استهل الإمام ابن عاشور تفسيره لهذه الآية ببيان أصل المفاد منها، فقال : “استدلال بإماتة الأحياء على أنها مقدورة لله تعالى ضرورة أنهم موقنون بها ومشاهدونها ووادون دفعها أو تأخيرها، فإن الذي قدر على خلق الموت بعد الحياة قادر على الإحياء بعد الموت؛ إذ القدرة على حصول شيء تقتضي القدرة على ضده، فلا جرم أن القادر على خلق حي مما ليس فيه حياة وعلى إماتته بعد الحياة قدير على التصرف في حالتي إحيائه وإماتته، وما الإحياء بعد الإماتة إلا حالة من تينك الحقيقتين، فوضح دليل إمكان البعث…
ثم بين أنها مع ذلك “تنبيه على أن الموت جعله الله طوراً من أطوار الإنسان لحكمة الانتقال به إلى الحياة الأبدية بعد إعداده لها بما تهيئه له أسباب الكمال المؤهلة لتلك الحياة لتتم المناسبة بين ذلك العالم وبين عامريه… فهذا وجه التعبير بـ (قَدَّرْنا بَيْنَكُمُ الْمَوْتَ) دون: نحن نميتكم، أي أن الموت مجعول على تقدير معلوم مراد، مع ما في مادة قدرنا من التذكير بالعلم والقدرة والإرادة؛ لتتوجه أنظار العقول إلى ما في طي ذلك من دقائق وهي كثيرة، وخاصة في تقدير موت الإنسان الذي هو سبيل إلى الحياة الكاملة إن أخذ لها أسبابها.
وأضاف أن “في كلمة (بَيْنَكُمُ) معنى آخر، وهو أن الموت يأتي على آحادهم تداولا وتناوبا، فلا يفلت واحد منهم ولا يتعين لحلوله صنف ولا عمر، فآذن ظرف (بين) بأن الموت كالشيء الموضوع للتوزيع لا يدري أحد متى يصيبه قسطه منه، فالناس كمن دعوا إلى قسمة مال أو ثمر أو نعم لا يدري أحد متى ينادى عليه ليأخذ قسمه، أو متى يطير إليه قطه، ولكنه يوقن بأنه نائله لا محالة. وبهذا كان في قوله: (بَيْنَكُمُ الْمَوْتَ) استعارة مكنية؛ إذ شبه الموت بمقسوم، ورمز إلى المشبه به بكلمة (بَيْنَكُمُ) الشائع استعمالها في القسمة… وفي هذه الاستعارة كناية عن كون الموت فائدة ومصلحة للناس أما في الدنيا لئلا تضيق بهم الأرض والأرزاق، وأما في الآخرة فللجزاء الوفاق”.