أوضح القرآن أن الذي يجسد / يمثل الضمير المجتمعي، هو ذلك الشخص (فردًا أو طائفة أو أمة) الذي يمتلك الدراية الاجتماعية، ويكون لديه المعرفة الكاملة بكل ما يسهم في جلاء الحقيقة الاجتماعية، وفي الوعي بعناصر حياة المجتمع وذخيرته المعنوية والفكرية، وكذلك الوعي بكل وسائل التضليل الاجتماعي والاقتصادي والديني والسياسي، حتى يكتمل الوعي بكل ما هو إيجابي لحياة المجتمع وكل ما هو سلبي يمكن أن يضر المجتمع ويسبب انهياره. ومن ثم يمثل الضمير المجتمعي كل من يمتلك تلك الحقيقة الاجتماعية والمعرفة الكاملة.
والفئة الوحيدة التي خصصها القرآن بالتوجيه أو بالأحرى اللوم على عدم قيامها بواجبها وبوظيفتها في هذا التمثيل ووجه لها توبيخًا مباشرًا لهذا النكوص والنكوث هي فئة “الربانيون والأحبار”. وهو ما يبدي أنهم أكثر فئات المجتمع وظيفية وتأهلًا للقيام بتجسيد الضمير الجمعي وتمثيله في المواقف اللازمة والخطرة في حياة المجتمع، لذا فإن القرآن يعبر عن اندهاشه بعدم القيام بهذا الدور، يقول تعالى:{لَوْلَا يَنْهَاهُمُ الرَّبَّانِيُّونَ وَالْأَحْبَارُ عَن قَوْلِهِمُ الْإِثْمَ وَأَكْلِهِمُ السُّحْتَ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَصْنَعُونَ } [المائدة : 63]. والربانيون والأحبار هم الأئمة والعلماء، وقيل – أيضًا – الفقهاء والقراء.
وهذه الفئة (الربانيون والأحبار) يمثلون قمة الهرم العلمي والمعرفي والاجتماعي بالتبعية في المجتمع المشار إليه وهم (اليهود) – ولكنهم أيضًا كذلك في كل مجتمع- وذلك بما اؤتمنوا وتعلموا واستحفظوا من قبل الله تعالى بكلماته وكتبه وما فيها من هدى ونور { إنَّا أَنزَلْنَا التَّوْرَاةَ فِيهَا هُدًى وَنُورٌ يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا لِلَّذِينَ هَادُوا وَالرَّبَّانِيُّونَ وَالْأَحْبَارُ بِمَا اسْتُحْفِظُوا مِن كِتَابِ اللَّهِ وَكَانُوا عَلَيْهِ شُهَدَاءَ فَلَا تَخْشَوُا النَّاسَ وَاخْشَوْنِ وَلَا تَشْتَرُوا بِآيَاتِي ثَمَنًا قَلِيلًا }[المائدة : 44].
وقد أوصاهم الله في هذا العلم الذي استحفظوه وأُحفِظوه بأمرين:
1-أن يكونوا شهداء على الناس، أي بأمرهم بالخير ونهيهم عن الشر، وإرشاد الناس إلى طريق الحق ونهيهم عن طريق الضلالة.
2-ألا يساووا خشية الله بخشية الناس، في قول الحق وأمر الناس به ونهيهم عن المنكر وتحذير الناس منه. فإن الناس لا يملكون نفعًا ولا ضرًا، وهم في ذلك بمثابة أنبياء لهم في الوظيفة التي يؤدونها نحوهم وهي الهداية والإنقاذ من الضلال.
3-ألا يُفرِّطوا في علمهم الذي تعلموه من الله، فضلًا عن أن يضيعوه ويستبدلوا به ثمنًا قليلًا، بتواطئهم مع الباطل والمحرفين.
إن حمل هذه الفئة “الربانيون والأحبار” كل هذا العلم وتلك المعرفة وهذه المسؤولية جعلها في قمة هرم المجتمع تمثل ضميره القادر على رده إلى الاستقامة إذا اعوج، وإلى القيام إذا سقط، إلا أن الذي حدث غير ذلك، حيث ترك هؤلاء العلماء النهي عن قول الكذب والزور والعدوان وأكل الرشى في الحكم، فاعتبرهم القرآن في مهلكة كالفاعل، ويذكر القرطبي في تعليقه على هذه الآية بقوله (إن تارك النهي كمرتكب المنكر).
وهنا يسجل القرآن أكبر توبيخ للعلماء في القرآن حيث أنهى الآية ” لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَصْنَعُونَ ” وهو عائد على هذه الفئة “الربانيون والأحبار”. نماذج تجسيد الضمير المجتمعي في القرآن نختم بذكر أربعة نماذج قرآنية لبيان فاعلية “الضمير المجتمعي” في أدائه الدور الوظيفي، التي انطلقت من شعوره بالمكانة والمسؤولية.
النموذج الأول: مؤمن آل فرعون
إن الضمير الجمعي يظهر وقت الحاجة إليه أي عند الضرورة، أي أن وجوده كامن في وجدان المجتمع ولكن فاعليته والإحساس به تظهر حين الخطر الحقيقي الذي يحدق بالمجتمع، كما أننا لا نشعر بغياب الشمس إلا عند الحاجة إلى ضوئها، ولعل ضرورة بيان الحقيقة للناس، أو الإحساس بتعرضها لخطر الاغتيال والتصفية هو أكثر المواقف ضرورة لعمل “الضمير المجتمعي” حتى وإن حمله فرد واحد، كما في حالة مؤمن آل فرعون الذي كان يكتم إيمانه هو وآخرون، فكان هنا بمثابة ضمير هذه الجماعة المؤمنة من ناحية، وضمير المجتمع الذي أراد فرعون تعمية الحقيقة عنه. يقول تعالى {وَقَالَ رَجُلٌ مُّؤْمِنٌ مِّنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَكْتُمُ إِيمَانَهُ أَتَقْتُلُونَ رَجُلًا أَن يَقُولَ رَبِّيَ اللَّهُ وَقَدْ جَاءَكُم بِالْبَيِّنَاتِ مِن رَّبِّكُمْ وَإِن يَكُ كَاذِبًا فَعَلَيْهِ كَذِبُهُ وَإِن يَكُ صَادِقًا يُصِبْكُم بَعْضُ الَّذِي يَعِدُكُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ كَذَّابٌ }[غافر: 28].
