“لم يؤلّف في مثله نظير، كيف لا وهو يربط قلوب الصغار بسيد الأبرار، فكل بحثٍ منه في تربية الأطفال تجد له أصلاً من إرشاد المربي الأكبر ﷺ، وتالله لقد اعتراني مراراً في قراءته خشوع، وفاضت عينان بدموع، في كثير من مواقفه”، هكذا قدَّم العالم السوري الشيخ أحمد القلاش لكتاب “منهج التربية النبوية للطفل” الذي يقدم لنا من خلاله مؤلفه محمد نور بن عبد الحفيظ سويد لمحات جميلة عن منهج التربية النبوية للطفل مستنداً على أحاديث نبوية ونماذج تطبيقية من حياة السلف وأقوال العلماء العاملين.
ورغم أن تقديم الشيخ أحمد القلاش كافٍ لإغراء القارئ للغوص في فصول كتاب “منهج التربية النبوية للطفل”، إلا أن هذا التقديم لم يكن التقديم الوحيد، بل قدم لهذا الكتاب القيِّم علماء ومفكرون آخرون، مثل: الداعية أبو الحسن الندوي، والدكتور محمد فوزي فيض الله، والشيخ وأحمد القلاش، والدكتور محمود الطحان، ولا شك أن اعتناء هؤلاء السادة الفضلاء بالتقديم لهذا الكتاب يعطيه قيمة علمية حقيقية تؤكد لنا أن العناية به ليست ترفاً ولا تضييعاً للوقت مطلقاً.
وانطلاقاً من وعينا بقيمة كتاب “منهج التربية النبوية للطفل” وأهميته للطفل والآباء والأمهات خاصة أن المؤلف حرص على أن يكون النبع النبوي هو الأساس والمرتكز في استنباط الأفكار، فضلنا أن نقدّم لمحات سريعة نرجو أن تساهم في تربية أطفالنا تربية نبوية ناجحة، وقد ركّزنا في هذه المقالة على: مشروعية العناية بتربية الطفل، والأساليب التربوية النبوية للطفل، والمجالات الأساسية لبناء شخصية الطفل الإسلامية، ونرجو أن تدفع هذه المقالة القراء إلى الاستفادة من الكتاب والتوسع أكثر في هذا المجال المفيد لكل الآباء والأمهات والأطفال.
مشروعية العناية بتربية الطفل
إن أول أمر ينبغي الوقوف معه في هذا المضمار هو مشروعية العناية بتربية الطفل، رغم أننا عندما نريد أن نبحث عن تلك المشروعية لن نجد عناءً في إمساك خيوط عديدة تهدينا إلى وجوب الاهتمام بتربية الطفل والعناية به وتؤكد لنا أثر الأبوين في الولد سلباً وإيجابياً منذ دخوله عالم الحياة، ولهذا فقد أفرد المؤلف محوراً خاصاً عنوانه “خطاب النبي ﷺ إليكم أيها الآباء” يتضمن أربعين حديثاً موجهاً إلى الآباء والأمهات تكشف عن حرص النبي ﷺ واهتمامه بتهيئة الآباء والأمهات لتربية الأطفال والعناية بهم.
ولعل أبرز الأحاديث النبوية التي تكشف لنا عن مشروعية العناية بتربية الطفل قول النبي ﷺ: “ما من مولود يولد إلا يولد على الفطرة، فأبواه يُهودانه أو يُنصرانه أو يُمجسانه”، فالمولود إذاً يولد سليم الفطرة ولكن مسؤولية الأخذ بيده ليسير على طريق الهداية مسؤولية تقع على عاتق الأبوين، وهذه المسؤولية المشتركة يؤكدها ويحث عليها حديث نبوي آخر، وهو قول الرسول ﷺ: “كلكم راع وكلكم مسؤول عن رعيته: الإمام راعٍ ومسؤول عن رعيته، الرجل راعٍ في بيت أهله ومسؤول عن رعيته، والمرأة راعية في بيت زوجها ومسؤولة عن رعيتها، والخادم راعٍ في مال سيده ومسؤول عن رعيته، وكلكم راع وكلكم مسؤول عن رعيته.
والحقيقة أن العناية بتربية الطفل تربية نبوية صحيحة تبدأ من مرحلة ما قبل الزواج، فالزوجة الصالحة هي الكنز الحقيقي الذي يدّخره الرجل في دنياه وآخرته، ولهذا أمرنا النبي ﷺ باختيار الزوجة الصالحة فقال: “تخيروا لنطفكم، فإن النساء يلدن أشباه إخوانهن وأخواتهن”، ولعل هذا هو ما جعل أبا الحسن الماوردي يذهب إلى أن اختيار الزوجة الصالحة من حقوق الولد على أبيه، وذلك عندما قال: “فمن أول حق الولد أن ينتقي أمه، ويتخير قبل الاستيلاد منهن: الجميلة، الشريفة، الدَّيِّنة، العفيفة، العاقلة لأمورها، المرضية في أخلاقها، المجربة بحسن العقل وكماله، المواتية لزوجها في أحوالها”.
