في ظل التحديات المتسارعة التي تهدد الكيان الأسري في العصر الحديث، عقدت “جمعية البلاغ الثقافية” ندوة علمية رصينة تحت عنوان “مقاصد الأسرة في القرآن الكريم”، بالتعاون مع إذاعة القرآن الكريم وكلية الشريعة والدراسات الإسلامية بجامعة قطر. وقد جاءت هذه الندوة تأكيدًا على أن القرآن الكريم لم يُشر إلى الأسرة كظاهرة اجتماعية عابرة، بل جعلها آية من آيات الله، وبنية حضارية كونية تُقام عليها المجتمعات وتُحفظ بها الأمة.

أدار الندوة الأستاذ عبدالله البوعينين، مراقب إذاعة القرآن الكريم، في قاعة ابن خلدون بجامعة قطر بمشاركة كل من:

•الدكتور إبراهيم بن عبدالله الأنصاري، عميد كلية الشريعة والدراسات الإسلامية بجامعة قطر، ورئيس مجلس إدارة جمعية البلاغ الثقافية.

•الدكتور سالم الشيخي، المستشار العلمي لعميد كلية الشريعة والدراسات الإسلامية بجامعة قطر، وعضو المجلس الأوروبي للإفتاء والبحوث.

المقاصد الشرعية للأسرة.. حكمة التشريع وغاياته

افتتحت الندوة بمداخلة للدكتور سالم الشيخي قام خلالها بتوضيح مفهوم المقاصد، مشيراً إلى أنها الغاية والحكمة والسر والمصلحة التي جعلها الله تعالى وراء كل حكم شرعي أنزله في كتابه أو على لسان نبيه. وأكد أن الشريعة الإسلامية لم تأتِ إلا لجلب المصالح وتكثيرها ودرء المفاسد وتقليدها.

رجل يرتدي ملابس تقليدية ويضع نظارات، يتحدث أثناء ندوة ثقافية. خلفه شعار مؤسسة البلاغ الثقافية. يركز على تقديم أفكار مهمة للجمهور.
الدكتور سالم الشيخي المستشار العلمي لعميد كلية الشريعة وعضو المجلس الأوروبي للإفتاء والبحوث

وأشار الدكتور الشيخي إلى أن الحديث عن مقاصد الأسرة ينطلق من المقصد الأعم لخلق الإنسان، مستدلاً بالآية الكريمة: { أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لَا تُرْجَعُونَ } (المؤمنون: 115). وأوضح أن الله تعالى لم يخلق الإنسان عبثاً، بل أنزل الكتب وأرسل الرسل وشرع الأحكام لكي يسعد الإنسان في الدارين، ويكون على أحسن حال كما خلقه الله.

كما شدد الدكتور الشيخي على أن كل حكم جزئي يتعلق بالأسرة، سواء في باب التأسيس (الزواج) أو الاستمرار (المعاشرة) أو الانتهاء (الفراق)، يكمن تحته مقصد وسر وحكمة. وهذه المقاصد هي التي يجب البحث عنها والتقيد بدلالاتها ومعانيها، وهي ما يقصده عنوان الندوة المتعلق بـ “مقاصد الأسرة”، والتي ترتبط بمنظومة فقهية تسمى فقه الأسرة.

الأسرة كآية إلهية ومصنع للمودة والرحمة

من جهته، استهل الدكتور إبراهيم الأنصاري مداخلته بتأصيل مفهوم الأسرة في القرآن الكريم، مؤكدًا أن الآية { وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِّتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُم مَّوَدَّةً وَرَحْمَةً } (الروم : 21) ليست مجرد وصفٍ لعلاقة بشرية، بل آية كونية وتشريعية تُشير إلى حكمة إلهية عميقة. وأوضح أن الله عز وجل أنزل آدم وحواء إلى الأرض كأسرة، لا كفردَين منفصلين، مما يدل على أن الإنسان في التصور القرآني هو “كائن أسري” منذ اللحظة الأولى.

كما تحدث الأنصاري عن النظرة القرآنية للأسرة، مؤكداً أن القرآن الكريم نص على أن الأسرة “آية من آيات الله”، وأن الزواج بحد ذاته آية ودلالة على رفع مكانة هذه المؤسسة.