النموذج الثاني: نموذج مؤمن آل ياسين
وهو أحد النماذج التي ضرب الوحي بها مثلًا لحادثة تاريخية وقعت بالفعل في بيان حركة الضمير المجتمعي وفاعليته تجاه ما يهدد المجتمع من مخاطر التكذيب بالهداية والإيمان بالضلالة، { وَجَاءَ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ رَجُلٌ يَسْعَىٰ قَالَ يَا قَوْمِ اتَّبِعُوا الْمُرْسَلِينَ، اتَّبِعُوا مَن لَّا يَسْأَلُكُمْ أَجْرًا وَهُم مُّهْتَدُونَ} [ يس: 20-21]. حتى وإن كان الثمن هو التضحية بالنفس، فإن ذلك واقع في تاريخ المجتمع ووجدانه ومخزونه النفسي الممتد، وميراثه من الفضيلة والمعرفة والهداية لمن سيأتي من الأجيال التالية.
النموذج الثالث: الأمة الواعظة
سجل القرآن هذه الواقعة في بنى إسرائيل –أيضًا- أكثر الأمم عصيانًا وتمردًا، {إِذْ قَالَتْ أُمَّةٌ مِّنْهُمْ لِمَ تَعِظُونَ قَوْمًا اللَّهُ مُهْلِكُهُمْ أَوْ مُعَذِّبُهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا قَالُوا مَعْذِرَةً إِلَىٰ رَبِّكُمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ، فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ أَنجَيْنَا الَّذِينَ يَنْهَوْنَ عَنِ السُّوءِ وَأَخَذْنَا الَّذِينَ ظَلَمُوا بِعَذَابٍ بَئِيسٍ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ} [الأعراف: 164-165].
وهنا يوضح القرآن مكانًا جديدًا للضمير المجتمعي وحالة أخرى، وهي الانقسام بين الفاعلية وبين السكوت والاستسلام، وهو هنا يبين حالة المجتمع المنقسم بين ثلاث طوائف: طائفة عاصية لله وتفسد في المجتمع بعصيانها، وطائفة تأمر بالرشد وتنهى عن المعصية والفساد، وطائفة اعتزلت هذه وتلك مع علمها بالفساد وعدم قبوله، إلا أنها ظلت صامتة غائبة عن دورها ووظيفتها في الأمر والنهي، وهي هنا تمثل حالة من ضمير استسلم وقعد عن واجبه، في مقابل تلك الطائفة التي قامت بدورها ووظيفتها في إعذار إلى الله وإلى المجتمع.
ويعلن القرآن النتيجة النهائية وهي هلاك الطائفة الأولى والثالثة، ونجاة الطائفة الثانية التي استجابت لصوت ضميرها في إعلان الحق بالأمر والنهي.
النموذج الرابع: سحرة فرعون
وهذا مثال طارئ لتكوين الضمير الجمعي الصادر عن المعرفة والتوصل إلى الحق، وهو نموذج يأتي في مقابل “الربانيون والأحبار” الذين علموا وعرفوا الحق ولكنهم استبدلوه بثمن قليل، وباعوا آيات الله بمقابل بخس، ولكن الضمير اليقظ الذي يملك القدرة على تبين الحق من الضلال والحقيقة من الزيف، ويشعر بالمسؤولية تجاه بيان الحقيقة التي توصل إليها للمجتمع في حاضره ومستقبله، وتاريخه –أيضًا- الذي يسجل مثل هذه اللحظات الفارقة في حياته. ويقدم هؤلاء السحرة سابقًا “الربانيون” بعد اكتشافهم الحق، بيانًا نابع من ضميرهم الجمعي يسجله الوحي، أعظم كتاب للتسجيل في التاريخ، أما مفاد هذا البيان فهو:
1-قَالُوا لَن نُّؤْثِرَكَ عَلَىٰ مَا جَاءَنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالَّذِي فَطَرَنَا فَاقْضِ مَا أَنتَ قَاضٍ إِنَّمَا تَقْضِي هَٰذِهِ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا.
2-إِنَّا آمَنَّا بِرَبِّنَا لِيَغْفِرَ لَنَا خَطَايَانَا وَمَا أَكْرَهْتَنَا عَلَيْهِ مِنَ السِّحْرِ وَاللَّهُ خَيْرٌ وَأَبْقَىٰ.
3-إِنَّهُ مَن يَأْتِ رَبَّهُ مُجْرِمًا فَإِنَّ لَهُ جَهَنَّمَ لَا يَمُوتُ فِيهَا وَلَا يَحْيَىٰ .
4-وَمَن يَأْتِهِ مُؤْمِنًا قَدْ عَمِلَ الصَّالِحَاتِ فَأُولَٰئِكَ لَهُمُ الدَّرَجَاتُ الْعُلَىٰ.
5-جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذَٰلِكَ جَزَاءُ مَن تَزَكَّىٰ.