يختلف جوهر الاقتصاد الإسلامي عن طبيعة الاقتصاد التقليدي، فالاقتصاد التقليدي قائم على اعتبار ندرة الموارد التي لا تسد احتياجات الناس، فبالتالي لابد من التفكير في إيجاد وسائل تدفعنا نحو التوظيف الأمثل بسبب ندرة الموارد، وهذه تمثل (المشكلة الاقتصادية) الرئيسة في الاقتصاد التقليدي. أما الاقتصاد الإسلامي فلا يرى (المشكلة الاقتصادية) في ندرة الموارد، على العكس، فالفكر الإسلامي يرى أن الموارد كثيرة ومتاحة، ولكن ( المشكلة الاقتصادية) تتمثل في (السلوك الإنساني) الذي يهدر تلك الموارد الكثيرة، ويسرف فيها، ولا يوظفها التوظيف الأمثل.
والبناء الإسلامي قائم على أن الله سبحانه وتعالى خلق الأرض وأورثها بني آدم، كما قال سبحانه وتعالى: {وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً} [البقرة: 30]، فهذا تقرير بميراث الأرض لبني آدم لا ينازعهم فيها غيرهم، وليس على معنى أن الإنسان خليفة الله في الأرض، كما يذكر البعض…
ثم إن الله سبحانه وتعالى هيأ الأرض للسكنى والحياة، وخلقها على هيئة قصر، كما يقول الإمام الغزالي – رحمه الله-، فمن عادة القصور أن تكون سقوفها عالية، كما قال تعالى: {وَجَعَلْنَا السَّمَاءَ سَقْفًا مَحْفُوظًا} [الأنبياء: 32]، وعادة القصور أن تكون مزينة السقف، وكذلك السماء، كما قال تعالى: {وَزَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ وَحِفْظًا ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ} [فصلت: 12].
ومن عادة بناء القصور أن تبنى على أعمدة ضخمة تثبتها، لهذا ثبت الله تعالى الأرض بالجبال الرواسي، كما قال سبحانه: {وَجَعَلْنَا فِي الْأَرْضِ رَوَاسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِهِمْ} [الأنبياء: 31]، ويثبت العلم أن امتداد الجبال في العمق أكبر من ارتفاعها، وجعل فيها سبلا وطرقا يسلكها الناس للانتقال فيها من مكان لآخر، كما جاء في تفسير ابن كثير (4/ 564): ” جعل فيها سبلا أي: طرقًا يسلك فيها من بلاد إلى بلاد، حتى إنه تعالى ليقطع الجبل حتى يكون ما بينهما ممرًا ومسلكًا، كما قال تعالى: { وَجَعَلْنَا فِيهَا فِجَاجًا سُبُلا } [الأنبياء: 31] ..
ومن عادة القصور أن تشقها الأنهار، وأن تكون فيها الأشجار والثمار، والأرض كذلك كما قال الله تعالى: {وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ وَأَنْهَارًا وَمِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ جَعَلَ فِيهَا زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ } [الرعد: 3]، ومن عادة الملوك أن يزرعوا في أرضهم أنواعا متعددة من النبات والثمار، وفي الأرض كذلك كما قال الله تعالى: {وَفِي الْأَرْضِ قِطَعٌ مُتَجَاوِرَاتٌ وَجَنَّاتٌ مِنْ أَعْنَابٍ وَزَرْعٌ وَنَخِيلٌ صِنْوَانٌ وَغَيْرُ صِنْوَانٍ يُسْقَى بِمَاءٍ وَاحِدٍ وَنُفَضِّلُ بَعْضَهَا عَلَى بَعْضٍ فِي الْأُكُلِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ} [الرعد: 4]..
موارد لا تقدر بثمن
وإن كان الاقتصاديون يرون أن الموارد هي المواد الأساسية للحياة الكريمة على سطح الأرض، فهناك موارد غاية في الأهمية يغفلون عنها، وهي الأكسجين وثاني أكسيد الكربون، وهما يحيطان بالغلاف الجوي، الذي يمد الكائنات الحية بغاز الأكسجين الذي هو سبب الحياة، وبدون يموت الناس، ويحتوي الغلاف الجوي للأرض على غاز ثاني أكسيد الكربون، ووظيفته الحفاظ على دفء الأرض وحمايتها من التقلبات الحرارية.
