حديث صحيح ربما لم يسمعه كثيرون من ذي قبل، جعلني أتوقف عنده وأتأمله بعمق.. فقد جاء في صحيح البخاري عن خولة بنت عامر الأنصارية، وهي امرأة حمزةَ رضي الله عنهما، قالت: سمعت رسول الله – ﷺ – يقول:” إن رجالاً يتخوّضونَ في مال الله بغير حق، فلهم النار يوم القيامة “.
يتخوّضون – كما في معاجم اللغة – أي يتصرفون في الشيء بالباطل. وهنا في الحديث، مال المسلمين، هو ذاك الشيء الذي يتعرض منذ أمد بعيد للتصرف الطائش غير المبني على أصول شرعية.. هذا التصرف الطائش قد يكون على شكل إدارة غير واعية ولا علمية ولا مدروسة لهذا المال، أو تبذيره على ما لا نفع يُرجى من ورائه، أو سرقته واستغلاله بطريقة وأخرى، أو الانتفاع به دون وجه حق، أو غير ذلك من أوجه التصرف غير الجائز شرعاً وقانوناً وعُرفاً.
ملخص شرح الحديث، أن النبي – ﷺ – يخبر عن أناس يتصرفون في أموال المسلمين بالباطل، ويأخذونها بغير حق. وأموال المسلمين يدخل فيها كل ما يمكن تصنيفه تحت مصطلح ( المال العام ) أو كما جاء في الحديث ( مال الله )، وهو كل إيرادات الدولة، أو كل ما يدخل خزينة الدولة عبر مؤسساتها المختلفة، من رسوم الخدمات والضرائب والثروات العامة. ومن ذلك أيضاً، أموال اليتامى والأوقاف والزكوات والصدقات التي تقوم عليها الجمعيات والهيئات الخيرية. كما تدخل ضمن المال العام كذلك، الهبات والعطايا لموظفي الدولة.
كل ما سبق ذكره يدخل تحت مسمى مال الله أو المال العام بالمصطلح المعاصر، وبالتالي ووفق الحديث الشريف، لا يجوز التصرف فيه إلا بحقه. وحقه ها هنا، إما نصوص الشرع أو ما يوضع من قوانين وتشريعات لا تتعارض مع الشرع بطبيعة الحال. وإن التخوّض في هذا المال، كما جاء في الحديث، أي الأخذ منه بغير استحقاق ولا إذن، عاقبته كما أخبرنا الصادق المصدوق – ﷺ – النار يوم القيامة.
المال العام مقدس
هكذا منزلة المال العام في الإسلام. له حرمة، بل يكاد يكون مقدساً من شدة اهتمام الإسلام به، وأهمية إدارته بشكل صحيح، من حيث جمعه وإنفاقه والحفاظ عليه واستثماره، ومنع كل من تسول له نفسه الاعتداء عليه، حتى لا يجعله عُرضة للهدر والضياع.
وحين توعد رسول الله – ﷺ – المتخوّض في المال العام أو المتصرف فيه بغير وجه حق، ليصل مصيره أن يكون من أهل النار – والعياذ بالله – فلأن الأمر شأنه عظيم، لا يتحمل استهتار وما شابه من سلوكيات تبدد ذلك المال وتضيع حقوق العباد والبلاد.
المال العام في الإسلام كما يراه أهل العلم، يجب أن يقوم عليه أناس يتصفون بالأمانة والنزاهة، ولا يتصرفون من تلقاء أنفسهم، بل وفق قوانين وارشادات معينة، ومن ثم تقوم الأمة والذي يمثلها برلمان أو مجلس منتخب، بالموافقة على أوجه الصرف المتنوعة، وفق قواعد محددة وشفافية بالغة. ثم بعد ذلك تأتي المراقبة والمساءلة والمحاسبة من الجهة التي تمثل الأمة – كما أسلفنا – أو أي جهة أخرى يتم الاتفاق عليها لتقوم بمسائل المراقبة والمحاسبة، نيابة عن الأمة، من أجل منع كل المسارب التي يتسرب منها المال العام في غير وجه حق.
