين في بغداد المناظرة التي جرت بين الأعرابي اللغوي الكوفي، والأصمعي اللغوي البصري في معاني الشعر.

أما أبرز المناظرات التي جرت في مجلس الرشيد تلك المناظرة التي جرت في مجلس الرشيد تلك المناظرة النحوية التي كانت بين زعماء المدرسة النحوية الكوفية والمدرسة النحوية البصرية، وقد كان يمثلها الكسائي الكوفي وسيبويه البصري، والتي عرفت بالزنبورية.

وتستمر المناظرات بين الكوفيين والبصريين في مجالس الخلفاء، ومنها ما جرى بين النحوي الكوفي علي بن حمزة الكوفي، واللغوي البصري عبدالملك بن قريب الأصمعي (ت212هـ/828م)، وكان ذلك في مجلس الرشيد.

ولم تقتصر مشاركات علماء الكوفة في ما يدور من مجالس ومناظرات داخل قصور الخلفاء والأمراء بل نجد لهم مشاركات حتى على أبواب قصورهم، فهذا القاضي الكوفي شريك بن عبدالله النخعي (ت177هـ/793م)، كان يختلف إلى باب الخليفة المهدي ويتحاور مع بعض الفقهاء الذين كانوا بباب الخليفة بشأن النبيذ”.

واتسعت دائرة المناظرات لتشمل الفقه أيضًا، وأبرز هذه المناظرات المناظرة التي جرت بين الإمام الشافعي حين زار بغداد والفقيه الكوفي محمد بن الحسن الشيباني والتي ظهر فيها الإمام الشافعي مدافعًا عن المذهب المالكي.

“كانت مجالس المناظرة تعقد في بغداد في مختلف الفنون، وكان الناس يُهرعون إليها ليطلعوا على ما يدور فيها من حسن الحوار واحتكاك الأفكار بالأفكار، وكان الأدب الرائع يسود تلك المجالس، والدقة في البحث تخيّم عليها .

وأما الجد في طلب العلوم فقد كان البغداديون موصوفين بالجلد والجد في طلب العلم على اختلاف ضروبه وتنوع فروعه، وقد كان سفيان بن عيينة كثير الثناء على شباب البغداديين وشدة رغبتهم في طلب العلم، ويفضلهم على شباب البلاد الأخرى التي عرفها في زمانه، وقال ابن علية: ” ما رأيت قومًا أحسن رغبة ولا أعقل في طلب الحديث من أهل بغداد.

ومن مظاهر الحياة العلمية في مدينة بغداد في القرن الثاني الهجري المكتبات والتي كانت تشتمل على الكتب في شتى صنوف المعرفة.

وقد بدأت دار الكتب في أول ظهور لها في تاريخ الحضارة الإسلامية أيام الخليفة هارون الرشيد ثم ازدهرت في أيام المأمون.

” أنشأ الرشيد بناية خاصة في قصره جمع إليها الكثير من الكتب العربية وغير  العربية ثم جاء المأمون من بعده فزاد في ثروة هذه الخزانة، وأطلق على البناية التي تضمنتها اسم “بيت الحكمة”، وكانت تشتمل على الكتب الشرعية واللسانية وما ترجم عن اليونانية والفارسية والسنكريتية والكلدانية والقبطية، كما تضم جماعة من الوراقين الذين عهد إليهم بنسخ الكتب”.

وإذا انتقلنا إلى  الكتب التي تم تأليفها في بغداد في القرن الثاني الهجري فإننا سوف نجد عددًا من الكتب التي هي أساس العلم ، وبمثابة الأصول والكتب التأسيسية في أكثر من علم من العلوم الشرعية.

سوف نجد كتاب (الخراج) في المالية الإسلامية للدولة، والذي ألفه القاضي أبو يوسف، و كتاب (السير الكبير) في العلاقات الدولية، الذي ألفه الإمام محمد بن الحسن الشيباني، وكتاب (الرسالة) في أصول الفقه الإسلامي، والذي ألفه الإمام الشافعي، وكلها كتب أولية، هي أول من صنف في الباب، ونجد (المسند) في الحديث النبوي الشريف، الذي ألفه الإمام أحمد بن حنبل، وغيرها من الكتب المهمة في تاريخ التراث الإسلامي.

ومما ساعد على شيوع التأليف التسهيل الذي جدّ في جانب توفر أدوات الكتابة وخاصة الورق الذي يستخدم في كتابة الكتب.

