القبر وسؤاله ونعيمه وعذابه من المواضيع التي تشغل الكثير من الناس، لأنها ترتبط بما يحدث للإنسان بعد موته في المرحلة التي تُعرف بعالم البرزخ. ومن أهم ما كتب في هذا الموضوع كتاب “الروح” للإمام ابن القيم، الذي عرض فيه قضايا متعددة حول الروح وعلاقتها بالجسد بعد الموت، وسؤال القبر وما يتبعه من نعيم أو عذاب.

عالم البرزخ وسؤال الروح

في كتابه “الروح”، يطرح ابن القيم تساؤلاً هاماً حول ما إذا كانت الروح تعود إلى الجسد في القبر وقت السؤال من قبل الملائكة. وقد جعله عنوانًا للمسألة السادسة. ويستند في إجابته إلى حديث البراء بن عازب، وهو حديث طويل وموضع الشاهد فيه: “فتعاد روحه في جسده”. ثم تسأله الملائكة ويرد عليها، وهذا بالنسبة للمؤمن والكافر. ويذكر ابن القيم أن هذا يمثل إجماع أهل السنة والجماعة وسائر الطوائف على عودة الروح إلى الجسد عند السؤال.

ثم ينقل ابن القيم مذهب ابن حزم الذي يخالف هذا الرأي، ويرى أن الميت لا يعود له الحياة في قبره قبل يوم القيامة. ابن حزم يستدل بما يلي:

  1. قوله تعالى: {قَالُوا رَبَّنَا أَمَتَّنَا اثْنَتَيْنِ وَأَحْيَيْتَنَا اثْنَتَيْنِ} [غافر: 11]، ويستنتج ابن حزم  أن الميت لو كانت له حياة في  قبره  لكن معنى هذه الآية: أن الله تعالى أماتنا ثلاثا وأحيانا ثلاثا، وهذا يخالف ما دل عليه القرآن واستثنى منهم عدة حالات، منها: الذين قال الله لهم موتوا ثم أحياهم ،وانتهى إلى أن أرواح جميع البشر لا ترجع إلى أجسادهم بعد أن تنزع منهم إلا يوم القيامة.
  2. رؤية النبي لأرواح أهل السعادة والشقاء ليلة الإسراء.
  3. خطاب النبي لقتلى المشركين يوم بدر قبل أن تكون لهم قبور. وأعلمنا أن أرواحهم سمعت قوله، أما الجسد فلا حس له بدليل قوله تعالى: {وَمَا أَنْتَ بِمُسْمِعٍ مَنْ فِي الْقُبُورِ} [فاطر: 22]، يعني الأجساد.
  4. عدم صحة أي حديث يفيد عودة الأرواح إلى الأجساد عند سؤال القبر، ولو صح لقال به ابن حزم. ويذهب إلى أن حديث البراء بن عازب قد تفرد به راوٍ ليس بالقوي، ترك الرواية عنه شعبة وغيره، وسائر الأخبار الثابتة على خلافه.
  5. أقوال الصحابة التي صحت نسبتها إليهم، ومنها قول ابن عمر: “هذه الجثث ليست بشيء وإن الأرواح عند الله”.

مناقشة ابن القيم لرأي ابن حزم

بعد أن استعرض الإمام ابن القيم رأي الإمام ابن حزم وأدلته، بدأ في مناقشته وقرر أن فيه حقًا وباطلاً. ومن ذلك تخطئته لمن يقول بحياة الميت في قبره مطلقاً، حيث يرى ابن القيم أن الباطل هو القول بأن الميت في قبره يحيا الحياة التي كان يحياها في الدنيا، والحق أنه يحيا حياة مخصوصة يتمكن بها من سماع سؤال الملائكة والرد عليهم.

أما استدلال ابن حزم بقوله تعالى: {قَالُوا رَبَّنَا أَمَتَّنَا اثْنَتَيْنِ وَأَحْيَيْتَنَا اثْنَتَيْنِ} [غافر: 11] على نفي إعادة الأرواح إلى الأجساد في القبر للإجابة على سؤال الملائكة، فيرى ابن القيم أن هذه إعادة عارضة لا تدل على تعلق دائم بالجسد، مثل إعادة روح قتيل بني إسرائيل ليدل الناس على من قتله ثم موته مرة ثانية.

ثم ذكر ابن القيم أن الروح تتعلق بالبدن في خمس مراحل: وهو جنين، وبعد خروجه من بطن أمه، وفي حال النوم، وفي البرزخ، وفي يوم البعث، وهو أكملها وأتمها.

استدلالات أخرى وردود

وأما استدلال ابن حزم بقوله تعالى: {اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِهَا وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِهَا فَيُمْسِكُ الَّتِي قَضَى عَلَيْهَا الْمَوْتَ وَيُرْسِلُ الْأُخْرَى إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى} [الزمر: 42]، فيرى ابن القيم أن الله تعالى يمكن أن يمسك التي قضى عليها الموت ويردها إلى جسد الميت في وقت ما بشكل يختلف عن الحياة الدنيا. كما أن حياة النائم تختلف عن حياة المستيقظ، فكذلك الميت إذا أعاد الله تعالى إليه روحه كانت له حياة متوسطة بين الحي والميت الذي لم ترد إليه روحه.