ولا شك أن مسؤولية العناية بتربية الطفل ستصبح أمراً مطلوباً بإلحاح أكثر حين يصبح الطفل جزءاً من الأسرة، فهنا تصبح أمام الأبوين مسؤولية عظيمة لا يمكن لعاقل التفريط فيها، وتتمثل صعوبة العناية بتربية الطفل في أنه قابل لكل ما ينقش فيه لأنه ما زال ورقة بيضاء وجوهرة ساذجة، قال الإمام الغزالي: “الصبي أمانة عند والديه، وقلبه الطاهر جوهرة ساذجة خالية من كل نقوش وصورة، وهو قابل لكل ما نقش، ومائل إلى كل ما يمال به إليه، فإن عُوِّد الخير وعُلِّمه نشأ عليه وسعد في الدنيا والآخرة أبواه وكل معلم له ومؤدب، وإن عُوِّد الشر وأهمل إهمال البهائم شقي وهلك وكان الوزر في رقبة القَيِّم عليه والوالي له”.
وغير بعيد من هذا نجد محمد الحضر حسين يوضح المخاطر الدنيوية والأخروية لإهمال الطفل وتركه في مراتع وخيمة تضر دينه وتفسد عقله وتضيع حاضره ومستقبله، فيقول رحمه الله: “أيها الكفيل إذا ألقيتَ مسؤولية الطفل في مراتع وخيمة أخشى أن يُضاعف لك العذاب ضعفين، تُعذب على تشويه تلك الجوهرة المكرمة عذاباً نكيراً، وتحوز من تلك الجناية العامة نصيباً مفروضاً”، ولا شك أن العناية بالطفل تحتاج معرفة الأساليب التربوية النبوية للطفل واتخاذها كمنهج حياة.
الأساليب التربوية النبوية للطفل
وحين نعود إلى النبع النبوي سنجد أن هناك مجموعة من الأساليب النبوية التي ينبغي الاعتناء بها عند تربية الطفل، وهذه الأساليب تقوم على أسس عديدة ويمكن النظر إليها من زوايا مختلفة، وأولها أسس الأساليب المخاطَب بها الوالدان والمربون، وتتمثل في أمور عديدة منها: صناعة القدوة الحسنة، وتحيُّن الوقت المناسب للتوجيه، والعدل والمساواة بين الأطفال، والاستجابة لحقوقهم، والدعاء لهم، ومساعدتهم على البر والطاعة، وشراء الألعاب لهم، والابتعاد عن كثرة اللوم والعتاب.
وإذا أردنا أن نأخذ القدوة الحسنة كمثال على الأساليب التربوية النبوية للطفل، فإننا سنجد أن الطفل يراقب والديه ومن حوله ثم يقلد ما يراه من أفعال وأقوال، فقد أخرج البخاري عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: بتُّ عند خالتي ميمونة ليلة، فقام النبي ﷺ، فلما كان بعض وقت الليل قام رسول الله فتوضأ من شنٍّ معلق وضوءاً خفيفاً ثم قام يصلى، فقمت فتوضأت نحواً مما توضأ، ثم جئت فوقت عن يساره، فحولني فجعلني عن يمينه، ثم صلى ما شاء الله.
أما النوع الثاني فيتمثل في الأساليب الفكرية المؤثرة في عقل الطفل، ومنها: رواية القصص للطفل وقراءتها، والخطاب المباشر والحوار الهادئ، وتدريب حواس الطفل بالتجارب العملية، وشده إلى شخصية ثابتة قدوة له هو رسول الله ﷺ، ونحن إذا أخذنا رواية القصص للطفل كمثال على الأساليب الفكرية المؤثرة في عقل الطفل سنجد أن السلف الصالح كانوا يقولون إن “الحكايات نجد من جنود الله تعالى يثبت الله بها قلوب أوليائه”، وهناك مجموعة من القصص النبوي التي يستحسن روايتها للطفل، مثل: قصة أصحاب الأخدود، وقصة جريج العابد، وقصة، وقصة أصحاب الغار، وقصة أويس القرني، وقصة الأقرع والأبرص والأعمى.
وبما أن العناية بنفسية الطفل تُعدُّ من الأمور المساعدة في تربيته تربية سليمة، فقد توقف المؤلف مع مجموعة من الأسس المتعلقة بالأساليب النفسية المؤثرة في نفس الطفل، ومنها: صحبة الطفل وإدخال السرور والفرح في نفسه، وزرع التنافس البنَّاء بين الأطفال ومكافأة الفائز، وتشجيع الطفل ومدحه والثناء عليه، وتنمية ثقته بنفسه، والاستجابة لميول وترضيته، وترغيبه وترهيبه.
وإذا أخذنا صحبة الطفل كمثال على الأساليب النفسية المؤثرة في نفس الطفل، فإننا سنجد أن الصحبة تعلب دوراً كبيراً في التأثير على نفس الطفل، ونظراً لأهمية الصحبة كان النبي ﷺ يصحب الأطفال في مختلف الميادين، واقتدى به الصحابة رضوان الله عليه فكانوا يصحبون الأطفال، حيث كان عمر يصحب ابنه، وكان الزبير يصحب طفله إلى المعركة ليتعلم فنون القتال.
