فصاحة القرآن وبلاغته ونظمه من أنواع الإعجاز فيه، فالمتأمل فيها يندهش لروعة ما يقف عليه، ويتبين له من مكنونات وأسرار، تأسر العقول وتهتز لها النفوس وتنتشي طربا.

القرآن لا تنقضي عجائبه ولا يخلق عن كثرة الرد ولا يشبع منه العلماء، وكيف لا وهو كلام الله جل* ومن له أمعن بالتأمل * بان له كل خفي وجلي. كما يقول الإمام السيوطي رحمه الله.

ومن إعجاز نظمه: التَّقديم والتَّأخير، فذلك من أساليب البلاغة الدالة على التمكن في الفصاحة والبيان، والقرآن هو أعلى مثل في ذلك، فإنا نراه يقدم لفظة مرة ويؤخرها مرة أخرى، وقد يقدم الأدنى قبل الأعلى والعام قبل الخاص وهكذا.

ولا شك أن لذلك معاني عظيمة، ولطائف جليلة، وقد تتبعها العلماء فاستخرجوا بعضها، ومن ذلك على سبيل المثال تقديم اللهو على التجارة وتقديم التجارة على اللهو في سورة الجمعة: (وَإِذَا رَأَوْا تِجَارَةً أَوْ لَهْواً انفَضُّوا إِلَيْهَا وَتَرَكُوكَ قَائِماً قُلْ مَا عِندَ اللَّهِ خَيْرٌ مِّنَ اللَّهْوِ وَمِنَ التِّجَارَةِ وَاللَّهُ خَيْرُ الرَّازِقِينَ {11} فلماذا كان كذلك وما نكتته؟

يجيب ابن جزي رحمه الله تعالى في كتابه التسهيل فيقول: “إن قيل: لم قدم اللهو هنا على التجارة وقدم التجارة قبل هذا على اللهو؟ فالجواب: أن كل واحد من الموضعين جاء على ما ينبغي فيه، وذلك أن العرب تارة يبتدئون بالأكثر ثم ينزلون إلى الأقل، كقولك: فلان يخون في الكثير والقليل، فبدأت بالكثير ثم أردفت عليه الخيانة فيما دونه، وتارة يبتدئون بالأقل ثم يرتقون إلى الأكثر، كقولك: فلان أمين على القليل والكثير، فبدأت بالقليل ثم أردفت عليه الأمانة فيما هو أكثر منه، ولو عكست في كل واحد من المثالين لم يكن حسنا، فإنك لو قدمت في الخيانة القليل لعلم أنه يخون في الكثير من باب أولى وأحرى، ولو قدمت في الأمانة ذكر الكثير لعلم أنه أمين في القليل من باب أولى وأحرى، فلم يكن لذكره بعد ذلك فائدة، وكذلك قوله: وإذا رأوا تجارة أو لهوا انفضوا إليها ـ قدم التجارة هنا ليبين أنهم ينفضون إليها، وأنهم مع ذلك ينفضون إلى اللهو الذي هو دونها، وقوله: خير من اللهو ومن التجارة ـ قدم اللهو ليبين أن ما عند الله خير من اللهو، وأنه أيضا خير من التجارة التي هي أعظم منه، ولو عكس كل واحد من الموضعين لم يحسن. اهـ.

ومن أمثلة ذلك أيضا: الآيات التي ذكرت الجن والإنس، فأحيانا تقدم الجن على الإنس وأحيانا تقدم الإنسن على الجن، فلماذا لا يطرد تقديم الجن باعتبار كونهم خلقوا أولا؟ أو يطرد تقديم الإنس إذا كان ذلك لشرف ونحوه.؟

والجواب أن سبب ذلك التقديم والتأخير هو السياق، ففي سياق التحدي بالقرآن الكريم، جاء تقديم الإنس على الجن، لأن الإنس هم المقصودون بالتحدي أولاً فقدموا، كما في سورة الإسراء الآية 88: ﴿قُل لَّئِنِ اجْتَمَعَتِ الإِنسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَن يَأْتُواْ بِمِثْلِ هَـذَا الْقُرْآنِ لاَ يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرا﴾.