وأكد الدكتور الأنصاري أن المجتمع في رؤية القرآن مكوّن من أُسَر، لا من أفراد، والأسرة هي الواسطة التي تربط بين الفرد والأمة. فالأسرة هي التي تبني الفرد بقيمه وأخلاقه وممارساته، وتهيئه لبناء المجتمع.

تفكيك مفاهيم القرآن.. المودة، الرحمة، و”اللباس”

انتقل الحديث إلى الدكتور سالم الشيخي للتعمق في دلالات الألفاظ القرآنية التي وصفت العلاقة الزوجية.

توقف الدكتور الشيخي عند اختيار الله تعالى لمفردتي المودة والرحمة لوصف العلاقة الزوجية، بدلا من مفردات أخرى مثل الحب. وأوضح أن الحب معنى عام يتناول كل درجات الميل القلبي، بينما المودة تشير إلى التبادل بين الطرفين في المشاعر ونوع من التعاطف القلبي المتبادل، ولذلك قرنت بالرحمة. كما أشار إلى أن أعلى غاية يصل إليها الإنسان في الحب هي أن يحب الله لذاته، لأنه يعطي دون أن ينتظر عطاءً من العبد.

مشاركون في مؤتمر يرتدون الزي التقليدي الإماراتي، يجلسون في قاعة معاصر. يظهر في الصورة عدد من الرجال بملابس بيضاء وسوداء، بعضهم يرتدي النظارات. الخلفية تحتوي على جدران خشبية وديكور بسيط.
جانب من الجمهور الذي حضر الندوة

وقدم الشيخي تحليلاً عميقاً للآية الكريمة: { هُنَّ لِبَاسٌ لَّكُمْ وَأَنتُمْ لِبَاسٌ لَّهُنَّ } (البقرة : 187)، مستخلصاً خمسة أبعاد متكاملة لمفهوم “اللباس” في العلاقة الزوجية، والتي تمثل منظومة متكاملة لكيفية العلاقة الزوجية:

  1. الستر: ستر العورات، وستر العيوب والزلات.
  2. الحماية: من الشهوات المُحرّمة، ومن نار الغضب والخصام.
  3. الملاصقة: قربٌ جسدي، ونفسي، وفكري، ووجداني.
  4. التطابق: تجانس في القيم، والأخلاق، والرؤية الحياتية.
  5. الزينة: جمالٌ متبادل، يمنح السكينة والطمأنينة.

وأكد أن هذه العلاقة المتكاملة لا تُبنى على العاطفة وحدها، بل على منظومة تشريعية واعية تُربّي الزوجين على التفاهم والاحترام.

القوامة والتكامل.. رؤية قرآنية لإدارة الأسرة

وتناول الدكتور إبراهيم الأنصاري الكلمة للحديث عن رؤية التكامل بين الرجل والمرأة، معتبراً أن أفضل مدخل لهذا الموضوع هو قضية القوامة، التي وصفها بأنها “مظلومة” في الكتابات والحركات التي تطالب بحقوق المرأة.

وأكد الأنصاري أن القوامة الحقيقية في الشريعة الإسلامية تشير إلى الرعاية والحماية والمسؤولية، وهي أقرب إلى مفهوم الحوكمة، وأن الأسرة عبارة عن مؤسسة لا بد لها من قائد، يكون بمثابة “رئيس مجلس إدارة” مسؤول عن القضايا الاستراتيجية لهذه المؤسسة.

رجل يرتدي الزي التقليدي العربي، يتحدث في ندوة باستخدام ميكروفون، مع وضع يده في الهواء، وخلفه لافتة تحمل نصًا باللغة العربية.
الدكتور إبراهيم بن عبدالله الأنصاري، عميد كلية الشريعةورئيس مجلس إدارة جمعية البلاغ

وأوضح أن المشكلة تكمن عندما تحمل كلمة القوامة تبعات الصراع بين الذكر والأنثى، وتتحول إلى صراع على من يتحكم في الآخر، بينما في الحوكمة الحقيقية، لا يوجد شيء يسمى “تحكم”.

