إن أسوأ ما يلحق العبد أن يُحرم الرضا، فيمسي ويصبح شاكيا متبرما مما قدر الله له من رزق، أو ما امتحنه به من بلاء، فإنه سبحانه طمأن القلوب في محكم تنزيله برزقه الموصول ورحمته الواسعة، وحسب المؤمن كدًا وانشغالاً دخوله تحت قوله تعالى: {رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ ذَلِكَ لِمَنْ خَشِيَ رَبَّهُ} [سورة البينة:8].
إن طاحونة الاستهلاك التي ألقي فيها المسلم المعاصر طوعا أوكرها أفقدته الإحساس بالرضا، وأرخت على وجوده ستارا من الهواجس والتوقعات المخيبة للآمال، فقلما يفلت اليوم أحد من هوس التملك والذعر المتواصل الذي تخلفه الإعلانات المبثوثة في كل زاوية وركن، لهاث مستعر لتأثيث الحياة بمئات، وربما آلاف المنتجات والسلع التي تتجدد في كل لحظة، وأوهام تمزج السعادة بالتبضع، وترى في القناعة ضربا من الخبل أو العجز عن مسايرة الركب، وما أسوأه من ركب!
لقد فقدنا الرضا.. نعم، لذا يضج واقعنا اليومي بحوادث ووقائع تفجأ السمع وتدمي القلب عمن قرروا وضع حد لحياتهم أو حياة الآخرين، للفرار من جحيم الخرق الذي يزداد اتساعا كل يوم بين هوس التملك وضيق ذات اليد! ولم يعد للأخلاق سموها المعتاد على المادة، فالنزوات والأهواء هي ما يحدث الفارق بين وضع اجتماعي وآخر، كلما أطلقت العنان لرغباتك المجنونة صرت أقرب للنموذج الإنساني الذي يرتضيه دهاقنة الإنتاج والإعلام، أما القيم الأصيلة ودعوات الشرائع السماوية للاعتدال وصون دائرة الروح من العبث، فهي في عرف السادة الجدد مخطوطات تحظى بالتبجيل والتوقير، وتصان في المتاحف خلف زجاج سميك لا يحجب الرؤية، لكنه للأسف الشديد يمنع التجاوب والتمثل الصادق الملهم!
لقد فقدنا الرضا.. نعم، لذا أصبح الخوف من الغد وتقلبات الزمان وقودا يغذي سعينا اليومي للكسب، ويضفي على علاقاتنا وأنماط تفاعلنا داخل المجتمع سمة النفعية المقيتة التي انسحبت أمام ضراوتها قيم الإيثار ونكران الذات ورعاية النبل الإنساني، سُئل يحيى بن معاذ: “متى يطيب عيش المؤمن؟ قال: إذا رضي عن الله تعالى بكل ما قضى وقدر وحكم ودبر”، فالرضا هنا ثمرة وقوف العبد على مراد الله تعالى من البلاء ومر القضاء، وهو مقام لا يبلغه المؤمن إلا حين يصدق في محبته لله، والتسليم لمشيئته فيما لا يدرك العقل كنهه ومغزاه، يقول أبو حامد الغزالي: “إذا ثبت تصور الحب لله تعالى، واستغراق الهم به فلا يخفى أن الحب يورث الرضا بأفعال الحبيب، ويكون ذلك من وجهين: أحدهما أن يبطل الإحساس بالألم حتى يجري عليه المؤلم ولا يحس وتصيبه جراحة ولا يدرك ألمها، وأما الوجه الثاني فهو أن يحس به ويدرك ألمه ولكن يكون راضيا به، بل راغبا فيه مريدا له بعقله وإن كان كارها بطبعه” (1).
ولعل مما تضيق به صدور الخلق اليوم ما ينشأ عن حيرة العقل أمام قسمة الأرزاق، والافتتان بما يتقلب فيه كثير من أهل الباطل من رغد العيش وبحبوحته، وهي حيرة يغذيها الجهل بحكمة الخالق المبثوثة في ثنايا الإنعام الدنيوي، والتي تتراوح بين التفضل والاستدراج، والرضا ثمرة يقين المؤمن بأن قضاء الله تعالى له خير من قضائه لنفسه، فيُحكم زمامها حتى لا تثير نوازع السخط والتذمر، أو تستحث صاحبها على الانسلاخ من الطاعة، ولابن القيم في هذا الباب معنى لطيف إذ يقول: “أول معصية عُصي الله بها في هذا العالم إنما نشأت من عدم الرضا، فإبليس لم يرض بحكم الله الذي حكم به كونًا من تفضيل آدم وتكريمه، ولا بحكمه الديني من أمره بالسجود لآدم، وآدم لم يرض بما أبيح له من الجنة، حتى ضم إليه الأكل من شجرة الحمى، ثم ترتبت معاصي الذرية على عدم الصبر وعدم الرضا” (2).
وحين تتشرب النفس معاني الرضا يستوي لدى صاحبها إقبال الدنيا وإدبارها، ويلهج اللسان بحقيقة التوكل التي يسكن معها القلب ويرتاح من عبادة الأسباب، فإن مما يُورث اليوم مظاهر الحزن والهم مخالفة أفعال الناس لمنطوقهم، وادعاؤهم الوقوف على حقيقة الرضا والتوكل والمحبة، بينما تضج أوصالهم بالشكوى، وتذهل عقولهم عند ورود بلاء يُذهب عنهم الرجس أو يرفع الدرجات، ومما رُوي عن شقيق بن إبراهيم رحمه الله أنه قال: “وافقني الناس في أربعة أشياء قولا وخالفوني فيها فعلا، قالوا: إنا عبيد لله تعالى ويعملون عمل الأحرار، وقالوا: إن الله كفيل لأرزاقنا ولا تطمئن قلوبهم إلا مع شيء من الدنيا، وقالوا: إن الآخرة خير من الدنيا وهم يجمعون المال للدنيا والذنوب للآخرة، وقالوا: لا بد لنا من الموت وهم يعملون عمل أقوام لا يموتون!”. إن أسوأ ما يلحق العبد أن يُحرم الرضا، فيمسي ويصبح شاكيا متبرما مما قدر الله له من رزق، أو ما امتحنه به من بلاء، فإنه سبحانه طمأن القلوب في محكم تنزيله برزقه الموصول ورحمته الواسعة، وحسب المؤمن كدًا وانشغالاً دخوله تحت قوله تعالى: {رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ ذَلِكَ لِمَنْ خَشِيَ رَبَّهُ} [سورة البينة:8].
1ـ أبو حامد الغزالي: إحياء علوم الدين ج 4. مؤسسة كرياطة فوترا. أندونيسيا د.ت. ص 337
2 – ابن قيم الجوزية: مدارج السالكين ج 1. مؤسسة المختار للنشر والتوزيع.القاهرة 2001. ص 600