وأما في سياق التحدي بالنفوذ من أقطار السموات والأرض، والقدرة الخارقة فقد جاء تقديم الجن؛ لكونهم أقدر وأقوى من الإنس فقدموا هنا كما في سورة الرحمن الآية: 33: ﴿يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنسِ إِنِ اسْتَطَعْتُمْ أَن تَنفُذُوا مِنْ أَقْطَارِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ فَانفُذُوا لا تَنفُذُونَ إِلَّا بِسُلْطَانٍ﴾. وهكذا.

ولقائل أن يقول هنا: وجدت تقديم صحف إبراهيم على صحف موسى في قوله تعالى  (إِنَّ هَٰذَا لَفِي الصُّحُفِ الْأُولَىٰ * صُحُفِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَىٰ) الأعلى 18- 19  وهذا لا إشكال فيه لكون إبراهيم أسبق زمانا إنما المشكل تقديم صحف موسى مع كونه متأخرا عن إبراهيم في قوله تعالى: (أَمْ لَمْ يُنَبَّأْ بِمَا فِي صُحُفِ مُوسَىٰ * وَإِبْرَاهِيمَ الَّذِي وَفَّىٰ) النجم: 36-37

وجواب ذلك  كما يقول الزركشي في البرهان: “أنه إنما قدم ذكر موسى لوجهين: أحدهما: أنه في سياق الاحتجاج عليهم بالترك وكانت صحف موسى منتشرة أكثر انتشارا من صحف إبراهيم. وثانيهما: مراعاة رؤوس الآي”.

والسيوطي رحمه الله تعالى ممن عنوا بتتبع أسباب التقديم والتقدير وبيان بعض نكت ذلك فقد ذكر في كتابه معترك الأقران في إعجاز القرآن عشرة أسباب لذلك ولا يدعي حصرها في هذه الأسباب وإنما قال “ظهر لي منها” ومن الأسباب التي ذكر أن يكون التقديم للحث على المقدم والعناية به خشية تضييعه وإهماله وإن كان المؤخر آكد منه، أو يكون ذلك التقديم سببه السبق فالمقدم في الذكر سبق المؤخر في الإيجاد ونحوه، أو لكون المقدم أكثر أو أعلى أو العكس، أو يكون التقديم للتعظيم أو التحقير ونحو ذلك.

يقول رحمه الله : ( الخامس “أي من أسباب التقديم”: الحث عليه والحض على القيام به حذراً من التهاون به؛ كتقديم الوصية على الدين في قوله: ﴿مِن بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِي بِهَا أَوْ دَيْن﴾ [النساء: 11] مع أن الدين مقدم عليها شرعاً.

السادس: السبق، وهو إما في الزمان باعتبار الإيجاد؛ كتقديم الليل على النهار، والظلمات على النور، وآدم على نوح، ونوح على إبراهيم، …، والملائكة على البشر في قوله: ﴿اللَّهُ يَصْطَفِي مِنَ الْمَلائِكَةِ رُسُلاً وَمِنَ النَّاس﴾ [الحج: 75].

والأزواج على الذرية في قوله: ﴿قُل لِّأَزْوَاجِكَ وَبَنَاتِك﴾ [الأحزاب: 59].

والسِنة على النوم في قوله: ﴿لاَ تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلاَ نَوْمٌ﴾ [البقرة: 255]…

السابع: السببية؛ كتقديم العزيز على الحكيم؛ لأنه عز فحكم، والعليم عليه؛ لأن الإحكام والإتقان ناشئ عن العلم. ومنه تقديم العبادة على الاستعانة في سورة الفاتحة؛ لأنها سبب حصول الإعانة وكذا قوله: ﴿إِنَّ اللّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ﴾ [البقرة: 222]؛ لأن التوبة سبب للطهارة.

الثامن: الكثرة، كقوله: ﴿ فَمِنكُمْ كَافِرٌ وَمِنكُم مُّؤْمِن﴾ [التغابن: 2] لأن الكفار أكثر، قلت فقدمهم على المؤمنين.