“فإن العباسيين قد أنشأوا لأول مرة صناعة هامة جدًا بالنسبة للحياة الثقافية وتقدم الحركة العلمية ، ونعني بها صناعة الورق ، فحتى أوائل القرن الثاني كان الورق يستورد من مدينة كاشغر بالصين،ولهذا كان وجوده شحيحًا وكانت أثمانه غالية، وهذه النهضة الصناعية كانت من بين أسباب وعوامل الرقي الفكري والنهضة العلمية بمظاهرها وفروعها المختلفة”.

وقد شهدت السنوات التي تم بناء مدينة بغداد فيها نشاطًا ملحوظًا في التأليف.

” وقد واكب إنشاء بغداد حدث خطير في الحياة العقلية الإسلامية إذ اتجه العلماء إلى تمييز العلوم بعضها عن بعض وإلى تصنيفها وتبويبها، وقبل أن يبدأ المنصور تأسيس بغداد لعامين (في حدود عام ثلاثة وأربعين ومائة) بدأت حركة التدوين، فقد شرع العلماء تدوين الحديث والفقه وتفسير القرآن.

ومما هو جدير بالملاحظة في هذا الباب أن التأليف في الفقه والرأي قد بدأ في بغداد بأبي حنيفة”.

ونعرض تعريفًا بأهم الكتب التي تم تأليفها ببغداد في تلك الفترة.

– كتاب ” الخراج” لأبي يوسف القاضي.

“ترك أبو يوسف تراثا ضخما من المصنفات أحصاها ابن النديم في “الفهرست” لكن لم يبق منها إلا كتابان فقط، هما:

1- كتاب اختلاف أبي حنيفة وابن أبي ليلى، وفيه نجد آراء الشافعي وأبو يوسف في المسائل المختلف فيها مع آراء كل من أبي حنيفة وابن أبي ليلى.

 2- كتاب الخراج، وهو في الأصل رسالة كتبها للخليفة هارون الرشيد بينَّ فيها كيفية إدارة موارد الدولة المالية،”.

يعد كتاب الخراج نوعا جديدا من التأليف لدى المسلمين، إذ يبين كيفية إدارة الدولة لمواردها المالية وبخاصة من الضرائب والرسوم التي يحق للدولة جبايتها، ويتطرق لبعض الأمور الإدارية المتعلقة بكيفية تعيين عمال الخراج وأصحاب البريد في الولايات، كما يتناول بعض الأمور القانونية مثل كيفية إنزال العقوبات بالعمال المرتشين، وكيفية التعامل مع أهل الشرك وما إلى ذلك من أمور كانت دولة الخلافة في أمس الحاجة إليها.

وأما الكتاب الثاني الرائد في بابه فهو كتاب “السير الكبير” لمحمد بن الحسن الشيباني.

ولبيان أهمية الكتاب نشير إلى أن الشيباني وضعه في ستين دفترا وفور الانتهاء منه أمر برفعه إلى الخليفة هارون الرشيد فاطلع عليه وأعجب به وعده من مفاخر أيامه، وبعث ابنيه الأمين والمأمون إلى مجلس الشيباني ليسمعوا الكتاب منه.

” وبالجملة فإن كتاب السير الكبير الصادر في القرن الثاني الهجري أرسي معالم نظرية إسلامية متكاملة في العلاقات الدولية في حال الحرب والسلم، وقد التفت الدارسون الغربيون إلى هذا المصنف الفريد فقد اطلع عليه الباحث الهولندي جروسيوس مؤسس علم القانون الدولي العام  أثناء نفيه إلى الأستانة وقد تأثر به كثيرا في كتابه “قانون الحرب والسلم” ولذلك وصف فون بروغشتال الشيباني بأنه “جروسيوس المسلمين”، أما المستشرق الفرنسي بارييه دي مينار فقد نشر بحثا حول الكتاب بالمجلة الأسيوية عام 1852م، كما اهتم به كارل بروكلمان الذي أحصى له سبعة عشر مخطوطة.

وأما الكتاب الثالث فهو كتاب (الرسالة) وهو كتاب من الكتب التأسيسية في تاريخ التراث الإسلامي، ومرجعًا من المراجع الهامة في دراسة التشريع الإسلامي ، ويعتبر أول ما ألف في علم أصول الفقه كما قال الناظم في “مراقي السعود” :

أول من ألفه في الكتب  محمد بن شافع المطلبي

وهو كتاب يدل على عبقرية الإمام الشافعي، وذكائه وسعة علمه،وقد ساهم هذا الكتاب المهم في تنظيم تفكير العقل المسلم وتأطيره وفق تعاليم الوحي.