في التاريخ الإسلامي، كان المال العام وإدارته بمثابة العلامة الفارقة بين الحكم الرشيد والحكم الفاسد. الإدارة الصارمة الشفافة النزيهة للمال العام، كانت تدل على أن الحكم رشيد، يطمئن الناس إلى أموالهم وحقوقهم ومستقبل الأجيال القادمة، فيما كان سوء التدبير أو ما نسميه بالفساد في إدارة المال العام، عبر محسوبيات ورشاوى وسرقات وأكل ذلك المال بالباطل، دلالة على أن الحكم فاسد غير نزيه، يقلق الناس على حاضرهم ومستقبلهم.
نماذج خالدة
يعتبر الخليفة الراشد عمر بن عبد العزيز نموذجاً فريداً في الإدارة الصارمة العادلة للمال العام، وكيف لا وجده الأكبر هو الفاروق عمر بن الخطاب، الذي كان أول من أنشأ بيت مال للمسلمين، وأول من استحدث فكرة الذمة المالية للولاة أو المسؤولين، والذي كان – رضي الله عنه – يتعامل مع المال العام كمن يتعامل مع مال اليتيم، حيث قال يوماً: إني أنزلت نفسي من مال الله بمنزلة والي اليتيم، إن احتجتُ أخذتُ منه، فإذا أيسرتُ رددْتُه، وإن استغنيتُ استعففتُ “.
كان من القضايا التي اشتغل عليها عمر بن عبد العزيز، هو تطويق قضايا الفساد الإداري والمالي في الدولة – كما يقول الدكتور علي الصلابي – حيث بدأ في انتقاء ولاته والعاملين معه من أهل التقوى وحُسن التدين والأمانة. ثم التوسعة على الموظفين في معاشاتهم كأول إجراء إداري. حيث رأى في ذلك الإجراء وقاية لهم من الخيانة، رغم تقتيره على نفسه وأهله، وهو أمير للمؤمنين. ثم منع الموظفين من قبول الهدايا، وقد رد على من قال له: ألم يكن رسول الله – ﷺ – يقبل الهدية ؟ قال بلى، ولكنها لنا ولمن بعدنا رشوة.
منعهم كذلك من ممارسة التجارة، إدراكاً منه أن ممارسة الموظفين والولاة للتجارة، لا تخلو من أحد أمرين، إن لم يكن الاثنان معاً: فإما أن ينشغل في تجارته ومتابعتها عن أمور واحتياجات المسلمين، وإما أن تحدث محاباة له في التجارة لموقعه، ويصيب أموراً ليست له من الحق في شيء.
ثم أخيراً، كان يتابع ولاته ويحاسبهم بنفسه، لاسيما في الجوانب المالية، وتطبيق مبدأ ( من أين لك هذا ) . وقد كتب إلى أحد المسؤولين عنده:” لقد كثر شاكوك وقل شاكروك، فإما عدلت، وإما اعتزلت والسلام “.
إن المحافظة على المال العام، وصيانته من النهب والهدر والاستغلال، مسؤولية الحاكم والمحكومين جميعاً. الكل يلتزم بالعمل، بحسب موقع كل شخص ووظيفته، على صيانة هذا المال والمحافظة عليه بكل الطرق والوسائل المتاحة، على اعتبار أن هذا المال في نهاية الأمر هو منهم وإليهم بالعدل .. وقد ردّ أبو بكر الصديق – رضي الله عنه – لما حضرته الوفاة، كل ما زاد عنده إلى بيت المال.
عن الحسن بن علي – رضي الله عنهما – قال: لما احتُضِرَ أبو بكر – رضي الله عنه – قال:” يا عائشة، انظري اللِقحة التي كنا نشرب من لبنها، والجفنةَ التي كنا نَصطَبحُ فيها، والقَطيفة التي كنا نلبسُها، فإنّا كنا ننتفعُ بذلك حين كنا في أمر المسلمين، فإذا مِتُّ فاردُديه إلى عمر “. فلما مات أبو بكر – رضي الله عنه – أرسَلت بِه إِلى عمر – رضي الله عنه – فَقال عمر:” رضي الله عنك يا أبا بكر، لقد أتعبتَ مَن جاء بعدك “. رضي الله عنهم وأرضاهم أجمعين.