قيل: وقدم السارق على السارقة؛ لأن السرقة في الذكور أكثر. والزانية على الزاني فيهن أكثر…

التاسع: الترقي من الأدنى إلى الأعلى، كقوله: ﴿أَلَهُمْ أَرْجُلٌ يَمْشُونَ بِهَا أَمْ لَهُمْ أَيْدٍ يَبْطِشُونَ بِهَا أَمْ لَهُمْ أَعْيُنٌ يُبْصِرُونَ بِهَا أَمْ لَهُمْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا…﴾ [الأعراف: 195]، بدأ بالأدنى لغرض الترقي، لأن اليد أشرف من الرجل والعين أشرف من اليد والسمع أشرف من البصر.

العاشر: التدلي من الأعلى إلى الأدنى، كقوله: ﴿لَا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلَا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصَاهَا﴾ [الكهف: 49] ﴿لاَ تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلاَ نَوْم﴾ [البقرة: 255]…).

وللتقديم أسباب أخرى كثيرة كما يقول الزركشي في البرهان ومنها أن يكون المقدم في الذكر أدل على كمال القدرة وأعجب من المتأخر كقوله تعالى: ﴿وَاللَّهُ خَلَقَ كُلَّ دَابَّةٍ مِن مَّاء فَمِنْهُم مَّن يَمْشِي عَلَى بَطْنِهِ وَمِنْهُم مَّن يَمْشِي عَلَى رِجْلَيْنِ وَمِنْهُم مَّن يَمْشِي عَلَى أَرْبَعٍ ﴾ [النور: 45].

فما يمشي على بطنه أعجب مما يمشي على رجلين، وما يمشي على رجلين أعجب مما يمشي على أربع وأدل على كمال القدرة.

ومن ذلك أيضا قوله تعالى: ﴿وَسَخَّرْنَا مَعَ دَاوُودَ الْجِبَالَ يُسَبِّحْنَ وَالطَّيْرَ﴾ [الأنبياء: 79].

فتقديم الجبال هنا على الطير؛ لأن تسخيرها له وتسبيحها معه أعجب، وأدل على القدرة وأدخل في الإعجاز؛ لأن الجبال جماد، والطير حيوان.

وقد يكون التقديم لإرادة التبكيت والتعجب من حال المذكور، كما فى قوله تعالى: (وَجَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكاءَ الْجِنَّ) الأنعام: 100، فالأصل « وجعلوا الجن شركاء لله» لكنه قدم لأن المقصود التوبيخ، وتقديم (الشركاء) أبلغ فى حصوله.

وقد يكون التقديم غرضه مدح المقدم والثناء عليه وتعظيمه، أو تحقيره  أو يكون التقديم لأجل الترتيب كما في آية الوضوء، وكفارة الظهار، أو يكون التقديم لأغراض بلاغية أخرى.

ما أحوجنا إلى تدبر كتاب الله والوقوف عند هذه الجماليات التي لا تخطئها العين في كل سورة بل في كل آية منه.

بِهِ فُنُونُ المَعَانِي قَدْ جَمَعْنَ فَمَا *** تُفْتِرُ مِنْ عَجَبٍ إِلَّا إِلَى عَجَبٍ.

أَمْرٌ وَنَهْيٌ وَأَمْثَالٌ وَمَوْعِظَةٌ *** وَحِكْمَةٌ أَوْدَعَتْ فِي أَفْصَحِ الكُتُبِ.

لطائف يَجْتَلِيهَا كُلُّ ذِي بَصَرٍ *** وَرَوْضَةٌ يَجْتَنِيهَا كُلُّ ذِي أَدَبٍ

 


المراجع :

1- الموسوعة القرآنية لإبراهيم الأبياري” التقديم والتأخير” 3/55.

 2- التسهيل لعلوم التنزيل لابن جزي الكلبي الغرناطي 2/376.

3- البرهان في علوم القرآن للزركشي 3/233.

4- معترك الأقران في إعجاز القرآن للسيوطي :125.

5- بحث: التقديم والتأخير في القرآن. لقسطاس إبراهيم النعيمي.

6- بحث: التقديم والتأخير في القرآن الشيخ صلاح نجيب الدق.