كما أن الله تعالى حمى الأرض من الإشعاعات عالية التردد التي تصدر عن الشمس، وذلك عن طريق ذلك الغلاف المغناطيسي.
ومن رحمة الله تعالى أنه جعل تلك الموارد لا علاقة لها بالبشر، حتى لا يتحكموا فيها، بل جعلها متاحة للجميع بلا ثمن.
الماء أهم مورد اقتصادي
يعد الماء من أهم الموارد الاقتصادية، وقد جعل الله سبحانه الماء مكونا أساسيا لكوكب الأرض، بل جعل الحياة مرتبطة ارتباطا وثيقا بالماء، وسببا فيها، كما قال سبحانه: {وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ أَفَلَا يُؤْمِنُونَ} [الفاتحة: 30]، وتصل نسبة المسطحات المائية (71%)، وهذا يعني أن المشكلة ليست في ندرة المياه على سطح الأرض، بل في سوء التوزيع بين بني البشر.
ومن جميل صنع الله أنه جعل جميع البحار والمحيطات متصلة بعضها ببعض، وتحتوي المحيطات المفتوحة على نسبة 96،5% من كل الماء على الأرض، ونسبة (3،5%) من المياه على الأرض موزعة بين الأنهار والبحيرات والبحار الداخلية، كما يوجد بها ماء متجمد في القطبين، وفي قمم الجبال، وكذلك الأنهار الجليدية، ويتسبب الماء في حالتيه (السائلة أو الصلبة) واحدا من أهم عوامل التعرية التي تسبب في حفر الأودية وإعادة تشكيل الجبال وحفر الجداول والأنهار عبر السهول والغابات، وكل ذلك يمثل موارد اقتصادية هائلة، تساعد على انتعاش الاقتصاد..
على أن هناك كثيرا من الموارد التي تعرف بـ (الموارد الطبيعية)، والتي لا دخل للإنسان في إيجادها، كالغابات والأشجار والأنهار والمحيطات والمعادن المتنوعة والبترول والغاز والثروة النباتية والثروة الحيوانية وغيرها من الموارد الطبيعية التي يساء استعمالها، فالمشكلة ليست في ندرة تلك الموارد، بل في سوء توزيعها وسوء استعمالها.
الثروة الحيوانية
فقد خلق الله سبحانه وتعالى أنواعا كبيرة ومتعددة من الحيوانات ليتم الانتفاع بها، سواء المأكول منها أو غير المأكول، وامتن الله على عباده بذلك، فقال: ( وَالْأَنْعَامَ خَلَقَهَا لَكُمْ فِيهَا دِفْءٌ وَمَنَافِعُ وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ… ) النحل:5، وأبان عن بعض ما يستفاد من تلك الثروة الحيوانية غير أكل لحومها، من اللبن الذي يعد في حد ذاته ثروة، كما قال سبحانه: (وَإِنَّ لَكُمْ فِي الْأَنْعَامِ لَعِبْرَةً نُسْقِيكُمْ مِمَّا فِي بُطُونِهِ مِنْ بَيْنِ فَرْثٍ وَدَمٍ لَبَنًا خَالِصًا سَائِغًا لِلشَّارِبِينَ) النحل:66. وأباح للإنسان أن يفكر وينتج من الثروة الحيوانية ما شاء من الصناعات المتعددة.
الثروة البحرية
والثروة البحرية ثروة متنوعة جدا، تقوم عليها كثير من الصناعات والبيوع وتعد الثروة البحرية من أكبر وأهم الثروات التي يحتاجها الإنسان، وهي من أهم الموارد الاقتصادية، بل هناك دول تعد الثروة السمكية هي المورد الرئيس في البلد، وقد امتن الله سبحانه على أهل الأرض بتلك الثروة، فقال: (وَهُوَ الَّذِي سَخَّرَ الْبَحْرَ لِتَأْكُلُوا مِنْهُ لَحْمًا طَرِيًّا وَتَسْتَخْرِجُوا مِنْهُ حِلْيَةً تَلْبَسُونَهَا وَتَرَى الْفُلْكَ مَوَاخِرَ فِيهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ ) النحل: 14.. فالصناعات البحرية كثيرة ومتنوعة، ولو أهل الأرض ظلوا طوال حياتهم يستخرجون من البحر ما فيه من الموارد مما يؤكل من الحيوانات البحرية على اختلافها، ويستخرجون منه الحلي، ما نفد، فليست المشكلة في الثروة البحرية الندرة، بل الاستعمال والتوظيف والإنتاج والتوزيع.
