نصيحة لطلاب العلوم الشرعية والمتصدّين منهم للتوجيه بشكل خاص، أوصيكم إخواني بمدارسة كتاب الغياثي لإمام الحرمين الجويني -رحمه الله- مدارسة دقيقة خاصة الأبواب الأخيرة منه، والمتعلقة بحال المفتي في زمن الضعف والتشتت وعموم الجهل والظلم وكثرة الحرام.
لماذا هذه النصيحة؟ من المعلوم لكم إخواني أن الفقه المستقر في زمن استقرار الدولة المسلمة ووحدتها وقوّتها مختلف عنه في زمن الضعف والانحدار وشيوع الفتن ونحو ذلك..والحقيقة أن غالب الفقه الذي قرأناه إنما هو الفقه من النوع الأول، إلا أن إمام الحرمين قد وضع كتابه بالأساس للحالة الثانية فسمّاه: (غياث الأمم في التياث الظلم)، ناقش فيه مسائل كثيرة متعلقة بخلوّ الزمان من السلطان العادل، واستيلاء الظلمة على مقادير الأمور، وناقش أيضا خلوّ الزمان من المجتهدين في الفقه ممن لهم القدرة على الاستنباط، وكذلك ناقش شيوع القحط والمجاعات والنوازل ..وما إلى ذلك، بمعنى أن كتابه هذا تدريب للمفتي المعاصر على النظر في المستجدات وقواعد الضرورات والاستثناءات التي يعج بها زماننا.
مع ملاحظة أني لا أدعو أبدا إلى تقليده -رحمه الله- في كل ما ذهب إليه، لأنه هو نفسه يرفض تقليد الأقدمين، وعنده (أن الأئمة المتأخرين أولى بالبحث من مذاهب المتقدمين) ويقول (والأوجه عندي أن يقلّد المستفتي مفتي زمانه..هذا إذا كان للإمام المقدم مذهب منصوص عليه في المسألة، فأما إذا لم يصح فليس له إلا تقليد مفتي الزمان) ثم يلقي على المستفتي مسؤولية عظيمة: (أن المستفتي يتعيّن عليه ضرب من النظر في تعيين المفتي الذي يقلده ويعتمده)، والذي نستفيده من هذا أن النوازل والمستجدات إنما يقدّرها من عاصرها وعايشها، وتصوّر النازلة وفهمها شرط في تنزيل الحكم عليها، والاكتفاء بأقوال الأقدمين عند النظر في نوازل عصرنا مدعاة للزلل وفوات حكمة التشريع من أساسها، أما المستفتي فعليه أن يتحرّى بالقرائن خاصة طبقة المثقفين والمختصين بالعلوم الأخرى كالسياسة والاقتصاد والطب ونحوها، فهؤلاء لديهم القدرة على التمييز بين المفتين وإن لم يكونوا أهلا للفتوى.
إن ما دوّنه إمام الحرمين في هذه الفصول أشبه بالزناد الذي يقدح الذهن، لينظر كل فقيه إلى واقع عصره وما يمكن أن يقدمه للناس من حلول، لا أن يكون مجرد حافظ أو ناسخ للمتون ونحوها: (لا يستقل بنقل مسائل الفقه من يعتمد الحفظ، ولا يرجع إلى كَيس وفطنة.. فلا ينزل نقل مسائل الفقه منزلة نقل الأخبار).