يتذكر المسلمون مع بداية كل عام هجري قصة هجرة الرسول ﷺ من مكة إلى المدينة وما دار فيها من أحداث وقصص، ومن أشهر الروايات التي تردد حول هذه الحادثة استقبال أهل المدينة للنبي ﷺ بنشيد (طلع البدر علينا من ثنيات الوداع) رغم نفي المتخصصين عدم صحة هذا النشيد وعدم ثبوته.
يقول الدكتور أكرم ضياء العمري في كتابه (السيرة النبوية الصحيحة) : “أما تلك الروايات التي تفيد استقباله بنشيد (طلع البدر علينا من ثنيات الوداع) فلم ترد بها رواية صحيحة “.
وفند الدكتور محمد بن عبد الله العوشن روايات نشيد (طلع البدر علينا) في كتابه (ما شاع ولم يثبت في السيرة النبوية) قائلا :
( وهذا النشيد من أشهر مايتعلق بالهجرة النبوية المباركة. فقد أخرج البيهقي في (الدلائل) بسنده عن ابن عائشة قال: لما قدم عليه السلام المدينة جعل النساء والصبيان يقلن: (1)
طلع البدر علينا من ثنيات الوداع
وجب الشكر علينا ما دعا لله داع
ورواه في موضع آخر من (الدلائل) في باب: تلقي الناس رسول الله – ﷺ – حيث قدم من غزوة تبوك، ثم قال: قلت: وهذا يذكره علماؤنا عند مقدمه المدينه من مكة، وقد ذكرناه عنده، لا أنه لما قدم المدينة من ثنية الوداع عند مقدمه من تبوك، والله أعلم، فذكرناه أيضًا ها هنا (2) .
وأعلّه الحافظ العراقي بكونه معضلًا (3)؛ لأن راوي القصة عبيد الله بن عائشة (وهو من شيوخ الإِمام أحمد) مات سنة 228 هـ. فبينه وبين القصة مفاوز.
قال الحافظ ابن حجر العسقلاني في (فتح الباري): “وأخرج أبو سعيد في (شرف المصطفى) ورويناه في (فوائد الخلعي) من طريق عبيد الله بن عائشة منقطعًا: لما دخل النبي – ﷺ – المدينة جعل الولائد يقلن:
طلع البدر علينا من ثنية الوداع
وجب الشكر علينا ما دعا لله داع
وهو سند معضل، ولعل ذلك كان في قدومه من غزوة تبوك (4) .
وقد أخرج البخاري في صحيحه قال: حدثنا عبد الله بن محمَّد قال: حدثنا سفيان عن الزهري عن السائب بن يزيد: “أذكر أني خرجت مع الصبيان نتلقى النبي – ﷺ – إلى الثنية الوداع مقدمه من غزوة تبوك (5) .
قال الحافظ ابن حجر: “فأنكر الداودي هذا وتبعه ابن القيم وقال: ثنية الوداع من جهة مكة لا من جهة تبوك، بل هي مقابلها كالمشرق والمغرب، قال: إلا أن يكون هناك ثنية أخرى في تلك الجهة، والثنية ما ارتفع من الأرض. وقيل: الطريق في الجبل. قلت: لا يمنع كونها جهة الحجاز أن يكون خروج المسافر إلى الشام من جهتها، وهذا واضع كما في دخول مكة من ثنية والخروج منها من أخرى، وينتهي كلاهما إلى طريق واحدة. وقد روينا بسند منقطع قول النسوة لما قدم النبي – ﷺ – المدينة: “طلع البدر علينا من ثنيات الوداع ” فقيل: كان ذلك عند قدومه في الهجرة، وقيل: عند قدومه من غزوه تبوك (6) “
كذا نسب الحافظ ابن حجر إلى ابن القيم الجوزية أنه قال: ثنية الوداع من جهة مكة لا من جهة تبوك: وكلام ابن القيم مخالف لذلك تمامًا، فقد قال -رحمه الله-: “فلما دنا رسول الله – ﷺ – من المدينة، خرج الناس تلقيه، وخرج النساء والصبيان والولائد يقلن:
طلع البدر علينا من ثنيات الوداع
وجب الشكر علينا ما دعا لله داع
وبعض الرواة يهم في هذا ويقول: إنما كان ذلك عند مقدمه إلى المدينة من مكة، وهو وهم ظاهر، لأن ثنيات الوداع إنما هي من ناحية الشام، لايراها القادم من مكة إلى المدينة، ولايمر بها إلا إذا توجّه للشام .. (7) “.
وجاء سبب تسمية ثنية الوداع بذلك وأنها من جهة تبوك في حادثة أخرى، في تحريم نكاح المتعة.
قال الحافظ ابن حجر: “وأخرجه الحازمي من حديث جابر، قال: خرجنا مع رسول الله – ﷺ – إلى غزوة تبوك، حتى إذا كناّ عند العقبة مما يلي الشام جاءت نسوة كناّ تمتعنا بهن يطفن برحالنا، فجاء رسول الله – ﷺ – فذكرنا ذلك له، فغضب وقام خطيبًا فحمد الله وأثنى عليه، ونهى عن المتعة، فتوادعنا يومئذ فسميت ثنية الوداع (8) “. والحديث “لا يصح فإنه من طريق عباد بن كثير، وهو متروك (9)”.
قال الشيخ الألباني رحمه الله : “على أن القصة برمّتها غير ثابتة (10) .
ومما يدل على ضعف هذه القصة: أن الروايات الصحيحة في دخوله – ﷺ – طيبة عند هجرته إليها لم تذكر ولو إشارة ما يستشهد به لذلك، بل نقلت تلك الروايات ما قاله أهل المدينة عند وصوله إليها، فقد روى البخاري -رحمه الله- في صحيحه في (باب هجرة النبي – ﷺ – وأصحابه إلى المدينة) حديث أنس بن مالك – رضي الله عنه -، وفيه: “فقيل في المدينة: جاء نبي الله، جاء نبي الله – ﷺ – فأشرفوا ينظرون ويقولون: جاء نبي الله .. (11) “.
وفي حديث البراء بن عازب – رضي الله عنه -: ” .. ثم قدم النبي – ﷺ -، فما رأيت أهل المدينة فرحوا بشيء فرحهم (12) برسول الله – ﷺ -، حتى جعل الإماء يقلن: قدم رسول الله – ﷺ -” وفي رواية: “فصعد الرجال والنساء فوق البيوت، وتفرق الغلمان والخدم في الطُرق ينادون: يا محمد، يا رسول الله. يا محمد، يا رسول الله (13) “.
نقل الصالحي رحمه الله تعالى عن المقريزي أن هذا النشيد قيل لما رجع النبي ﷺ من غزوة بدر. فهذا قول ثالث، وسبق أن النشيد لا يصح.
ورغم عناية ابن إسحاق -رحمه الله- بالسيرة، وتتبعه لأحداثها، فإنه لم يورد هذا النشيد في سيرته ).