بناء شخصية الطفل الإسلامية
بعد أن تعرفنا على مشروعية وأهمية العناية بتربية الطفل ووقفنا على بعض الأساليب النبوية للتربية السليمة، صار من المناسب أن نعمل على توسيع إدراكنا لتلك الأساليب والأسس النبوية من خلال التعرّف على كيفية بناء شخصية الطفل الإسلامية، وإذا كان البعض يعتقد أن بناء شخصية الطفل الإسلامية مسألة سهلة فإن المؤلف استطاع أن يكشف لنا أنها تحتاج منا أن نقوم بجهود جبارة في مجالات عديدة وليس مجالاً واحداً أو اثنين أو ثلاثة، وسنحاول في السطور التالية أن نشير إلى تلك المجالات.
إن أول مجال من المجالات التي ينبغي أن نعمل عليها من أجل بناء شخصية الطفل الإسلامية هو المجال العقدي، وهناك مجموعة من الأسس يمكن من خلالها تحقيق البناء العقدي للطفل، منها: تلقين الطفل كلمة التوحيد، وترسيخ حب الله تعالى ورسوله ﷺ وآل بيته الأطهار وأصحابه الكرام في قلب الطفل، وتعليمه القرآن الكريم والحديث الشريف، وأهمية الثبات على العقيدة والضحية من أجلها، وفي تاريخنا المجيد أمثلة عديدة تصلح أن تكون قدوة للآباء والأمهات والأطفال، فهناك أمهات شجعن أطفالهن على الجهاد، وأخريات فرحن باستشهاد أطفالهن، وأطفال بكوا من أجل الخروج للجهاد، وآباء صحبوا أطفالهم في المعارك.
أما المجال الثاني فهو البناء العبادي ويتضمن جملة أمور، منها: تعليم الطفل الصلاة، وربطه بالمسجد، وتدريبه على الصيام وأهمية الحج والزكاة، ثم تأتي أهمية البناء الاجتماعي للطفل الذي من أهم أسسه: اصطحابه إلى مجالس الكبار، وإرساله لقضاء الحاجيات، وتعويده على سنة السلام، واختيار أصدقاء له من الأطفال، وتعويده البيع والشراء، ولعل من أبرز الأحاديث التي تقدم لنا نموذجاً عملياً من اجتماعية الرسول ﷺ مع الأطفال حديث “يا أبا عُمير ما فعل النغير”.
ولا جدال في أن الطفل بحاجة ماسة إلى البناء الأخلاقي الذي يقتضي تعليمه مختلف أنواع الآداب والأخلاق النبوية للأطفال، مثل: الأدب مع الوالدين، والأدب مع العلماء، وأدب الاحترام والتوقير، وأدب الإنصات أثناء تلاوة القرآن، وخلق الصدق والأمانة، وخلق سلامة الصدر من الأحقاد، والحق أن حديث: “عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: خدمت رسول الله ﷺ عشر سنين، والله ما قال لي أفٍّ قطُّ.. إلخ” يكشف لنا عن مثال عملي من خلق الرسول ﷺ مع الأطفال، كما أن البناء العاطفي والنفسي مسألة أساسية في حياة الطفل، فهو يحتاج: الرأفة والرحمة، والمداعبة والممازحة، والهدايا والعطايا، والمسح على رأسه، وحسن استقباله، وتفقُّد حاله والسؤال عنه.
ولا ينبغي أن نغفل البناء الجسمي للطفل الذي يتضمن: تعلم السباحة والرماية وركوب الخيل والمصارعة والجري، وإجراء المسابقات الرياضية بين الأطفال، كما لا ينبغي أن نغفل البناء العلمي والفكري للطفل، حيث إن من حق الطفل علينا أن نساعده على التعلم وحفظ أقسام من القرآن والسنة، وإتقان اللغة العربية ولغة أجنبية، وأن نختار له المدرِّس الصالح والمدرسة الصالحة، وأن نروي له طفولة علماء السلف في طلب العلم أمام الأطفال، مثل: سفيان بن عيينة، ومالك بن أنس، والإمام الشافعي، والإمام أحمد بن حنبل، والإمام بن الجوزي.
ولا يمكن أن نختتم قبل أن نؤكد أنه من الضروري للآباء والأمهات العناية بالبناء الصحي للأطفال الذي من أسسه: تعويد الطفل على سنة السواك، والاهتمام بالنظافة وتقليم الأظافر، واتباع السنن النبوية في الأكل والشرب، والنوم بعد العشاء والاستيقاظ المبكر لصلاة الفجر، وإبعاد الأطفال عن الأمراض المعدية، ورقية الأطفال من العين الحاسدة والجن. كما أن من المهم أيضاً العناية بالعلاجات النبوية للأطفال التي من أهمها: السرعة في معالجة الطفل المريض وعيادته، والعلاج بالدعاء والرقى والحجامة والمشي، والعلاج من إصابة العين الحاسدة، وتحريم تعليق شيء على الطفل ما لم يكن قرآناً أو حديثاً نبوياً.