كما شدد الدكتور الأنصاري على أن الرجل له أدوار، والمرأة لها أدوار، ولو تنازل أحدهما عن دوره لاختلت الأسرة. مهمة الرجل هي الحماية الاستراتيجية للأسرة، فهو يراقب ويحفظ الأسرة في المسار الصحيح ويتجاوز عن الهفوات في بعض الأمور.

وحذر الدكتور الانصاري من محاولة المرأة أخذ أدوار الرجل ستؤدي إلى وجود رئيسين في مؤسسة الأسرة، مما يخلق صراعا وتنافسا على كل التفاصيل، وهذا يخل بالأسرة. واستدل بقوله تعالى: { وَلَا تَتَمَنَّوْا مَا فَضَّلَ اللَّهُ بِهِ بَعْضَكُمْ عَلَىٰ بَعْضٍ } (النساء: 32) ، مؤكداً أن الرجل مسؤول عن دوره، والمرأة مسؤولة عن دورها، وهما متكاملان وليسا نسختين متطابقتين.

فقه الخلافات الأسرية و”المعاشرة بالمعروف”

تناول الدكتور سالم الشيخي الجانب المتعلق بإدارة الخلافات والقيم في الأسرة، مشيراً إلى أن القرآن الكريم وضع قواعد للخلافات بين الزوجين، وجعل هناك قاعة للحل هي “إمساك بمعروف أو تسريح بإحسان”.

واعتبر الشيخي أن “المعاشرة بالمعروف” هي أوسع ما يمكن للإنسان أن يتحدث عنه في هذا المجال، وهي مساحة مفتوحة للتجديد عبر الزمان والمكان وأحوال الناس. والمعنى الدقيق لها هو أن يتعامل الإنسان مع الطرف الآخر بما يحب أن يتعامل به الطرف الآخر معه.

كما أشار إلى تسلسل قرآني في حل النزاعات الأسرية، حيث ركز القرآن والسنة النبوية على مرحلة أساسية هي “تقوية جهاز المناعة الداخلي للأسرة” ضد آثار الخلافات والنزاعات. وقارن ذلك بذهاب المريض إلى الطبيب الذي يستعجل بإعطاء المضادات الحيوية، مما يضعف جهاز المناعة الذاتي للمريض.

وأوضح الشيخي أن تقوية هذا الجهاز تتمثل في: تحمل المسؤولية (كلكم راع وكلكم مسؤول عن رعيته)، والصبر { فَإِن كَرِهْتُمُوهُنَّ فَعَسَىٰ أَن تَكْرَهُوا شَيْئًا وَيَجْعَلَ اللَّهُ فِيهِ خَيْرًا كَثِيرًا } (النساء: 19)، والإنصاف والعدل. وأكد أن القرآن لا يتجه إلى الحلول الخارجية إلا بعد فشل الحلول الذاتية، مشيرًا إلى آلية “الحكمين” { فَابْعَثُوا حَكَمًا مِّنْ أَهْلِهِ وَحَكَمًا مِّنْ أَهْلِهَا } (النساء: 19) ، وهي تمثّل جوهر التحكيم الأسري في الإسلام.

الأسرة ومهمة تربية الأجيال .. غرس القيم وبناء الهوية

كما تناول المتحدثان دور الأسرة كأول وأهم مؤسسة تربوية، مؤكدين أن الأحكام المتعلقة بالأسرة هي كلها أحكام عبادية، وأداء هذه الأحكام عبادة. وأكد الدكتور الأنصاري أن الأسرة هي المدرسة الأولى، بل والأخيرة، التي يتعلم فيها الإنسان أول لفظ ينطق به (الشهادة، تلاوة الفاتحة، الصلاة). وحذر من مغبة إهمال هذا الجانب التربوي، مشيراً إلى أن الوعيد الوارد في قوله تعالى: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا } (التحريم :6)، يقع بالفعل على الآباء والأمهات الذين يهملون تنشئة أبنائهم على هذه النشأة الصالحة، فيجدون منهم العقوق والعصيان.