أما استدلال ابن حزم بإخبار النبي عن رؤية الأنبياء ليلة أسري به، فقد زعم بعض أهل الحديث أن النبي قد رأى أشخاصهم وأرواحهم، فهم أحياء عند ربهم. ويرى آخرون أن ما رآه النبي هو الأرواح دون الأجساد، فالأجساد في الأرض قطعاً ولا تنشق الأرض عنها إلا يوم القيامة حتى لا تكون هناك موتة ثالثة، وحين تبعث أجساد الأنبياء من القبور تذهب للجنة ولا تعاد إلى القبر مرة ثانية. ولن يدخل الأنبياء الجنة حتى يدخلها نبينا وجثمان نبينا لا زال في الأرض مع الاتفاق بأن روحه الشريفة في الملأ الأعلى مع أرواح الأنبياء. ولا غرابة في ذلك؛ فشأن الأرواح غير شأن الأبدان، فإن الأرواح تصعد إلى ما فوق السموات ثم تهبط في زمن يسير بالمقارنة بحركة البدن.

وأما الرد على استشهاده بقوله تعالى: {وَمَا أَنْتَ بِمُسْمِعٍ مَنْ فِي الْقُبُورِ} [فاطر: 22] على عدم حياة من في القبور، فهذا تشبيه للكافر الميت القلب بمن في القبور من حيث الانتفاع بسماع الهدى والخير. وقد أخبر النبي أنهم يسمعون صوت نعال المشيعين فقال: “العَبْدُ إِذَا وُضِعَ فِي قَبْرِهِ، وَتُوُلِّيَ وَذَهَبَ أَصْحَابُهُ حَتَّى إِنَّهُ لَيَسْمَعُ قَرْعَ نِعَالِهِمْ”. وشرع السلام على أهل القبور، فهذا دليل على أن لهم حياة من نوع خاص.

أما رده للحديث بسبب ضعف أحد رواته، فقد قرر الإمام ابن القيم أن الحديث ثابت مشهور صححه جماعة من الحفاظ وجعلوه أصلاً في عذاب القبر ونعيمه وسؤال الملكين. ولو تركنا حديث البراء، فسائر الأحاديث الصحيحة صريحة في إثبات ما يحدث في القبر من سؤال ونعيم وعذاب.

ونقل قول شيخ الإسلام بصحة الأحاديث الصحيحة المتواترة الدالة على عودة الروح إلى البدن وقت السؤال، ونقل قول من قال: بأن السؤال متوجه إلى البدن دون الروح؛ لأنها إذا خرجت لا تعود إلى يوم البعث. كما نقل قول من قال: السؤال للروح دون البدن، وقرر خطأ كلا الرأيين.

نعيم وعذاب القبر

ثم ينتقل ابن القيم رحمه الله إلى مسألة أخرى وهي وقوع النعيم والعذاب على البدن وحده أو الروح فقط أو عليهما معاً. ونقل قول شيخ الإسلام بوقوع النعيم والعذاب على البدن والروح أحياناً بشكل منفصل وأحياناً بشكل متصل. وأشار إلى أن الأمر في القبر يشبه الدنيا؛ فكما أن في الدنيا لذات بدنية فقط وأخرى روحية فقط وثالثة بدنية روحية، فالأمر كذلك في القبر.

وهناك من ينكر بعث الأجساد بعد الموت ويذهب إلى أن النعيم والعذاب في البرزخ للروح فقط، وآخرون يذهبون إلى أن النعيم والعذاب في البرزخ للروح فقط وبعد البعث للروح والبدن. وهناك من ينكر نعيم القبر وعذابه بناء على أن الروح لا تبقى بعد فراق البدن.

والحق أن الروح والبدن في نعيم أو عذاب منذ الموت وسكراته وحتى تصل لمستقرها في الجنة أو في النار. وقد ثبت عذاب القبر ومسائلة منكر ونكير للميت بالأحاديث الصحيحة الكثيرة المتواترة، منها: مرور النبي على قبرين وإخباره أنهما يعذبان؛ أحدهما بسبب عدم الاستبراء من البول والآخر بسبب مشيه بالنميمة. وأمر النبي أصحابه بالاستعاذة من عذاب القبر بعد الفراغ من التشهد وفي دعائهم في كل وقت.

وأحاديث سؤال الميت في قبره كثيرة أيضاً وهذا ما اتفق عليه أهل السنة. قال المروزي: قال أبو عبد الله: “عذاب القبر حق لا ينكره إلا ضال أو مضل”. وكذلك نعيم القبر، وهذا يحدث لكل ميت سواء وضع في قبر أو غرق في الماء أو احترق أو غير ذلك من الحالات التي لا نجد فيها جثة الميت.

خلاصة

إن أحوال الإنسان في القبر من الغيب الذي لا يمكن أن نطلع عليه ولا نصل إلى علم ما فيه إلا إذا جاءنا خبر عن الله تعالى أو عن رسوله . وعلينا أن نسعى لكي تكون حفرة القبر روضة من رياض الجنة ولكي يوسعها الله تعالى لابد أن نوسع على الخلق وأن نسعهم في قلوبنا.