الثروة النباتية
كما أوجد الله تعالى للإنسان على الأرض ثروة نباتية من خلال زراعة تلك الأرض، ونوع الأرض، بحيث تصلح كل أرض لأنواع من الزراعة، وما ينتج عنها من الصناعات الزراعية، فقال تعالى: ( هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً لَكُمْ مِنْهُ شَرَابٌ وَمِنْهُ شَجَرٌ فِيهِ تُسِيمُون. يُنْبِتُ لَكُمْ بِهِ الزَّرْعَ وَالزَّيْتُونَ وَالنَّخِيلَ وَالْأَعْنَابَ وَمِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ) النحل:10-11.
وأشار النبي ﷺ إلى الشركة في الانتفاع بتلك الثروات المتعددة، فقال ﷺ: ” الناس شركاء في ثلاثة؛ في الماء والكلأ والنار)، وهو هنا يشير – ﷺ إلى الثروة المائية والسمكية والنباتية في قوله ( في الماء)، وإلى الثروة الحيوانية في قوله ( والكلأ)، وإلى ثروة الطاقة والكهرباء في قوله ( والنار)، وكلها موارد طبيعية يحتاج الناس إليها.
التقسيم الجغرافي للموارد
وقد يطرح سؤال: وهو أن هناك تقسيما جغرافيا لتلك الموارد، فهناك موارد طبيعية موجودة في بعض أجزاء العالم ليست موجودة في أجزاء أخرى، مما قد يسبب مشكلة اقتصادية في بعض المناطق دون بعض..
على أن هذا الطرح يتناسى أن التوزيع الجغرافي للموارد متنوع، بمعنى أن بعض المناطق قد تحرم من بعض الموارد، لكنها في ذات الوقت فيها موارد أخرى مختلفة، وليس الفقر تابعا لندرة الموارد، فإفريقيا على سبيل المثال فيها من الموارد الطبيعية أكثر من غيرها من المناطق الغنية في العالم، وهي تمتلك موارد من المفترض أن تجعلها من أغنى بقاع الأرض، على أن كثرة الموارد لم تشفع لإفريقيا أن تكون دولها غنية، وذلك لسوء استعمال تلك الموارد، أو لغيرها من العوامل الخارجية، حيث تستولي عدد من الدول الغربية على الموارد الخام وتستوردها من الدول الإفريقية وتعيد تصنيعها وإنتاجها وتحسن استغلالها، وترجع إلى إفريقيا مصنعة بأثمان باهظة.
ثم إن السياسات الإنتاجية لها أثر كبير في الانتفاع بتلك الموارد الطبيعية والثروات الكبيرة في العالم، فهناك دول تحتاج إلى زراعة بعض المحاصيل على أراضيها، لكنها لا تستطيع تحت ضغط صندوق النقد الدولي، أو حتى ما يعرف بسلة الغذاء العالمي..
بل مازالت الحروب التي تقوم بها بعض الدول الغربية و الشرقية ليس القصد منها إلا الاستيلاء على بعض الموارد الطبيعية كالبترول أو الغاز أو النيكل أو غير ذلك من المعادن، كما أن هناك حرب المياه، فقد صرح مساعد الأمين العام للأمم المتحدة (هانز فان جينكل) أن الحروب على المياه ربما تكون مكونا أساسيا للقرن الحادي والعشرين، وربما تجر الولايات المتحدة وحلفاءها إلى حرب أخرى في الشرق الأوسط، حسب مجلة The National Interest
فهناك صراع في شرق إفريقيا على امتداد نهر النيل، وكذلك في العراق واليمن، بل هناك صراع أكبر في منطقة حوض نهر الأردن، وكذلك سوريا وفلسطين ولبنان وغيرها.
إن الإنسان هو السبب فيما يحصل من مشكلات اقتصادية وليست الصنعة الإلهية، فالله تعالى خلق الأرض وأوجد فيها من مكونات الحياة ما يجعل الناس سعداء فيها، عندهم الكفاية من الموارد إن استثمروها بشكل جيد، وتحلوا فيها بالسلوك العاقل، لا السلوك الغافل، وبالحكمة لا بالاحتكار، وبالتكافل لا بالتغافل.