 وقد ألفه بطلب من العالم الكبير عبدالرحمن بن مهدي، ” ففي سنة 198هـ طلب عبدالرحمن بن مهدي من الشافعي أن يضع له كتابًا فيه معاني القرآن الكريم، وبيان الناسخ والمنسوخ من القرآن والسنة والإجماع، فوضع له كتاب الرسالة، وترجع أهمية الرسالة إلى أنها نقطة الاتصال التاريخية للفقه الإسلامي؛ إذ أنه كان وسطًا بين أهل الرأي وأهل الحديث “.

وأما الكتاب الرابع من الكتب التي تم تأليفها في بغداد في القرن الثاني الهجري وهو من أعظم الكتب المسندة في أحاديث النبي صلى الله عليه وسلم فهو كتاب (المسند) الذي ألفه الإمام أحمد بن حنبل.

” صنف كتابه المسند، وجمع فيه من الحديث مالم يجمعه غيره، وقيل إنه كان يحفظ ألف ألف حديث وبلغ من تقدير الشافعي له أن قال: خرجت من بغداد وما خلفت فيها أتقى ولا أفقه من ابن حنبل، وقد عارض مذهب المعتزلة الذي اعتنقه الخليفة المأمون، فلما دعي إلى القول بخلق القرآن ولم يجب ضُرب وحُبس، وأخذ عنه جماعة من العلماء الأجلاء نخص بالذكر منهم محمد بن إسماعيل البخاري، ومسلم بن الحجاج النيسابوري.”

وضع الإمام أحمد هذا الكتاب ليكون مرجعًا للمسلمين وإمامًا ، وجعله مرتبًا على أسماء الصحابة الذين يروون الأحاديث كما هي طريقة المسانيد ، فجاء كتابًا حافلاً كبير الحجم ، يبلغ عدد أحاديثه أربعين ألفًا تقريبًا ، تكرر منها عشرة آلاف حديث ومن أحاديثه ثلاثمائة حديث ثلاثية الإسناد – أي بين راويها وبين النبي صلى الله عليه وسلم ثلاثة رواة. –

وقد رتب كتابه على المسانيد فجعل مرويات كل صحابي في موضع واحد ، وعدد الصحابة الذين لهم مسانيد في مسند الإمام أحمد 904 صحابي. 

ومن الكتب التي تعتبر أول ما صنف ببابها كتاب (العلل) في علم الحديث ليحيى بن سعيد القطان ، فبحسب ما لدينا من معلومات فإن يحيى بن سعيد القطان التميمي البصري نزيل بغداد (المتوفى عام 198هـ/ 813م) يعد أقدم من صنف في هذا العلم، وكتابه (العلل) لم يرتبه على الأبواب الفقهية ولا المسانيد، ثم تتابعت بكثرة مصنفات العراقيين في القرنين الثالث والرابع الهجريين.

وكذلك في علم غريب الحديث  ” يعد كتاب (غريب الحديث) لأبي عبيد القاسم بن سلام الجمحي البغدادي، المتوفى (سنة 224هـ/838م) من أجمع الكتب وأفضلها في هذا الباب، صنفه في بغداد كما يقول الداودي، وقد أثنى عليه عامة أهل العلم، قال ابن درستويه بعد أن ذكر أول من صنف في هذا العلم: فجمع أبو عبيد عامة ما في كتبهم وفسره، وذكر الأسانيد وأجاد تصنيفه، فرغب فيه أهل الحديث والفقه واللغة لاجتماع ما يحتاجون إليه فيه”.

وتنوعت المؤلفات في بغداد في علوم السنة النبوية، وشارك العلماء القادمون إلى بغداد في تصنيف تلك الكتب المهمة .

” فمن أصحاب المؤلفات في الحديث من علماء الكوفة الوافدين إلى بغداد:

-أصحاب المسانيد: يحيى بن زكريا بن أبي زائدة مولى محمد بن المبشر الهمذاني (ت181هـ/800م).

-أصحاب المصنفات: عبدالله بن أبي شيبة، أبو بكر بن محمد بن إبراهيم بن عثمان العبسي الكوفي (ت225هـ/849م).

وفي مجال علوم القرآن الكريم نجد أيضًا بغداد تحتضن أوائل الكتب المؤلفة في هذا الباب.