رجل يرتدي الزي التقليدي العربي يتحدث في حدث أكاديمي، مع وجود شعار جامعة قطر في الخلفية. يظهر المتحدث وهو يتفاعل مع الجمهور من خلال الميكروفون.
الأستاذ عبدالله البوعينين مراقب إذاعة القرآن الكريم

أما الدكتور الشيخي فقد ركز على دور الأسرة في تنشئة الطفل المسلم، مبيّنًا أن القيم لا تُغرس بالوعظ وحده، بل عبر ثلاثة أركان متكاملة:

  1. الركن المعرفي: توضيح مفهوم القيمة (مثل الصدق، الأمانة).
  2. الركن السلوكي: القدوة الحسنة من الوالدين وترجمة القيمة إلى سلوك يومي.
  3. الركن الوجداني: غرس الشعور بالفخر والاعتزاز بهذه القيمة.

التحديات المعاصرة.. بين الثقافة الغربية وغربة الهوية

حذر المتحدثون من التحديات التي تواجه الأسرة المسلمة في العصر الحديث، والتي تنبع بشكل أساسي من غلبة الثقافة الغربية التي تُهمّش الأسرة وترفع شعار “حرية الفرد” فوق كل القيم.

أشار الدكتور الأنصاري إلى أن “المجتمع الإسلامي يُبنى على الأسر، والمجتمع الغربي على الفرد”. فالغرب لا يرى في الأسرة إلا وسيلة لتحقيق المتعة أو المصلحة، مما أدى إلى تفككها وظهور أنماط علاقات غريبة.

ولخص الدكتور الشيخي التحديات المعاصرة التي تهدم الكيان الأسري في أربع ركائز أساسية:

  1. ثقافة السيولة: غياب المرجعيات الثابتة.
  2. ثقافة التفاهة: إهدار الوقت في محتوى غير هادف.
  3. تسليع الشهوات: عبر وسائل التواصل الاجتماعي.
  4. تقنين الشبهات: محاولة جعل المحرمات مقبولة اجتماعياً وقانونياً.

وخلص إلى أن النجاة الوحيدة تكمن في العودة إلى مرجعية دينية ثابتة (القرآن والسنة)، وهوية واضحة، وقيم راسخة، ومواقف راشدة، واهتمامات عالية.

رجال ونساء يرتدون ملابس تقليدية في قاعة محاضرات، بعضهم يجلس على كراسي بينما يركزون على المتحدث. يظهر الحضور في بيئة رسمية، مع تنوع في الأزياء، مما يعكس ثقافة المجتمع.
جانب من الجمهور الذي حضر الندوة

توصيات وآفاق مستقبلية لدعم الكيان الأسري

في ختام الندوة، أشار الدكتور الأنصاري إلى أن كلية الشريعة بجامعة قطر تعمل على مشاريع تطبيقية لدعم الأسرة، مؤكداً أن هذه الجهود ليست أكاديمية مجردة، بل تُترجم على أرض الواقع، وتستهدف إعادة بناء الوعي الأسري وفق الرؤية القرآنية. ومن أبرز التوصيات والمشاريع التطبيقية:

  • إطلاق دبلوم مهني في التحكيم الأسري بالتعاون مع مجلس القضاء الأعلى.
  • توفير برامج تأهيل للزوجين قبل وبعد الزواج.
  • تعزيز الشراكات مع المؤسسات المعنية مثل وزارة التنمية الاجتماعية، ووزارة العدل، ومركز وفاق.

رؤية مقاصدية متكاملة للأسرة في القرآن الكريم

قدمت الندوة رؤية مقاصدية متكاملة للأسرة في القرآن الكريم، تتجاوز الجدل الفقهي الضيق إلى فهم عميق لـالغايات الإلهية من تشريع الأسرة. وقد أجمعت المداخلات على أن الأسرة ليست مجرد عقد اجتماعي، بل هي آية إلهية ومؤسسة حوكمة تقوم على التكامل بين الزوجين (القوامة الرشيدة)، وتتوسع لتشكل النواة الحقيقية للمجتمع، وتعمل لإنتاج المودة والرحمة التي تتجاوز حدود الزوجين لتشمل الأمة بأسرها. كما سلطت الندوة الضوء على أهمية المعاشرة بالمعروف واتباع المنهج القرآني المرن في إدارة الحياة الزوجية وحل الخلافات الأسرية قبل اللجوء إلى الحلول الخارجية، مع التأكيد على ضرورة مواجهة التحديات المعاصرة بالعودة إلى المرجعية الدينية الثابتة والهوية الواضحة.