فمن أشهر قراء بغداد الكسائي وهو من القراء السبعة توفي سنة 179هـ ، ومن القراء المشهورين حمزة الزيات توفي في خلافة المنصور سنة 156هـ، ولقد ظهرت في العصر العباسي الأول مصنفات في التفسير ولكنها فقدت، نخص بالذكر منها تفسير مقاتل بن سليمان المتوفى سنة 150هـ، وأصله من بلخ وانتقل إلى بغداد، وقدره العلماء  في بغداد حتى إن الشافعي قال: ” الناس كلهم عيال في ثلاثة، على مقاتل في التفسير، وعلى زهير بن أبي سلمى في الشعر، وعلى أبي حنيفة في الكلام.

وأما بالنسبة للإمام علي بن حمزة الكسائي العلم البارز في علوم القرآن ”  فبالإضافة إلى جهود الكسائي في التعليم وإعداد التلاميذ في علم القراءات ببغداد، فقد كانت له إسهامات واضحة في التأليف في هذا الميدان، فله من الكتب كتاب (القراءات)، وكتاب (مقطوع القرآن وموصوله)، وكتاب (اختلاف مصاحف أهل المدينة وأهل الكوفة وأهل البصرة).

هذه ملامح يسيرة عن الحياة العلمية في القرن الثاني الهجري في بغداد التي كانت عاصمة للحضارة للإسلامية في ذلك العصر الزاهر ، وهي إشارات إلى هذا النشاط العلمي الذي بلغ القمة بفضل أئمة أعلام ورثوا علمًا نافعًا رحمهم الله برحمته الواسعة وجزاهم خير الجزاء.


المراجع :

– أبو جعفر محمد بن جرير الطبري:تاريخ الطبري – تاريخ الرسل والملوك

تحقيق محمد أبو الفضل إبراهيم – دار المعارف بمصر، 1387هـ – 1967م

– الإمام الحافظ أبو بكر أحمد بن علي بن ثابت الخطيب البغدادي :تاريخ مدينة السلام، حققه وضبط نصه وعلق عليه: الدكتور بشار عواد معروف،دار الغرب الإسلامي

-أبو إسحاق الشيرازي: طبقات الفقهاء، حققه وقدم له إحسان عباس، دار الرائد العربي، بيروت- لبنان، ب ت

-الإمام محمد أبو زهرة: أبو حنيفة حياته وعصره.. آراؤه وفكره، دار الفكر العربي

-عبدالغني الدقر: الإمام الشافعي.. فقيه السنة الأكبر، ط السادسة،1417هـ-1996م، دار القلم: دمشق

– سليمان الدخيل :كتاب الفوز بالمراد في تاريخ بغداد،تقديم وتعليق الدكتور محمد زينهم محمد عزب،ب ت، دار الآفاق العربية

– عوض عبدالكريم الذنيبات: إسهامات علماء الكوفة في الحركة الفكرية في بغداد من 149-344هـ/766-945م، رسالة دكتوراه،1421هـ – 2001م

 – عوض عبدالكريم الذنيبات: إسهامات علماء الأمصار في علم القراءات في بغداد في العصر العباسي من (149-447هـ/766-1055م)، مجلة (دراسات) العلوم الإنسانية والاجتماعية، المجلد 41 ، العدد2 ، 2014

– الدكتور طه عبدالمقصود أبو عبيه :الحضارة الإسلامية – دراسة في تاريخ العلوم الإسلامية-نشأتها في المشرق – انتقالها إلى الأندلس- دعم الأندلسيين لها – تأثيرها على أوربا، دار الكتب العلمية، بيروت، لبنان

– د.أمين القضاة : مدرسة الحديث في البصرة حتى القرن الثالث الهجري، دار ابن حزم، الطبعة الأولى، 1419هـ- 1998م، بيروت- لبنان

– د.سعد بن موسى الموسى : تاريخ الحياة العلمية في المدينة النبوية خلال الفرن الثاني الهجري، دار القاسم للنشر والتوزيع،الرياض،ط الأولى، 1428هـ/2007م

– الدكتور محمد سمير نجيب اللبدي: أثر القرآن والقراءات في النحو العربي،ط2011،دار الفلاح للنشر والتوزيع- الأردن

– أحمد عبدالستار الجواري:الشعر في بغداد حتى نهاية القرن الثالث الهجري، ، الطبعة الأولى، 2007م،المؤسسة العربية للدراسات والنشر

– محمد مصطفى هدارة: اتجاهات الشعر العربي في القرن الثاني الهجري،دار المعارف – القاهرة،1963م

– طه الراوي :بغداد مدينة السلام ، مؤسسة هنداوي للتعليم والثقافة، 2014